اجتثاث المواطن وإخفاء الحرامي وجنون الضابط وعصام الشوالي*
10
دقائق

الأمم تجربة اجتماعية مستمرّة، ومصر كأمّة معاصرة تواجه تحدّياً وجودياً، ربّما للمرّة الأولى في تاريخها الحديث. يبدو تصريحي هذا «كلاماً كبيراً» ربّما يفتقر للروِيّة، لكنّ الأمر جدّ ممكن، ومصر في هذا الصدد ليست منفردة إقليمياً أو عالمياً، هي ليست الأولى بالطبع لكنّها قَطعاً في المقدمة.

لجعل الاستهلال أكثر يسراً وأقلّ وطأةً، سأستخدم فيلم مواطن ومخبر وحرامي الذي أخرجه المصري داود عبد السيد في عام 2001 كمقدّمة لهذه الكتابة.


المواطن، المُخبِر، والحرامي

في هذا الفيلم الذي تصوّرته وقتها وداعاً سينمائياً من داود عبد السيد للحيّز العام، قدّم المخرج الكبير ثالوثاً لما يمكن تسميته بعناصر الهيمنة داخل الاجتماع الثقافي اليومي في مصر. فالمواطن الذي مثّله طريدُ جنّة الوطنية المصرية خالد أبو النجا، هو فردٌ ذَكر يتمتّع بقدر معقول من الحصانة الطبقية والإلمام المعرفي واللياقة الثقافية، ما يجعله جديراً بالاعتقاد في أحقيّته بحقوق مواطنة حصرية له. أما الحرامي شعبان عبد الرحيم، فهو تعبير عمّا تمثّله الثقافة الشعبية من رثاثة وأصالة في اَن واحد، في سطوتها وحرمانها ومظلوميّتها واستعلائها اليقينيّ بالحق، بينما هي تحت الاشتباه والتحرّي طول الوقت. أمّا المُخبر صلاح عبد الله، فليس إلا سلطة تحتيّة تدير العلاقة الشائكة والمُفخّخة بين الأقلية المواطنية وجحافل الحرامية، بمنتهى الحكمة والتوازن والعنف اللازم الذي تفرضه طبيعة الصراع بين الطرفين ومواقعهم المادية والمُتخيّلة، ومن هذا الدور تحديداً يتحصّل المُخبر على مكانته كطرفٍ أصيلٍ في المعادلة.

يتعرّض المواطن لحادث سرقة لسيارته جعلته تحت رحمة خدمات المُخبِر ودوره المركزي. المُخبِر، بدوره، أفْهَم المواطن أنه يعرف عنه كل تفاصيل حياته كحاصل لعملية مراقبة أبديّة له امتدّت منذ كان المواطن مراهقاً صغيراً، وتولّاها هو بنفسه. تتوطّد العلاقة بين الطرفين لدرجة جعلت المخبر يتعشّم في عطايا سلطان مُتخَيّل للمواطن صاحب الجدارة الاجتماعية، حتى أنه تصوّر أنّ معجزة تعيين ابنه الأكبر في إحدى الوظائف الحكومية تمّت بعطف ورعاية من صديقه السيّد المواطن، وهو ما لم يحدث بالطبع. ولكن امتناناً منه لصنيعٍ لم يُقدَّم، جلب المخبر للمواطن هدية هي «حياة - المرأة - الممثّلة هند صبري» كي تعمل خادمة عنده. حياة هي مؤنّث الحرامي وعشيقة مذكّره، ولكن لا دور لها في مثلّث الهيمنة، فالمرأة في اجتماعنا موضوعٌ للهيمنة وليست طرفاً فيه.

وكموضوع للهيمنة وتخريباً لها في الوقت نفسه، خلقت «حياة» الشرط اللازم للقاء المواطن بالحرامي بسرقتها بعض محتويات بيت المواطن وتقديمها للحرامي العشيق. المخبر، بدوره، تدخّل بعنفٍ شديد ضدّ المرأة التي خلقت صلةً لم يكن لها أن توجد إلا بوجودها الخَطَّاء، لكن حدث ما حدث بالفعل ووقعت الخطيئة المعاصرة، فقد سطا الحرامي على أعزّ ما يملكه المواطن، وهو مسودة ورقية لروايته عن نفسه.

