رامبو وأبو عضل وبدلات كاكيّة مُرقّطة؛ تنتج الحرب ذكورها، مع بنادق يتباهون بها وكأنّها امتداد لعضوهم. ثم يأتي أدب الحرب: أبطال ذكور، نساء في الخلفية، تطبيع مع الاغتصاب… فيُعيد إنتاج صورة الذكورة إيّاها. بين تاريخ الحرب وأدبها، يبحث سمير سكيني عن صورةٍ لذكورة مُغايرة، دون أن يجدها، قبل أن يتبيّن أنّها موجودة بالفعل ولكن في مكانٍ آخر، تأخّر في الوصول إليه.
ماذا عن الكتائبي الذي اقتادوه مُكبّلاً إلى أرض جلّول وأقعَدوا «أشبال المقاومة» حوله في دائرة؟ أمرَ المسؤولُ أطفالاً في العقد الأوّل من عمرهم أن يتناوبوا على تعذيبه والتنكيل بجثته: الأصابع، الأُذنان، الجِلد…
ثم قال: هكذا يُرَبّون رجولتهم.
تأتي الحرب مع ذكورها.
لحمٌ حَيّ يعمل في الحرب، يصنعها وتصنعه بالتوازي. الزند. اليد. العروق. العَرَق. الدَم.
يُساهم المقاتلون في إنتاج الحرب، فتُنتج الحرب مُقاتلين — وأشياءَ أخرى. يتّكئ الحديد على فخذهم. يفركون البنادق حتّى تلمع. أثر الحزام على جلدهم. أحياناً، يلمّ الرفاقُ أشلاء الرفاق، ويتَّحد اللحمُ باللحمِ.
إنّه العام 1975.
تتسابق الشلّة على بالة الألبسة. يختار الشباب بزّات مستَوردة من حرب الفيتنام أو «الدول العربية التقدّمية». يختارون أسماء لتُدرَز على الطواقي: رامبو/ بو عضل/ أبو الجماجم. أسماءٌ بها هَيبة، مهيوبة. يختصر آخرون المسافة، رصاصةٌ من مسدّسهم تساوي حكم الله بعباده، فيختارون: المطران/ الأبونا/ الشيخ/ أو حتّى، أبو الله. كانوا شباب الحي. صاروا ميليشيا الحي. ثم التنظيم. ثم الجناح العسكري للحزب.
تأتي الحرب مع ذكورها.
ويأتي ذكورها، بديهياً، مع «ذكورَتِهم». ينطلق السباق على موقع «الدَكَر» — كلفظةٍ مُذَكَّرة لكلمة «ذكر». بالعامية نقول: عامل دَكَر. «عامل»، فهو أمرٌ يُنتَج، يُصنَع. له قواعد وشروط وآليات عمل. من لا يخضع لها، يُنفى خارج دائرة الذكورة.
إنّه العام 1990.
يقولون أنّ الحرب الأهلية أرخت أوزارها (لاحظوا، هذا التعبير الأدبي الرَّصين). ازدهر أدب الحرب. فاليوم ليس مطلوباً من الرواية أن تتنبّأ، ولا أن تُحرّض، ولا أن تحرّك عجلة التاريخ. المطلوب أن تروي فقط، ببساطة وبلا تكلّف. ازدهر أدب الحرب. وبعد حين سوف يُشكّل مجموع هذه الروايات صورتنا الأدبية للحرب.
اللافت أنّ معظم روّاد هذا الخندق كانوا من اليساريّين التقدّميين، ومع ذلك، فإنّهم تقَيّدوا بقواعد وشروط وآليات عمل الذكورة التي عمّمتها الحرب، الحرب نفسها التي ينتقدون. لم يتكبّد أحد عناء البحث أبعد من السائد أو الاجتهاد لتمتين المُهمَّش. وكأن البلد لم يعرف يوماً رجالاً أو نساءً خالفوا قوالب الحرب.
في هذا النَّص، مُراجعة لصورة الذكر النمطية التي خلقتها الحرب، وطرق تمثيلها. تبدأ المراجعة بالمرويّات أي، التاريخ الشفهي والسيَر الذاتية، لتنتقل إلى عالم الرواية والأدب المكتوب. يُناقش النَّص ذكورة المقاتلين، وأزمتها. وينتقل، تدريجياً، من مراجعة الحرب إلى مُساءَلة أدب الحرب، وأزمته.
ثلاثة ملامح عامّة لذكورة الحرب
1. معموديّة الدم
كان يستحيل على ذلك الوضع أن يستمرّ طويلاً على ما هو عليه، فقبِلوا بي أخيراً رفيقاً في السلاح. غير أنّهم طلبوا منّي على سبيل برهنة أهليّتي، أن أقتل سجيناً بيدَي العاريَتَين [...] فوافقتُ على ذلك، شرط أن يكون السجين مستحقّاً الموت فعلاً.
فاقترحوا علَيّ سجيناً. وبعد أن قرأتُ ملفّه، حملت خنجراً وقتلته من غير أن يرفّ ليَ جفنٌ. فيما رفض أحد الرفاق في القوّات اللبنانية استخدام السلاح الأبيَض حين تمّ اختباره بالطريقة عينها، فأفرغ رشّاشه في جسم ضحيّته [...]
«فقدتُ عذريتي» ذلك اليوم الذي قتلت فيه بدمٍ بارد.
— أسعد الشفتري، من سيرته الذاتية «الحقيقة ولو بصوتٍ يرتجف»
«فقدتُ عذريتي» تعبيرٌ بديع في هذا السياق، ولا حاجة إلى نبشٍ عميقٍ لتفسيره. هو أوضح تعبير عن منطق الذكورة في زمن الحرب. اعتاد المُقاتلون الكلام على «معمودية النار»، وهي أوّل معركة يخوضها الفرد بشراسةٍ وينجو، فيُتَوَّج «مُقاتلاً». لكن «معمودية الدم» شيء آخر، أعلى مرتبةً، فالقتل مع التحديق في وجه المقتول أصعب من تراشق الرصاص عبر الخنادق.
كما يورد الشفتري، كان هذا اختبار (الحرب) الأهلية الحقيقي. في سياقٍ «عادي»، يدلّ مصطلح «فقد العذرية» على ذكورةٍ مأزومة، فهي تَقيس «أهلية» المرأة بفرجها وغشائه، والخُرافات التي من شأنها إخفاء دافع الرجال في كبت وقمع النساء والهيمنة على أجسادهنّ. أمّا في سياق الحرب، فيصير الذَكَر أيضاً موضوعاً لهذا المصطلح. اخترعوا عذريّةً ثانية من نمطٍ آخر: ألّا تكون قد قَتلت، بعد.
المُختلف، أنّ «العذرية» الأولى تُربَط (جزئيّاً) بالولادة، أمّا الثانية، بالموت.
وجه الشبه، أنّ فضّ العذريتَين يُؤَكَّد بالدم، وأنّ العنف هو الوسيلة ولو اختلفت أشكاله.
اللافت، أنّ موضوع فقدان عذريّة الرجل في زمن الحرب هو رجل آخر، شبيهه ومنافسه، فيما أشكّ أنّ مقاتلاً استخدم نفس التعبير لوصف قتله امرأة، إنّما أُرجّح أن معظمهم استخدموه لمّا قتلوا رَجلهم الأوّل.
بلغة صاحب الشهادة، إن حدّدنا من «فقَدَ عذريّته» في زمن الحرب، فإنّنا نُحدّد، تلقائياً، «العذارى»: أولئِكَ الذين لم يَقتُلوا. لدينا هنا أولى قواعد وشروط ذكورة الحرب.
2. الرجل الذي لا يبكي
كنّا أربعة رجال، لم يُصَب منّا أحد، لكن بالفعل، كان هناك شخص لم يتمكّن من العبور. كان المشهد قاسياً، تسمّرت قليلاً، جاهدتُ كي أخفي دموعي. «الرجّال ما بيبكي» قلُت في قرارة نفسي. هذا ما جرى: لم نتوقّف عند المنزل ذلك اليوم/ لم أُلاعب ذاك الطفل الذي أخبرتك عنه، الحلو، الأشقرانيّ/ ما كان منه إلّا أن تبِعنا [...] كان هو من أصابه القنّاص بعد أن عبرنا الساحة/ رأيته يهوي أرضاً/ رأيته يرتعش/ رأيت بقعة الدم تتّسع تحته/ لم أبكِ.
— شهادة زياد صعب، من كتاب «نهار أحد»، سمير سكيني
ينتمي زياد للقلّة التي نقدت ذاتياً وبشكلٍ شامل الحرب وتجربتها في الحرب. ألومه أحياناً أنّ نقده أقسى من المطلوب. في هذا الاقتباس، يفكّك زياد مباشرةً واحدة من آليات عمل الذكورة: «جاهدتُ كي أخفي دموعي. الرجّال ما بيبكي».
معمودية الدم لم تكن تنتهي عند القتل واستسهال القتل. التحكّم بردّة الفعل أمام فعل القتل كان جزءاً من هذه الطقوس. تخسر نقطة لمّا تبكي الموت. أمّا كبت الألم، فيمنحك نجمةً ذهبيةً على جبينك. لم ينتبه المقاتلون أنّهم كانوا «يكبتون» وأنّ الكبت لا يحذف الألم، بل يستدخله في الذات.
أحلم مراراً أنّه كبر وأصبح شاباً. أغلب الظن أن شعره ما كان ليبقى أشقر. ربّما أحمل معي هذه القصّة حتّى الآن لأنّني كبتُّ مشاعري ولم أبدِ أي ردّة فعل. بقيت بارداً من الخارج. فأنت في موقع مسؤولية وترأس مجموعة عسكرية وأهل الحي يرون فيك بطلاً، تبكي؟ تحزن؟ لا! بإمكانك أن تغضب فقط. لكنّنا في نهاية المطاف، كنّا فتياناً لا أكثر، ممّا اضطرّنا أن نتصنّع أدواراً ومظاهر في معظم المواقف. وهذا بدوره يؤدّي إلى أذى داخلي. تتفاقم المشكلة، ويتحوّل عدم التعبير عن المشاعر تدريجياً إلى نوع من عدم التعبير عن الأفكار. تتجرّد عندئذٍ من صفة الإنسان فيك. تصبح آلة. آلة حرب.
— شهادة زياد صعب، من كتاب «نهار أحد»، سمير سكيني
ينتقي زياد كلماته بعناية: «كنّا فتياناً لا أكثر، ممّا اضطرَّنا أن نَتَصنّع أدواراً ومظاهر». كانت الذكورة تُصنَع. لم تكن حالةً «طبيعية». ولا تنتهي صناعة الذكورة دون صناعة الصورة المُقابلة لها: «الرجل الذي يكبت/ المرأة التي تبكي»، بل التي تَفيض بُكاءً حدَّ الولولة. مَن تسقط منه دمعة في زمن الحرب تسقط عنه صفة الرجولة.
وعلى هذا الأساس صار إلى تصوير الرجال كمُمَثّلين حصريّين للعنف. والمرأة، إن دخلت ميدان الحرب، فإمّا أن تُحقَّر إلى مصاف لفّ السندويشات، أو تُرقّى إلى سبيل التأليه والأيقنة والفيتيشية، وقد وَظّفت الأحزاب الخيارَين في إظهار «تقدّميتها» والتزامها الوطني.
بالتوازي، صُنعَت صورةٌ للأنوثة تتماثل مع فَيض المشاعر والنسبةِ من الذكر المُنخرط في عالم الحرب: أُمّ الشهيد، أُمّ الفقيد، زوجة المسؤول… من دون أن نقرأ يوماً، مثلاً، عن جمعيةٍ لآباء المفقودين، أو عن أزواج المُقاتلات. كما ندُرت القراءة عن النساء «المُقاتلات العاديات»، الموجودات ما بين لفّ السندويشات والتأليه. حرَصَ التاريخ المكتوب على إخفاء هذه الفئات، علماً أنّنا نقابلها دورياً عند الاستماع لتاريخ الحرب الشفهي: نسمع عن رجالٍ بكوا، وعن نساءٍ ناضلن أو نكّلنَ بالجثث. من المُفيد إذاً مُتابعة النمط الذكوري في التأريخ المكتوب للحرب، مُقابل التأريخ الشفهي كأداةٍ نسوية في إعادة سرد التاريخ.
في الشهادة المذكورة، فكّك زياد آليات الكبت بعد عقودٍ على تطويرها، كمسؤولٍ عسكري خلال الحرب. لا عجب أن راوده الحادث في أحلامه، ملعب اللاوعي. يروي المقاتلون دورياً عن كوابيس تراودهم حتّى اليوم، وهذه غرامة الكبت. لكن للكبت مكافأة أيضاً: الترقّي على درب البطولة.
3. السلاح بَطَلاً، وحامله أيضاً
«تاع يا نسيم — غِبّ الطلب!». هكذا كانت الحرب. ولم أُبدِ أي انزعاج أو تردّد، بل العكس، كنت مبسوطاً. جميل أنْ يُصفّق لك الناس، «إجا البطل راح البطل… إجا القبضاي راح القبضاي»، كل هذا جميل!
في السابق كنت أقضي النهار كلّه في الشارع ولا من يسأل ولا من يحزنون، أما الآن فتنهال عليّ السلامات يمنة ويسرة. «الله معك! الله معك! يا بطل، يا قبضاي!». لا تعتقد أن الموضوع بهذه البساطة. كان أمراً هامّاً جداً.
— شهادة نسيم أسعد، من كتاب «نهار أحد»، سمير سكيني
كانت البارودة مغرية. فعدا عن قيمتها الأساسية كأداةٍ للقتال، أعطت البارودة قيمةً مُضافة لحاملها: قيمة الرجولة (أو الزعرنة). بين ليلةٍ وضُحاها يمكن أن تنتقل من كومبارس في المجتمع إلى دورٍ رئيسي، فقط لاقتناء بارودةٍ تلمع. عرض مُغري، لأ؟
اصطلح المقاتلون أن يتعاطوا مع بارودتهم كالعشيقة. يقولون بالحرف أنّها «متل صاحبتك: بتهتم فيها، بتنضّفها، بتلمّعها، بتاخدها معك عالحمام، وبالليل بتنام معها»! وذلك بعد ما تعلّموه في دورات التدريب، حيث يحاول المسؤولون سلب المتدرّبين بواريدهم دون انتباه، ولو نَجحوا، ينال العسكري عقوبةً لقلّة مسؤوليّته. كان عليه أن يتصرّف كأنّه والسلاح واحد. أن يتماهى معه كلّياً.
أمّا حبيقة، فكانت شيمته رباطة جأشٍ لا تُضاهى. يوم السبت الأسود، ارتكب حبيقة مجزرة وحده. كان يُلقَّب HK نسبةً إلى رشّاش من العيار المتوسّط لم يتيسّر إلّا لقلّة، حمله وإطلاق النار منه، ومن هذه القلّة حبيقة.
— جوزيف سعادة، من سيرته الذاتية «أنا الضحية والجلّاد أنا»
صارت البارودة امتداداً للمقاتل، عضواً من جسده، لا مجرّد أكسسوار. ولم تكن البارودة مرادفة لأيّ عضوٍ من الجسد، بل تحديداً هيداك العضو، ما غيره. غالباً ما كانت تُنسج العلاقة بين فعاليّة السلاح وفحولة صاحبه، حتّى إذا غابت القطعة غابت معها ذكورة الرجل. فماذا عن الرجال الذين امتنعوا عن حمل السلاح؟
ثلاث دوائر تُحيط بنواة الذكورة
حدّدنا إذاً ملامح عامة لذكورة الحرب. هذه هي النواة. هناك يجلسُ الرجال الرجال، الفحول. حَولهم في مراتب أدنى يتدرّج الآخرون. تجدر الإشارة إلى أنّ حتّى هذه النواة بِها درجات: مَن قَتَل أكثر، من سلاحه أكبر، من ناك أكثر، من تعاطى أكثر قبل هذه المعركة أو تلك… المُنافسة مُحتدمة داخل النواة؛ ماذا عن الدوائر المُحيطة بها؟
1.محاربون بِلا سلاح
ما كَنش يعرف يقوّص [مُرفقةً بضحكة]، كنّا نسمّيهم «تبع الكتب». أو «تبع البدلات» لأن كانت تضل تيابهم مرتّبة.
سمعتُ هذا التعليق في حديثٍ مع مُقاتلي الشياح «إيّام العز»، حيث كان والدي من شباب المنطقة الفاعلين، إلّا أنّه لم يحمل يوماً السلاح. هذا ما أعرفه بحسب روايته هو عن الحرب. كانت هذه الرواية موضع تشكيك من جهتي: كيف لـ«دَكرٍ» عاش الحرب أن يتجنّب حمل السلاح؟
كان صعباً علَيّ، نظراً لمُحيطيَ الاجتماعي، أن أتخيّل هذه الإمكانية. أمامك سلاح، تحمل السلاح. كانت المعادلة بهذه البساطة. لمَ لا؟ كيف لا والشخص المعنيّ منخرط في السياسة في منطقةٍ هي نفسها خط التماس؟ كبرتُ على قناعةٍ بأنّ والدي يخفي عنّي فصلاً من مشاركته في الحرب، فصلاً نارياً على الأرجح.
ثم دقّقتُ روايته عبر تقاطع روايات أصحاب الزمن القديم. ووجدتُ أنّه بالفعل، لم يحمل السلاح. اللافت أنّ حاملي السلاح يثيرون الموضوع بشكلٍ تهكّمي. «كنّا نسمّيهم تبع الكتب»، ثم يلفظون كلمة «مُثقَّف» بشيءٍ من التعالي. «تبع البدلات»، حتّى لو لم يرتدوا بزّات رسمية.
خلَقَ حضور السلاح أو غيابه شرخاً بين الذكور: أبعدَ الممتنعين خطوةً عن نواة الذكورة المركزية.
ما أنقذ والدي (من أن يكون عرضةً للتحجيم والتهكّم من قبل باقي الذكور، كونه لم يحمل السلاح)، هو أنّه كان منخرطاً في حربهم بأشكالٍ أخرى، تحديداً عبر التطوّع في العمل الطبي والمستوصفات، وبمراحل أخرى عبر العمل الثقافي/ الاجتماعي. كان يحرص قادة الأحزاب على إيلاء العمل الثقافي الاجتماعي أهميّةً قصوى في بناء حزب الطبقة العاملة كامل الأوصاف. كانوا يقولون من يوزّع جريدة الحزب يُقاوم بقدر من يخطّط للعمليّات. لكنّي أشكّ في أنّ هذا المنطق انعكس بشكلٍ سليم في صفوف القواعد الحزبية، تحديداً لجهة المقاتلين.
2. لا سلاح ولا حرب
استطاع بعض الرجال إذاً التعويض عن عدم حمل السلاح بشعار «تنويع أشكال النضال»: التطوّع الطبّي حتّى في دائرة «أشكال النضال المتعدّدة» توجد مراتب، فالمتطوّع الطبّي أكثر إفادة للمقاتل من المثقّف والفنّان والإعلامي… المتطوّع الطبّي قد أثبت بدوره أهليّةً في قدرته على التعامل مع الجثث والدم، وهذا كافٍ لرفعه مرتبةً، فيما أيدي المثقّفين نظيفة. ، الثقافة، الفن… لكن ماذا عمّن قال ببساطة لا؟ لا، لا أُريد أن أُشارك بهذه الحرب، لسببٍ أو لآخر. لا نُناقش هنا المعنى السياسي لقرار عدم المُشاركة، بل تأثير هذا القرار على كيفية تمثيل الرجل بين أترابه، وتمثيل ذكورَته بالتحديد.
صار عندنا إذاً نواة الذكورة، وقد أوردنا ثلاثة ملامح عنها في مطلع المقال. ثمّ دائرة تُحيط بالنواة، وهي المُنخرطين بالحرب دون سلاح. ثم دائرة تُحيط بهؤلاء، وهم «العاديّون»؛ أولئك الذين جعلتهم الحرب معياراً لـ«كيف يجب ألّا تكون» لكَي تُحسَب «دَكَراً».
وأُولئِك كُثر.
هم الأب الذي خاف على أولاده، وما أراد أن يمسّهم شرّ
وإن مات الولد، لا سمح الله، يرتقي الوالد تلقائياً إلى درجةٍ أعلى على سلّم الذكورة. فهو الآن «بَي الشهيد» أو «بي الفقيد»، أي أنّه انخرط بالحرب — ولو بالوكالة.
. هم الرجال الذين — كردّة فعل طبيعية عند القصف — قصدوا الملجأ، لا المتراس. هم الذين أجبرهم المسلّحون على النزول من السيارة على الحاجز، وبعثروا أغراضهم بالأرض، وصفعوهم على وجههم أو بصقوا عليهم — أمام العائلة. هم الذين انتظروا في طابور الخبز، دون تشبيح. هم الذين أُذلّوا، لأنّهم تنقّلوا بلا فردٍ على خاصرتهم. هم الذين ما صادروا شققاً مهجورة ولا مسكونة، وما استفادوا لا من «الثورة» ولا من «الشرعية». هم الرجل العادي جداً جداً جداً والذي — تحت وطأة ذكورة الحرب — صار أدنى من رجلٍ بمرتبة.
ولمّا كنت أستصعب فكرةَ «رجلٍ لم يُقاتل في زمن الحرب»، تطلّبني الكثير من الوقت كي أُدرك أنّ عدم حمل السلاح يتطلّب، أحياناً، شجاعةً أكبر بكثير من شجاعة حمله.
تعليق من المحرّر:
في شي متسرّع بهالخلاصة. ممكن مكانها بآخر النص، مش بأوّله. والتسرّع، برأيي، نابع من إنه هالقناعة هي انفصام بالحقيقة، بين قناعة بأنه «عدم حمل السلاح بدو شجاعة» وبين الإحساس يلي بيجي معها ويلي هو إحساس بفقدان الرجولة. القناعة ما بتلغي إنو ثمنها غالي، وهيدا الانفصام مهمّ يبيّن. بس شوف إعجاب «التقدّميين» بتاريخ الحرب وأغاني الميليشيات وقبضايات الحزب تتحسّ قديش بعدنا، ولو مقتنعين إنّو «عدم حمل السلاح بدو شجاعة»، بنيتنا العاطفية بعدها بتفهم الرجولة بهالطريقة. بركي بس المطلوب الواحد يطلّع هالانفصام على الواجهة.
جواب من الكاتب:
انه ايه بالنهاية في موروثات تقيلة وبشك نخلص منها نهائياً. كل جيلنا مفعوط بأغاني الحرب و«لاح العلم الأحمر لاح» وكوينا الزيتي وإلخ. فأكيد في تناقض بين إنّه هيك جَو بيجذبك وبين إنك تقول بديش انخرط فيه. وبين انّك عارف انّه عدم الانخراط فيه بده «ينتقص من قيمتك» بالمعايير العامة، وبالتالي بدّه شجاعة. ونظراً لثقل الموروثات والمعايير العامة، بيصير بدّك تبرهن رجولتك بشي طريقة تانية، انه بدك تلاقي تعويض بشي محل، بس عالقليلة بلا ما تقتل حدا تاني.
فالخلاصة مش تسرّع واستباق لمسألة رح أوصلها لاحقاً بالتحليل، بقدر ما هي تقييم لواقع الناس الي أخدوا بوعيهم قرار عدم الانخراط بالحرب هنّي وعارفين التبِعات الاجتماعية لهيك قرار.
مش عارف اذا جاوبتك.
اللافت أنّنا وصلنا إلى كل هذه الدوائر التي تبتعد بالتدرّج عن نواة الذكورة النمطية، دون أن نتطرّق حتّى إلى جنوسة الرجل، المُفترض أنّها أبرز معايير تحديد الذكورة. فماذا كان يحدث هناك؟
3. بحثاً عن ذكورٍ مُغايرين
إلى هذا الحد، استندَت المُراجعة أساساً على قصصٍ «غير رسمية» من زمن الحرب، إمّا حكاها مقاتلون سابقون، إمّا وردت في أدب الحرب. جمعتُ إذاً النماذج الواردة في الروايات والمرويّات، وأعدت ترتيبها ضمن «مروحة الذكورة» هذه، فقط كي يتبيّن أنّ هذه المروحة تنفي نماذج وُجِدَت بالفعل في زمن الحرب، دون أن ترد في أدبها؛ أو ترد به تحت تأثير حكمٍ أخلاقي يطلقه الكاتب، بوعيه أو بلا وعيه.
دون أن نعيش الحرب، يمكننا بسهولة رسم بورتريه المُقاتل. يمكننا أيضاً رسم تنويعات على كل النماذج التي سكنت نواة الذكورة. وإذ نبتعد عن هذه النواة شيئاً فشيئاً، يصبح البورتريه ضبابياً. تختفي صوَر هؤلاء الذكور. تحت القذائف، لم يكن صوتهم مسموعاً؛ وبعد القذائف، حرص أدب الحرب على إبقاء صوتهم خافتاً.
هذه الدائرة إذاً بعيدة عن نواة الذكورة إلى حدّ التلاشي.
في هذا السياق، تكتسب لفظة «الذكر المُغاير» تفسيراتٍ أوسع. فهي بالمقام الأوّل تتعلّق بالمُغايرين جنسياً، لكن في مقامٍ ثانٍ هو هنا مقام الحرب، تتعلّق بمن أُخصيَ معنوياً لعدم تقبّله شروط الذكورة. مع احتمال التقاطع بين المقامَين، أو التعارض. بجميع الحالات، بقي أدب الحرب قاصراً على تمثيل النماذج الحاضرة وفق هذَين المقامَين، وحُصر الكلام على الذكور في سياقٍ أُحادي حدّدته الحرب — علماً أنّ موجة الخطاب النسوي التي تبحث في هذه الإشكالية كانت في أوجها مطلع السبعينات، عشية الحرب الأهلية، خاصّةً بين مجموعات اليسار العالمي. لكن يبدو أنّ الكسل (أو الذكورية المُفرِطة؟) منع اليسار اللبناني و«الأدباء التقدّميّين» من تلقّي هذه التردّدات.
صارت الذكورة التي تتمحور حول قطعة السلاح هي المُهَيمنة في زمن الحرب. وذلك على حساب الذكورة التي كانت تتحدّد في ما سبق وما تلا وفق جنوسة الرجل وميله الجنسي. أي، هل تراجع المعيار الجنسي في تحديد الذكورة مُفسحاً المجال لمعيار القتل في تحديدها؟ هذه مجرّد إشكالية قد تُخطئ وقد تُصيب. وإلى أن نجد جواباً عليها، يبقى أنّ أدب الحرب لم يطرحها من الأساس. فكيف له أن يُجيب عليها؟
تعليق من المحرّر:
حاسس إنو البحث عن ذكورة مغايرة بعده محدود بمعيار الذكورة النمطية، وكأنه الذكورة المغايرة هي عكس الذكورة النمطية (عنف/رفض العنف، مركزية القضيب/هامشيته…). بس ممكن بهاي الخطوة يكون في إعادة مركزة للذكورة النمطية وإن كان من باب النقد. بركي لازم هالموضوع ما يتمّ حلّه على الصعيد النظري، بس على صعيد «الشخصي».
جواب من الكاتب:
ماشي يا محرّر فيك تعطي الملاحظة بلا ما تلطشني 😓
بس ايه صحيح. عم بمشي من النمطي تحدّد المُغاير. إنّه لو النمطي ما كنش نمطي، المُغاير ما كنش بيكون مُغاير لا؟ 🤔
لهون ماشي بالتحليل بحسب معايير الذكورة اللي فرضتها الحرب. فكل شي مُغاير عم بذكره من باب النسبة لهالمعايير، ومن باب النسبة لنواة الذكورة اللي افترضنا انّه الحرب حدّدتها بهذا الشكل أو ذاك.
انسجم أدب الحرب مع شروط الحرب وتعريفها للذكورة. لم يجرؤ على تخطّي هذه الشروط، لم يكشف واقعاً مهمَّشاً، ولم يجتهد ولو قليلاً للبحث عن أدوارٍ مُغايرة، بل العكس تماماً: كرّسَ قواعد الهَيمنة في ميدان الجُنوسة والجندر.
ثلاثة انسجامات للأدب مع قواعد الحرب
1. حصر الذكور بأدوار الذكورة
للكاتب الحرية في انتقاء شخصياته. مفهوم. بحث جيل كتّاب الحرب عن قصصٍ من حولهم، نقلوها إلى الورق بعد مزجها بشيءٍ من الخيال، أو التاريخ. هذه ألف باء العمل الروائي. فلا عجب أن تتمحور أدوار الذكور حول القتل والاغتصاب والتعنيف والأسى. هذا كان واقعاً مُعاشاً (لكنّ الأدق، هذا كان أحد جوانب الواقع المُعاش). لا عجب إذاً في عدم اجتهاد الكتّاب في تفكيك مسألة الجندر، وأنّ المرء قد يُحاجج بأنّ هذه الأدوات المعرفية ما كانت مُتاحة لهم آنذاك. مع التحفّظ على هذه الحجّة. نكرّر أنّ هذه الأدوات المعرفية أخذت تنتشر عالمياً في الستينات، وهذا مأخذ جدّي على اليسار اللبناني الذي اختار بإرادته (وحتّى اليوم) تجاهل هذا الخطاب تحت حجّة «الأولويّات».
ليس المأخذ إذاً، في مرحلةٍ أولى، على كتّاب الحرب نفسهم. بل على الخُلاصة التي يستقيها المرء عند قراءة مجموع هذه الكتب. كما تكتسب الصورة التي تبنيها روايات الحرب أهمية قصوى واستثنائية عندما تتلكّأ الدولة في توثيق حربها. فتصير الرواية، بلا إرادتها، واحدة من بُنى توثيق الحرب ونقدها.
أمّا القارئ الذي يُراجع أدب الحرب في لبنان، فسيتصوّر واقعاً مشوّهاً، منقوصاً بأفضل الحالات. هو واقعٌ تصنعه مروحةٌ من الشخصيات الواردة في الروايات — بقدر ما تبدو هذه المروحة شاملة وواقعية، بقدر ما تستثني نماذج معيّنة من الذكور، إذ تنطلق من أرضيةٍ أُحادية لتحديد الذكَر.
لا نُناقش هنا أعمالاً فرديّة واحدة ومُحدّدة أو كاتباً فرداً، بل الكلام على «جو ثقافي» سادَ ما بعد الحرب، ومجموع هذا الجو وأنماطه. هنا صورة سريعة للذكور في هذه الروايات (على سبيل المثال لا الحصر):
في «يالو/ الياس خوري» يكون يالو (الشخصية الأساسية) مُغتصِباً متسلسلاً. في «الوجوه البيضاء/ الياس خوري»، يعاود نمط الاغتصاب الدوري الظهور، في سياق عرض الكاتب مروحة من الشخصيات، تتنوّع بين الأب المفجوع والمُقاتل والطبيب والناطور والقوّاد والمحقّق… وبقدر ما تبدو هذه المروحة شاملة وواقعية، بقدر ما تستثني نموذجاً واحداً فقط من الذكور. الرواية المبنية على مروحةٍ من الشخصيات التي نتعرّف عليها بالتدرّج، تظهر من جديد في «المبرومة/ ربيع جابر»، ومن جديد، لدينا الأب المفجوع والمقاتل والطبيب والناطور… وبقدر ما تبدو هذه المروحة شاملة وواقعية، بقدر ما تستثني نموذجاً واحداً فقط من الذكور. الذكر المُغاير جنسياً. ويتسلسل الأمر حتّى يطال معظم الروايات. حتّى في الروايات المبنية حول فرد لا حول مروحة شخصيات، جميع الأبطال ذكور، يتطابقون كلّياً مع التعريف النمطي للذكر.
هذه مجرّد مُلاحظة، قد لا ترقى بالنسبة للبعض إلى مستوى النقد. لكن النقد الأساسي يكمن، فوق الملاحظة، في طريقة الصياغة، التي غالباً ما تسرد مشهد الاغتصاب وكأنّه مجرّد علاقة جنسية عابرة. ربّما تخلّلها بعض العنف، وانتهت بالخضوع والتطبيع مع الاغتصاب.
الأسوأ في هذه المشاهد، هو آلية تمثيل المرأة التي [وبعكس الواقع] ترضى بالاغتصاب كعلاقة جنسية، أو، بأفضل الأحوال، ينتهي دورها في الرواية مع انتهاء هذا المشهد. ذكرنا الاغتصاب كمثل، لكن آلية تمثيل النساء عموماً في معظم أدب الحرب، تتماهى مع شروط الحرب نفسها، وتحصر المرأة بالدور الذي حصرها به النظام المُهَيمن.
2. كومبارس النساء
أبسط النقد أن يقول المرء إنّ كل أبطال روايات الحرب ذكور.
عالَمٌ روائيٌ من صناعة وإدارة الذكور المُتطابقين مع قواعد الذكورة، حصراً.
ففي «عين وردة/ جبّور دويهي»، بطَلا القصّة هما جوجو الميليشيوي وشقيقه رضا الباز. وفي «شريد المنازل/ جبور الدويهي» بطل القصّة الشاب نظام الذي ينزح من الريف إلى المدينة. وفي «الاعترافات/ ربيع جابر» بطل القصّة أب وابنه المُتبنّى مارون. وفي «البيت الأخير/ ربيع جابر» البطل مقاتلٌ اسمه «ك»... ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية.
دكورة بالتحديد، مستفحلون يعني. حتّى أنّ الشخصية ما بعد الأساسية، في معظم الأحيان إمّا أن تكون ذَكراً، إما امرأةً شرط أن تكون في موقع التابع للشخصية الأساسية التي هي الذَّكر. في جميع الأحوال، يمكن بشديد الراحة تبويب تمثيل النساء في أدب الحرب ضمن فئات واسعة هي: الغرض الجنسي، المرأة المهسترة، ست البيت… هي التمثيلات الذكورية الحصرية إيّاها. لا جديد. عنصر التمرّد حاضر بخجل لكنّه يبقى مشروطاً دائماً، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في «المبرومة/ ربيع جابر» يخطو الكاتب أبعد من هذه الأدوار ويعرّفنا إلى مقاتلة شرسة، كاترين نمر. لكن سرعان ما سنكتشف أنّ دورها لا يرِد إلّا من باب أنَّ رفيقها المُقاتل ريمون زخّور سيُضاجعها بعد قليل، إثر محاصرتهما في الهوليداي إن ليلة حرب الفنادق (تنتهي الرواية نفسها بنموذج المرأة المهسترة، الناطورة راغدة زغلول، التي انتحرت داخل خزّان الماء بعد خطف ابنتها).
لا نقول هنا إنّ هذا التمثيل غير دقيق أو غير واقعي، بل العكس. إلّا أنّ حصر تمثيل النساء بهذه الأدوار، وتكرار هذا الحصر كنمط مشترك في روايات الحرب، هو العلّة. فمن شبه المستحيل أن نجد أنّ كتّاب الحرب اختاروا امرأةً لتكون بطلةَ روايةٍ، ولو وُجدَت، فمن النادر أن يمنحها الكاتب صفة التمرّد — علماً أنّ هذا النموذج من النساء، العادي جداً، كان حاضراً في مجتمع الحرب، بشكلٍ عادي جداً أيضاً. فلمَ الامتناع عن تمثيله؟
للأمانة، وجدتُ روايةً وحيدة تكون بطلتها امرأة في زمن الحرب. احزروا دور هذه البطلة؟
الجواب هنا.
شرموطة — بطبيعة الحال، وإلّا كيف لها أن تتبوّأ دوراً رئيسياً لو لم تكن شرموطة؟ الرواية المذكورة هي «ماريكا المجدلية» لإيلي صليبي (2016).
3. ذكورٌ مُغايرون جنسياً؟ العياذ بالله
هذه نقطة طريفة. ذكرتُ مسبقاً أنّنا بالكاد نجد أثراً لأي ذكرٍ مُغايرٍ جنسياً في روايات الحرب. في الحقيقة، هناك أثرٌ قليلٌ للغاية. قبل أن نعرضه، نلخّص ما صار عندنا:
- ذكور عالم الأدب ذكور — أعني مستفحلين
- أبطال عالم الأدب، ذكور حصراً
- المرأة دائماً في موقعٍ ثانوي
- حتّى في هذا الموقع، لا تُمَثَّل إلّا بالنسبة لرجل
- طبعاً لا نُريد لا ذكوراً ولا نساءً مُغايرين جنسياً في هذا العالم
- من باب الاستثناء، يتشجّع بعض الرواة في الاستعانة بنموذجٍ مُغاير.
فلندقّق بهذا النموذج.
على سبيل المثال لا الحصر، نقصد عالَم «ساعة التخلّي» لعبّاس بيضون (2013). هو نفس النمط الذي تكلّمنا عليه سابقاً: هيكل الرواية مبني على مروحةٍ من الشخصيّات الأساسية، هم في هذه الحالة 4 ذكور، ويتبدّل السرد بين هذه الشخصيات.
الشلّة مؤلّفة من نديم وبيار وفواز وصلاح. في الصفحات الأولى، يُهيّئنا الكاتب: بيار مُسالم، يكره العنف (لا أعلم مصدر هذا الربط بين رفض العنف والشخصية المثلية). ثم نصل إلى الفصل الثالث — بروفيل بيار، حيث يقول الكاتب مباشرةً أنّ «بيار مثلي». وأخيراً، فعلوها، ومَثّلوا مثلياً في رواياتهم. والآن فلنبحث بآلية هذا التمثيل. كيف يرى الكاتبُ المثليَ؟
بيار المثلي الرقيق: تؤذيه كلمة كما تؤذيه ضربة، يخاف عنف الآخرين لأنّه لا يملكه. وبيار، المثلي البكّاء: أسندتُ رأسي إلى كتف [نديم] وانتحَبتُ، اندسست جنبه وبكيتُ وكنت أتمنّى لو يأخذني إلى صدره لو يأخذني إلى حضنه. وبيار، المثليّ المُرهف بالفن في زمن الحرب: في غرفتي، أضأتُ النيون ونظرت إلى لوحة فان غوغ التي تصوّر سريره وحذاءَيه. نظرت أيضاً إلى تمثال بوذا الضاحك البَدين [...] تناولتُ كتاباً عن الفن الروسي من وسط سلسلة عن الفن وتأمّلتُ طويلاً لوحة لماليفتش وأخرى لكاندينسكي. وبيار، المثلي المُشعوِذ المؤمن بالسحر: تناولت أيضاً كتاب مذكّرات دينار للدكتور داهش [...] بالمناسبة، أنا داهشي. وبيار، المثلي الكاره للعنف: لم أتربَّ بالعنف لكنّي لا أُطيقه [...] لا أطيق العنف. وبيار، المثلي العَطوف: حين يضربون تلميذاً أمامي أشدّ على أسناني لأمنع دموعي من النزول. وبيار المثلي المحتاج لحماية: منذ اللحظة الأولى بَسَط [نديم] علَيَّ حمايته، وأنا استسلمت لها تماماً. عشت في ظلّه منذ ذلك الحين. وبيار المثليّ التابع: لا أطمع في حبّه، أعرف أنّه ليس مثلياً لكني أُريد أن أبقى تابعه. وبيار المثلي المذلول: على الطريق تحرّشَ بي أكثر من واحد، سايرتهم لكن فهمت بعدئذٍ أنّهم يريدونني فقط هدفاً لاحتقارهم، يريدونني لإذلالي. وبيار المثلي المُطيع: أضع نفسي في ظلّ [نديم]، أسمح له أن يتصرّف، بي، كما يشاء، يريدني فآتي، يطردني فأنصرف، لكني دائماً بانتظار إشارته [...] سأبقى إلى الأبد تابعه وفي ظلّه. وأخيراً، الكرزة على قالب الحلوى، بيار المثلي اللا-مواجه: العدو [الإسرائيلي]، من الأفضل أن نختفي عنه. إنه جزء من أسطورتنا الشخصية، نخترعه كما نخترع الشيطان.
إن وُجدَ ذكرٌ مُغايرٌ في روايات الحرب، فهذا هو تمثيله. ولا أستطيع منع نفسي من الإدلاء بهذه المُلاحظة الطائفية، لكن بين نديم وبيار وفواز وصلاح، هل فعلاً اختار الكاتب الشخصية المسيحية لتكون مثليّ الرواية!!
ثم وجدتُ ذكراً مُغايراً آخر في روايات الحرب، يمرّ خلسةً وبشكلٍ مُقتضب في «المبرومة» لربيع جابر (2014): وهي نسخة منقّحة عن رواية «طيور الهوليداي-إن» الصادرة عام 2011، قبل عامَين من صدور «ساعة التخلّي» لبيضون التي أخذ بها المثليّ دوراً رئيسياً (ولو من أصل 4).
لم يتأكّد ريمون زخّور من كراهيته للبشر إلّا مع بدء الحرب. قبل ذلك ظنّ أنّه يكره أخته فقط. وأهله طبعاً. ونفسه. كان يعتقد أنّ خطأً لا يغتفر وقع في رحم أمّه قبل الولادة. لم يطلب يوماً أن يكون ذكراً، وسنوات حياته العشرون أكّدت له أن أخته التوأم كانت تعيش حياة أفضل لو لم تكن أنثى. كان يجد نفسه كارهاً للعنف […]
أخ… هذا الإصرار على ذكر عبارة «كارهاً للعنف» كلّما مررنا على شخصية مثلية… لا أجد في هذه المسألة إلّا تأكيداً على ما ورد في مطلع النَّص (ثلاثة ملامح عامة لذكورة الحرب) — في أنّ العنف الذي يرتكبه المرء يحدّد ذُكورته، وفي أنّ غياب العنف يعني غياب الذكورة. نُكمل عن ريمون زخّور:
كان مثلهم وليس مثلهم. حين أخبروه عن بنتٍ تنام مع الجميع أبدى عدم مبالاة لِئلّا يعرفوا. كان ينظر إلى عضوه المنتصب وهو يقف تحت رشاش الدوش القوي ثم ينظر إلى حنفية النحاس اللامعة ويشعر أنّه لن يفعل ذلك أبداً، لن يقتحم امرأة كما رآهم يفعلون على الشاشة الكبيرة في سينما برج حمود [...]
لم يتخيل لحظة واحدة أن الحرب يمكن أن تنقذ مخلوقاً مثله. لكن هذا ما حدث. [...]
وضع المسدّس في فم الرجل وقبل أن يضغط الزناد شعر أنه حي للمرّة الأولى.
مجدداً، يؤكّد هذا الاقتباس ما ورد في الفصول الثلاثة الأولى من هذه المُراجعة.
ثلاثة ملامح عامة لذكورة الحرب/ ثلاثة دوائر تُحيط نواة الذكورة/ ثلاثة انسجامات للأدب مع قواعد الحرب.
الحمدلله، يُشفى المثليّ من علّته، ويمرّ بـ«معمودية القتل»، بل «معمودية الدم»، كونه وضع المسدّس في فم الرجل ونظر إلى وجهه. وبذلك، تكتمل ذكورة المثليّ، فيهتدي ويصبح دَكراً، ويرتقي من الدوائر البعيدة المُحيطة بنواة الذكورة، إلى صلب نواة الذكورة، — لا بل، «يشعر أنّه حَيّ للمرّة الأولى».
ملاحظة/ فاصل
عن الفَضّ الفُجائي لذكورة الحرب
غصنا ما يكفي في عالم الأدب. لكن تجدر الإشارة إلى ملاحظة تتعلّق بالذكورة وطريقة فضّها في عالم الواقع. هي ملاحظة تجد انعكاسها أيضاً في عالم الرواية — أو، قد لا تجد انعكاساً بالمرّة: كَون عالم الأدب منسجماً بحقّ مع شروط الحرب في تحديد الذكورة، فإنّه سيتفادى الإضاءة على هذه الملاحظة، وسيسعى إلى إخفائها. وهذا هو الحال فعلاً، فمسألة فضّ الذكورة غير موجودة في أدب ما بعد الحرب.
ماذا نعني تحديداً بفضّ الذكورة؟ تحديداً الفضّ الفُجائي؟
لنتخيل هذا الميليشيَوي العنيد الذي واظب 15 عاماً على تلميع سبطانة البارودة وتزنير نفسه بالرصاص. هذا الجَدع الذي دخل قلوب صبايا الحَي واقتدى به صبيان الحَي. كان اسمه يثير الطمأنينة هنا والرعب هناك. كان وكيل الله، وأحياناً، الله مباشرةً. وفي صبيحةٍ عاديّة من أيّام أيّار 1991، تلقّى هذا الميليشيَوي العنيد اتّصالاً «من فوق»، يأمره بفكّ المتراس وتسليم سلاحه. هكذا فجأة، سلبوا المعنى من حياته.
ليس تفصيلاً. جادلنا كثيراً عن ذكورة الحرب التي كانت مأزومة، صحيح، لكنها مع ذلك كانت تجد «مَنفَساً» في السلاح. أمّا الآن وقد سُلب هذا المَنفَس، فماذا يحدث؟ تدخل الذكورة المأزومة أزمةً جديدة، تحاول فيها البحث عن منفسٍ جديد. وكما كان المنفس القديم «يوقع ضحايا كلّما دارت الأرض»، فإنّ للمنافس الجديدة أيضاً ضحاياها:
-
النساء في المنازل
بلا أي «دراسةٍ علمية»، نقدّر أنّ عدداً لا بأس به من المقاتلين السابقين اعتاد تعنيف زوجته، بالفعل أو بالكلام. لا نسمع كثيراً عن هذه الحوادث، فهي مسألة ثانوية لا داعي لذكرها في معرض الحديث عن مقاومين أفدوا الأمّة بدمائهم الطاهرة. للأمانة، تجد هذه المسألة بعض التمثيلات في أدب الحرب، لكن في صياغةٍ تؤكّد على فحولة الرجل لا على اضطهاد المرأة. -
الأبناء والتربية
الأبناء سيكونون موضوعاً مؤاتياً لتنفيس الذكورة. سنربّيهم تربيةً عسكريةً في المنازل. قد نلجأ للتعنيف أحياناً. سنعلّمهم عن الشرقية والغربية، وعن أنَّ الآخر أوسخ منّا. سنورثهم صدماتنا. والأهمّ، يمكننا أن نعوّض السلطة التي فقدناها كمسائيل حربيّين عبر سلطةٍ نمارسها على هذه الكائنات الهُلامية الصغيرة. -
الذكور أنفسهم
نحن أيضاً كائنات هُلامية. عدا الإساءة للآخرين، وجدَ بعض المُقاتلين منفساً في الإساءة للذات. كثر هم من أدمنوا، بعد الحرب، موادّ مخدّرة أو كحوليات، أو أضرّوا نفسهم عبر ممارساتٍ أخرى.
لا نَعزو هنا أسباب التعنيف المنزلي والإساءة للذات إلى الحرب حصراً، بل نقول إنّ طريقة مُعالجة الحرب كانت رديئة لدرجةٍ غضّت النظر عن سلوكيات المقاتلين في مجتمعهم ما بعد الحرب. أو ربّما، والله أعلم، ما كانت «طريقة رديئة»، بل كان المقصود فضّ الحرب بشكلٍ يُنتج وحوشاً مُحمَّلين بالعنف، على استعداد لتوريث العنف كما هو، كي نحصد ما نحصده اليوم.
قليلون هم الرجال الذين خاضوا بوعيهم مرحلة انتقالية، يتعلّمون خلالها كيف ينتقلون من آلةِ قتلٍ إلى كائنٍ سليمٍ في محيطه.
نقدٌ على النقد
إلى هنا ظننتُ أنّ المراجعة انتهت وأنّ النقدَ قد بلغَ هدفه، وأنّنا فككنا آليات عمل الذكورة في زمن الحرب وانعكاسها في عالم الأدب. لكن تبيّن أنّ هذه الخلاصة لم تكن إلّا موضوعاً لنقدٍ أوسع، يكشف أوجهاً مختلفة وأكثر وضوحاً في أزمة الذكورة. تطال الكتّاب، صحيح، لكن أيضاً القارئ/ الباحث، وصاحب هذه المراجعة ضمناً.
في سياق بحثٍ أوسع أُعِدُّه عن الحرب، لفتت نظري صديقةٌ بأنّ مَراجعي جميعها لكتّابٍ ذكور، منتقدةً المنطق الذي يضع (بوعيه أو بلا وعيه) كِتابات النساء في مرتبةٍ ثانوية، لا لشيء سوى لأنها كتابات تعود لنساء. والحقّ أنّني لم أكن قد قرأت إلّا «حجر الضحك» لهدى بركات، كروايةٍ لكاتبةٍ امرأة، في مستنقعٍ من كتب الذكور.
ثم نصحتني الصديقة بقراءة «الست ماري- روز» لإيتيل عدنان. وهكذا حصل. وسيبدو مثيراً أن نكتشف، في نهاية المطاف، أنَّ تخطّي قواعد الحرب في الذكورة والتصدّي لإسقاطها على عالم الأدب لم يأتِ إلّا في روايتَين لكاتبتَيْن من النساء. أُضيف لهما رواية ثالثة في هذا الفصل وهي «حزن في قلبي» لهِلال شومان (2022). لم أشملها مباشرةً مع «الست ماري-روز» و«حجر الضحك» كونها جاءت في سياقٍ زمني/ أدبي مختلف.
ثلاثة هوامش أقرب إلى متن الواقع
1. الستّ ماري- روز، إيتيل عدنان (1977)
لقد التحقتُ بالجامعة. حردَ زوجي، ثم غضب حتّى استقرَّت فيه الكراهية. أمقتني بشدّة. واصلتُ محاربة الأشياء المرئية وغير المرئية التي أحبطتني. ألقيتُ بنفسي في نوعٍ من الحياة العامة، في دورة المؤتمرات والمظاهرات والعمل الاجتماعي ولجان النضال ونضالات من كل الأنواع ... كان رأسي يزخر ككوكبٍ تحرّر أخيراً!
عام 1977، نشرت إيتيل عدنان روايتها «الست ماري- روز»، عن المُساعِدة الاجتماعية ماري- روز بولُس التي كانت تُدير داراً للأطفال الصم والبكم، قبل أن تقتلها ميليشيات اليمين في الأشرفية، حيث تربَّت. «ضاع» الكتاب في صخب الحرب، كما مُنع من التوزيع في الشرقية. تكمن خاصيّته في أنّه 1) أولى الروايات النقدية لهذه الحرب، و2) كاتبته امرأة، من خارج نادي ذكور الأدب المُتسابقين على جائزة صاحب القلم الأكبر.
في روايةٍ قصيرة نسبياً، أشبعت عدنان أزمة الذكورة نقداً: تكلّمت عن موقع النساء في حربٍ صنعها الذكور ص. 21: اليوم، تبقى النساء في مساكنهنَّ أكثر من أي وقت مضى: يعتبرنَ الحرب تصفية حسابٍ بين الرجال. العنف أصبحَ مُنتجاً مُعَدّاً للاستهلاك (...) يُجيب بلدٌ بكامله إلى نداء العنف هذا، بلا هوادة. تزدهر لذّة القتل، مرفقةً بكل التبريرات التي استطاعوا صياغتها. أو ص. 107: كانت تعتقد أنّ النساء بمنأى عن الاقتتال، بما أنّ الحكّام يعتبرون الصراعات السياسية صراعات ما-بين-الذكور حصراً. لكن في الحقيقة، مع تبَوّؤ النساء مواقع مسؤولية (ولو كانت ثانوية)، زادت مراقبتهنَّ عن كثبٍ أكثر وربّما بشراسةٍ أكبر. كل تحرّك نسائي، ولو كان خَيرياً وغير مُسَيَّس بالظاهر، صار بمثابةِ تمرّدٍ في عالمٍ يضطهد النساء منذ عقود. كانت ماري- روز تُثير حفيظتهم وأحقادهم حتّى قبل يوم اعتقالها المصيري. ؛ عن تفاصيل يوميّة تكشف علاقات الهيمنة الجندرية؛ عن العنف الكامن في هذه العلاقات؛ عن معاناة الأطفال وصدماتهم النفسية نتيجة مشاهدات العنف ص. 60: أجد صعوبةً في إقناع الأولاد بدناءة [هذه الفظائع]. لا يفكّرون إلّا بشيءٍ واحد: أن يكبروا ويتقاتلوا. ؛ عن حيويّة المجتمع التي حذّرت عدنان، منذئذٍ، بخطورة خسارتها خلال الحرب وصعوبة تعويضها. توقّفت عند علاقة الرجال بأسلحتهم الرواية مقسومة إلى زمنَين: الزمن الأوّل السابق على الحرب، وفيه مشاهدات عن مجموعةِ شباب مدهوشين برحلات الصَيد؛ وزمنٌ ثانٍ هو زمن الحرب، حيث صارت هذه المجموعة من ميليشيات المنطقة التي تلاحق الست ماري- روز. هذه القسمة وهذا الربط بين الزمنَين، يُبرزان علاقات الذكور بالسلاح آنذاك، و«التصعيد» الذي جعلهم ينتقلون من صَيد الطيور إلى صيد البشر، بسهولةٍ شديدة. تدعم هذه الملاحظة الفاصل الوارد سابقاً في مراجعتنا: حول مسألة المَنفس في «فضّ الذكورة الفجائي» ما بعد الحرب، أو كما لدينا هنا، مسألة البناء التدريجي لهذه الذكورة ما قبل الحرب. ، ومهابتهم مواجهة امرأةٍ تتمرّد على شرعيّتهم. امرأةٌ كان عليها أن تُقتَل، حتّى ينعم أدب الحرب الأهلية بروايةٍ شخصيّتها الأساسية امرأة.
في الأسلوب جانبٌ جُنوسي أيضاً: تجد عدنان نفسها مرتاحةً في تقليب المواقع وصيَغ المتكلّم. الراوي يتبدّل بين الفصول، بين امرأةٍ أو رجلٍ أو مجموعة أولاد. تتبدّل صيَغ المتكلّم دون أي قطعٍ صعب بين الفصل والآخر، دون أي ادّعاء يجعلنا نلمس سوءَ تفاهمٍ بين الكاتب وشخصياته، كما تكرّر في أدب الحرب عندما كتب الذكور أدوارَ نساءٍ باغترابٍ مطلق.
وفي بناء القصّة، تتبدّل أدوار الرواة لتعريفنا إلى جوانب مختلفة من قصّة ماري- روز. يشدّد هذا الهيكل استعاد الروائي الياس خوري هذا الهيكل بعد 4 أعوام في كتابه «الوجوه البيضاء»، حيث يتبدّل الرواة تِباعاً مع الكشف التدريجي عن تفاصيل تُحيط مقتل الشخصية الأساسية، السيّد خليل أحمد جابر. على الدور المحوَري للشخصية الأساسية، إذ هي موضوع 21 فصلاً، بصرف النظر عن الراوي. يدفع هذا التقسيم الشخصية الأساسية إلى الواجهة خطوة، مقابل تحديد أدوار باقي الرواة بالنسبة لها — للمرّة الأولى (وربّما الوحيدة) في أدب الحرب تُحَدَّد أدوار الرجال نسبةً لموقعهم من امرأة، لا العكس. مبروك!
تجاهر عدنان بالتدليل على الذكورة المأزومة إلى حدّ تحديدها العبارات الذكورية ووضعها بين مزدوجين عند كلامها بصوت الكاتبة. تتعمّد الكاتبة بناء مسافة بينها وبين المواقف الذكورية الواردة في قصّتها. مقابل هذا المنطق، يصعب تحديد المسافة التي أخذها باقي الكتّاب تجاه الصياغات الذكورية الواردة في قصصهم، حتّى يكاد يتساءل المرء: هل هذا صوت الكاتب أم صوت إحدى شخصيّات قصّته فقط؟
تدحض هذه الرواية إذاً مقولة أنّ هذه المواضيع «لم تكن رائجة» آنذاك وأنّ مأخذ اليوم على كتّاب الحرب منزوعٌ من سياقه التاريخي. بل العكس، هذا المأخذ في أدقّ سياق. وفي تبنّي عدنان لهذه المُقاربة إدانةٌ للأدباء «التقدّميين» الذين اختاروا القفز فوق هذا الخطاب — ربما لصعوبة تبنّيه كونه يُدين مصدراً للامتيازات، أو ربّما، لاعتباره ثانوياً أمام الدبّابات وصوت البندقية؛ إلّا أنّه بقيَ ثانوياً حتّى بعد أفول الدبابة. في مراجعةٍ بعنوان «إعادة إحياء اليسار في لبنان ما بعد الحرب الأهليّة»، يشير خالد صاغية إلى أنّ «البداية الجديدة [للملحق الثقافي لجريدة النهار] بقيَت محصورةً بقضايا اليسار كما عرفها لبنان قبل الحرب وخلالها، ولم تُعنَ بالخطاب النسوي، أو الجنساني (انتظر «الملحق» أكثر من ستّ سنوات على صدوره ليتطرّق للمرّة الأولى للمثليّة في لبنان، وذلك من خلال خبر عن تحقيق أجرته صحيفة الليبراسيون الفرنسيّة. أنظر: «مثليّون من لبنان في ليبراسيون». الملحق، 1 آب 1998).
يتحضّرون كي يصبحوا جلّادين وهم يعتقدون أنّهم يصيرون قضاةً بالحق. تحرّكهم جنسانيةٌ مَرَضية، حبٌ مجنون تُسَيطر عليه صور السحل والصريخ. ليس أنّهم محرومون من النساء — أو الرجال حتّى في ملاحظةٍ من كلمتَين، تفتح عدنان المجال أمام العلاقات المثلية! ، إن أرادوا — بل أنّ قرفاً عميقاً تجاه المسألة الجنسية يسكنهم.
بالخلاصة، تُعرّفنا الرواية على رجال الحرب ونسائها وفق عدسةٍ مختلفة، هي أقرب إلى الواقع من كل العدسات الآنف ذكرها في هذه المراجعة. والآن علينا أن ننتظر حتّى العام 1990 كي نُشاهد الحرب من عدسةٍ مُشابهة، مُختلفة عن السائد.
2. حجر الضحك، هدى بركات (1990)
وأتراب خليل هم في الحقيقة مجموعتان. الأولى التي تناسبه شكلاً والتي تتألّف من شبان هم دون سنه بكثير، قد خلعت باب الرجولة خلعاً ودخلت إليها من بابها العريض [...] في حين أنّ المجموعة الثانية، وهي التي تخالفه شكلاً وتتألّف من رجال هم في مثل سنّه، قد أمسكت بناصية الأمور الكبرى أي بأدوات العقل والفهم والإدراك والتنظير [...]
هكذ أغلقت الرجولتان أبوابهما دون خليل فبقي وحيداً في معبرٍ ضيّق، وعلى تماس بين منطقتين شديدتَي الجذب مقيماً في ما يشبه الأنوثة الراكدة المستسلمة لحياة نباتية محض، والرجولات الفاعلة المفجرة لبركان الحياة على قاب قوسين أو أدنى.
من الفصل الأوّل للرواية، تحدّد هدى بركات بعنايةٍ فائقة تَمَوضع خليل، الشخصية الرئيسية في القصّة. وذلك نسبةً لرجولتَين، تحدّدهما أيضاً بعناية، راسمةً بشكل سريع ومباشر بورتريه الذكورة في زمن الحرب.
تطرح بركات مواضيع كثيرة، واجِهتها قصّة خليل الذي نتعرّف إليه من خلال انجذابه للشباب، دون أن تذكر بركات بالمباشر أنّه مثلي الجنس. ثم تمرّ من خلال خليل على مواضيع تتعلّق بموقع النساء في زمن الحرب، والذاكرة (موضوعان شديدا الذكر في رواية إيتيل عدنان أيضاً)
حتّى أن بعض العبارات تشبه ترداد الصدى بين الروايتين.
ص. 116: كان كلّما تظاهَر مَسَّد على شاربه وامتنع عن تنفيذ أوامر أمّه له بمساعدتها وتَهَيّأ بهمّةٍ أكبر للرجولة. فمَن يتظاهر يفهم بالسياسة، ولا يفهم بالسياسة إلّا الرجال.
؛ والمدينة؛ واللغة؛ والمشاعر والضحك والبكاء؛ ونقد الرجولة التي ضاقت حتّى صارت تتعلّق بتأمين ربطة الخبز بعد انقطاع الطحين.
تبدو بركات مرتاحة مع «خليل»، لا تنمّطه وتحجّمه لمثليّته كما فعل عباس بيضون في «ساعة التخلّي». ويبدو أنّ «خليل» هو أوّل شخصية أساسية في أدب الحرب تكون مثلية الجنس. تؤكّد بركات خيارها القصصي عبر تكرار نزوات خليل: فتظهر ميوله الجنسية المُغايرة مرّةً أولى مع صديقه ناجي
ص. 29: قال خليل في نفسه إنّني أُشبه مطلّقة ناجي التي ما تزال تخفي عشقها، تدّعي الصداقة مع من تَتَشهَّى أن يضع إصبعه على كتفها ويسحب عنه شعرة عالقة بعد أن كان يضعه في بزرة الروح فتنفجر…
، ومرّةً ثانية مع رأفت الذي سمع صوته عبر أثير الإذاعة
ص. 82: يضحك ويطلب إلى خليل أن يتمهّل قليلاً وألّا يسترسل في تعذيبه. خلييييل، كان رأفت يناديه بموسيقى لذيذة تدعوه إلى المزيد من التدلّل والقفز… والضحك. ثم كان خليل يستند وكفّاه وراء ظهره إلى جذع شجرة سميك فيما راح رأفت يحفر بساق سنبلة خضراء قلباً أحمر داكناً وبداخله حرفا R وK يلتمعان بالنسغ الطازج. ثم اقترب رأفت من خليل وأعاد خصلة طويلة كانت تهفهف على وجهه، إلى الوراء [...]
، ومرّةً ثالثة مع جاره الجديد (؟) يوسف
ص. 96: [...] حتّى عرف أنّه متورّط تماماً بحب يوسف وأن جسده الذابل الموصول بحبل مصل إلى جسد يوسف كان يصبّ نزفاً شيطانياً يملأه ويفور داخله كمياه بركانية.
وتتكرّر المشاهد المماثلة المتعلّقة بيوسف، أكثرها بلاغةً يمرّ في ذهن خليل كالتالي — ص. 133: كل ذلك الشقاء لأنّ يوسف جميل ولأنّني زوجة جنسٍ آخر. أدفعه لكل ما هو كريه وفاسد ومسموم وأروح ألطم وأجمع نسائي. أجمع نسائي وألطم مشيرةً إليه وهنَّ لا يرينه ولا يتقطّع سوى يديّ، وتبقى برتقالات شهوتي كاملة ومستديرة وحمراء. مئات المرّات، آلاف المرّات أجمع نسائي ليَرَين فلا يَرَين ولا يعرفن ولا أقطع سوى يديّ. كلّما لامستُ طرف ثوبه شققته من دبر [بإشارةٍ لقصّة النبي يوسف وزُلَيخة] لكنه لم يرني ولم يستدر ولم ينشقّ له ثوب.
، ومرّة رابعة مع وضّاح الممرّض
ص. 190: يرى خليل يد وضّاح رافعةً يده ذات الشرايين النابضة. يبكي خليل. يبكي. يشمّ الرائحة. وينقط من وجه وضّاح حليب دافئ في عينيه ويبيضّ المكان ويتساقط الثلج خلف النافذة.
وفي تصوّرات خليل عن وضّاح لدينا (ص. 196): ماذا أسمّي هذا الرجل. حين كان ممسكاً بيدي في غرفة النقاهة. ووجهه فوق وجهي. أي ملامسة تلك التي كانت بين أيدينا. بين جلدَينا [...] النقطة التي يلمس فيها جسدي تنفتح وتضيء. تنفتح ويخرج ضوء منها ويشرق داخل جسمي كله بنور لمسته [...] حين أراه في حلمي رجلاً جميلاً لا أشتهيه لأنّه فوق شهوتي بكثير، وحين أراه يحتضنني ورأسي ملقى على ثدييه الكبيرين لا أشتهيه لأنّه أكثر من امرأة. ولا أجوع وأفتح فمي لأنّه أكثر من أمي وعيناه أكثر من حليبها بكثير.
، ومرّةً خامسة مع «الأستاذ» الذي أُعجَب هو بخليل، وحاول مصاحبته.
ص. 216، «الأستاذ» مخاطباً خليل: كان عليّ أن أسافر منذ شهر لكنّك تشلّني ولم أعد قادراً على الحركة. ما زلت أؤجّل من أجل أن أراك. هل أكون غبياً إلى هذه الدرجة؟ هل أنتَ تحب النساء؟ لا أدري قال خليل.
لا…. أنت لا تحبّ النساء.. أنا أدري. اسمع.. أنت أصغر مني بكثير ربّما هذا ما يعذّبني ويعقّد الأمور. أنا أيضاً في ما مضى كنت أنام مع النساء. لكن الآن انتهى الأمر. ذلك أنّني لم أكن أعرف تماماً، ولأنّ التخلّي عن جنسهنَّ كان يقلقني قليلاً. حسناً أنا بالطبع لن ألمسك إلّا إذا كنتَ راغباً…. حسناً… ماذا ستفعل بي…….
ملاحظة من الكاتب: حتّى في هذا المقطع الذي هو مجرد حوار يدور في سياقٍ لا ينبئ بأي علاقة جسدية، ألمَحت بركات إلى مسألة التراضي: «لن ألمسك إلّا إذا كنت راغباً»، الغائبة عن عالم الرواية عموماً.
وحتّى حين أعجبَت خليل امرأةٌ، أُعجِب بها لأنّ «فيها شيء يشبهني هذه المرأة. فيها شيء من الرجال لا أستطيع وضع إصبعي عليه».
لا أثر إذاً لأي ذكرٍ مُغايرٍ جنسياً متصالحٍ مع نفسه، إلّا في «حجر الضحك». ولا أثر لأي شخصية رئيسية امرأة لا يُحدَّد دورها نسبةً لرجل، إذاً، إلّا في «الست ماري-روز» بحسب جولة الكاتب، حتّى الآن . ولا يمكن أن تكونَ محض مصادفة حقيقة أنّ الكتابَين يعودان لامرأتَين.
لم يفعل كتّاب ما بعد الحرب، إذاً، الذكور منهم، سوى أن اعتمدوا قالب «الدَكَر» نفسه، كما صدّرته لهم الحرب، دون أي اجتهاد لتخطّيه. واللافت أنّ ما أعتبره «اجتهاداً» في هذا السياق، جاء بشكلٍ عفوي في كتابَي هدى وإيتيل. فهما خارج هذه الأزمة، لا بل من نقّادها والمتغلّبين عليها. و«شرعيّتهما» ككاتبات لا تمرّ عبر الانسجام مع قواعد الذكورة التي فرضتها الحرب، بل العكس، في فتح المجالات من خارجها.
3. حزنٌ في قلبي، هِلال شومان (2022)
هناك مشهد لا أنساه. في العام 2005، في يوم من شهر آذار، خرجتُ من غرفتي لأجد «أبي» جالساً على الكنباية يبكي، وأمامه في التلفزيون مشاهد لمظاهرات ضخمة [...] لم يُحرَج من وجودي في الغرفة. استمرّ يبكي كأنَّ ما في التلفزيون سحبه إلى مكان آخر. كأنّه أصبح شخصاً آخر كلياً. ربما هي المرّة الوحيدة التي رأيته يعرض فيها عاطفته بهذا الوضوح.
بعد عقودٍ على الحرب وأدبها، صدرت رواية «حزنٌ في قلبي»، العام الفائت، لتؤكّد دخول أدب الحرب مرحلةً جديدة. مرحلة يكون القيّم عليها كتّاب من خارج جيل الحرب، لا تُثقله وحول الحرب، ولا قواعدها المُعَمَّمة في عالم الأدب.
يختار شومان ذكراً مُغايراً يُحمّله المسألة الجنسية بعفوية، بلا تصنّع. تحتل المشاهد الجنسية المثلية بوصفها الدقيق متن الكتاب كلّه، ومع ذلك، ليس المُراد أن تكون المسألة الجنسية/ الجنوسية موضوع الكتاب الأساسي. تجاوز شومان هذه الإشكالية، وتعاطى مع المثلية بشكلٍ «عادي» للغاية. كما لم يحصر المسألة المثلية بفردٍ واحد (كما فعلت بركات)، بل مضى إلى تمثيل مجتمع المثليّين
في ختام الرواية لفتة سريعة حول امرأةٍ عابرة جنسياً سبق أن كانت مُقاتِلاً في الحرب. هي لفتة مُفتاحية للتفكير بمروحة الخيارات التي حكمت الميول الجنسية للمُقاتلين بعد ما أسميناه «الفضّ الفُجائي لذكورة الحرب».
في برلين وفي لبنان.
لا كتَبَ بحيطة الراغب باحترام التابوهات، ولا كتب بأسى المثليّ المُضطَهد المظلوم. كتب ببساطة. هكذا. بشكلٍ عادي. وهذه الـ«عادي»، تُعلن تجاوز إشكالية تمثيل الذكور المُغايرين التي عجز الجيل الأوّل من أدباء الحرب عن التعاطي معها.
«امتياز» الكتابة عن الحرب من خارجها يسمح للكاتب بانتقاء إشكالياتٍ من خارج الصندوق إيّاه. في «حزنٌ في قلبي»، يعرض الكاتب تساؤلات جيلنا، نحن الذين ورثنا حرباً ما عرفناها، ودفعنا ثمن خياراتٍ ما اتّخذناها. تدور القصّة حول يوسف، شاب لبناني ترعرع في برلين مع رجلٍ تبنّاه ترد هذه الإشكالية أيضاً في «الاعترافات/ ربيع جابر» (2005)، ولو بشكلٍ أقل تعقيداً ممّا هي في رواية شومان. ، يتبيّن لاحقاً أنّه مقاتل سابق في الحرب الأهلية في لبنان. لا يعرف يوسف الكثير عن لبنان، فينطلق، بعد وفاة «والده»، في رحلة نبشٍ للتاريخ.
يتعارَض هذا العمل مع الأعمال الوارد ذكرها في هذه المُراجعة لناحية أنّ الأحداث تدور في زمن ما بعد الحرب، أي ما بعد السلاح، وبالتالي حذفَ الكاتب العنصر الأهم من روايات الحرب، العنصر الذي احتكر تحديد نواة الذكورة. بالمقابل، يبدو أنّ «الذاكرة» و«الحب» ثيمتَا النص الأساسيّتان. بالخلاصة، مَزْجُ الكاتب هذه الإشكالية بالمضمون مع التنقّل بين المشاهد الجنسية المثلية بالشكل، أنتَج عملاً «عن» الحرب الأهلية، لا «في» الحرب الأهلية. أي أنّه عملٌ يواجه مسألة الحرب دون أن يعتمدها كديكور، أو كدعامة لقصّةٍ من نمط آخر، كما هي حال أغلب أدب الحرب.
لا أستفيض أكثر من ذلك بالكلام على هذه الرواية كونها صدرت حديثاً، كَي لا أُفسد قراءتها على من يشاء، وهي للأمانة جديرة بالقراءة. وقد أوردتُ ذكرها هنا لأنّي شعرتُ أنّ خيطاً ما يمتد بين الروايات الثلاثة المذكورة في هذا الفصل.
فيما أختم هذا المقال، المُفترَض به أن يفكّك أزمة الذكورة في الحرب وأدبها كتدليلٍ على ذكوريّةٍ ما، أشعر أن المُراجعة بنفسها ذكورية. فهي تنطلق من إشكاليةٍ ضمنية تسأل التالي: ماذا سأفعل (ماذا سنفعل نحن الذكور) لمّا تُقبل الحرب الأهلية المقبلة؟
كيف نتعاطى مع هذا الفولاذ وهذه النار؟ وإن كان الجواب أميَل إلى الـ«لا»، سنشعر تلقائياً أنّ كياننا انتُقص، أنّهم سرقوا أيرنا، أنّنا «مش رجال» — بصرف النظر عن درجة التقدّمية المزعومة التي طوّرها المرء. في سياقٍ عنفي كما هو واقع اليوم، سيبقى لاوعينا (والأرجح وعينا) محكوماً بهذه الأسئلة.
ماذا نفعل لمّا تُقبل الحرب المقبلة؟ هل السياسة (بالمعنى «النبيل» للكلمة) ستكون المعيار الحصري لحمل السلاح؟ أم أنَّ الحرص على عدم التعرّض للإخصاء المعنوي سيحسم الخيار؟ ما بعرف.
يبقى أنّ الحرب قد أُشبعَت نقداً وروايات، لكن تبيّن أنّ كل هذا الجهد ما كان إلّا ضمن منطقٍ أُحادي، منسجم مع منطق الحرب، ما يعني أنّ ورشة إنتاج ثقافة عن الحرب من خارج قواعد الحرب، قد بدأت للتَوّ. وقد تكون هذه الورشة على شاكلة إعادة تأريخ المرحلة من أبوابٍ أخرى، اعتُبرَت هامشاً لكنّها في الحقيقة أقرب إلى الواقع.
تأتي الحرب مع ذكورها. صحيح. يُساهم المقاتلون في إنتاج الحرب، صحيح؛ لكن الحرب تُنتج مُقاتلين — وأشياءً أخرى.
هذا النص جزء من ملف «أزمة الذكورة وسؤال الذكور: ماذا يعني أن تكون رجلاً» والذي ينشر ضمن سلسلة «العمل النسوي وأسئلته المتجددة» بالتنسيق مع شبكة فبراير.
اخترنا لك
آخر الأخبار
مواد إضافيّةسلسلة جديدة من الغارات تستهدف الضاحية ومبنىً ملاصقاً لمطار بيروت
يشنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات جديدة تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت، وذلك بعد التهديد الذي أطلقه المتحدث باسم جيش الاحتلال في وقت سابق من مساء اليوم. وهدّد أفيخاي أدرعي مبانٍ سكنية في أحياء حارة حريك والحدث وتحويطة الغدير، إضافةً لمبنىً في منطقة الأوزاعي ملاصقاً لمطار بيروت الدولي.