في لحظة تقاطُع الطرفَيْن وبداية الفصل الدرامي لصراعيهما، تظهر السلطة العليا مُمَثَّلةً في شخصية الضابط الذي قدّمه بإبداع لافت الفنان أحمد كمال. الضابط كان زميلاً للمواطن في المدرسة، فالضباط والمواطنون في الأصل إخوة، تجمعهم الطبقة ويفرّقهم الخيال. الضابط متأزّم نفسياً بقدر تأزُّم سلطته، يستأنس بقدوم زميله المواطن إلى مكتبه في القسم بعد أن تعرّض لطريحة ضرب تأديبي من بعض المخبرين، مذكِّرين إياه بحدود مواطنته. وفي هذه الشروط غير الندّية بالمرّة، يتلو الضابط على مسامع أخيه المواطن قواعد الاجتماع المشترك كما تفهمها السلطة العليا في ضوء أزمتها المستحكمة. القاعدة الأهمّ هي عدم جواز تلاقي عالم المواطن بعالم الحرامي لأنّ ناتج اختلاطهما جريمة حتمية. وعليه، فمن حقّ المُخبر وواجبه أن يكون جسراً بين العالمَيْن وضابطاً لإيقاعَيْهما. فالسلطة ليست قادرة على السيطرة على العوالم كلٍّ على حدة، فما بالك باختلاطه، وهي عاجزة حتى عن السيطرة على سجونها. السلطة المطلقة مثل أعلى لن يتحقق، والضابط لا يمكنه توفير الحراسة  لكل حارس. لقد تمنّى الضابط عالماً مليئاً بالحروب ظنّاً منه أنّ اللحمة الوطنية ستتحقق وقتها وتختفي الجرائم، فيتحقق حب المواطن لأخيه الحرامي وحب الحرامي لأخيه المواطن، والأهم هو حبّهما معاً لأخيهما المخبر.

لكنّ تحذير الضابط جاء متأخّراً بعد تلاقي العالمَيْن بالفعل، تلاقٍ دامٍ درامي. لقد أشعل الحرامي النيران في رواية المواطن عن نفسه حاكماً عليها بالإعدام نظراً لعدم صلاحيتها شكلاً ومضموناً من وجهة الثقافة الشعبية وقِيَمها، فردّ المواطن بغرس سبابته في عين الحرامي وفقئها عقاباً له على جهله. تدخّل المخبر وداود عبد السيد معاً لمعالجة الأمر على عجل، فخلقا تصالحاً إرادوياً بين المتصارعين، ترتّبت عليه إقامة صداقة وطيدة بين المواطن والحرامي تبادلا خلالها نساءهما في صمت وتواطؤ قرباناً لتحالفهما الاستراتيجي.

فقد الحرامي عينه اليمنى، لكنّ المواطن تخلّى في المقابل عن روايته المحترقة. وفي رواياته الجديدة، قبِل  بتصوّرات الحرامي عمّا يجب أن تكون عليه الرواية الصحيحة مسترشداً بنصائحه ومنصتاً لعظاته. عقد المواطن والمخبر والحرامي تحالفاً ثلاثياً يقودهم جميعاً إلى المجد: تحوّل المواطن إلى ما يشبه الحرامي التائب، وتحوّل الحرامي إلى ما يشبه المواطن المُحدث، بينما تحوّل المخبر إلى شبه ضابط في صورة نائب برلماني. عمّد كلٌّ منهم نجاحه بالتقرّب من الاثنين الآخرَيْن: نجح المواطن بعد أن أصبح أديباً مرموقاً بصوت الحرامي ووعيه، وصار أكثر قبولاً في عالم المواطنين والمخبرين والحرامية على السواء. أما الحرامي، فلبس عيناً زجاجية أجمل مكان عينه المفقودة، وارتدى ملابس المواطنين وحظي بحمايتهم وبعض أموالهم. المخبر، بدوره، استفاد من التحالف بأن أصبح عضواً برلمانياً عن مقعد العمّال والفلاحين، صائحاً في جماهير الحرامية «أنا عامل زيّكم وإيديا أهيه».

في هذا الفيلم، لم يترك داود عبد السيّد موطناً في الاجتماع الثقافي المصري إلا وبصق عليه بَلغماً صدئاً، البرجوازية والمثقّفون واليساريون والنسويات والضباط والسلطة بكلّ مستوياتها. وفي نهاية الفيلم، اجتمع التحالف الوطني في حفل تنكّري جمع أبناءهم الحرام الذين تزوّجوا من بعضهم بعضاً هم الآخرون، وبصق داود بصقته الأخيرة حين جعل كلاً منهم يرتدي ملابس تشبه ملابس حياته الأولى، فارتدى الحرامي زيّ حرامي، ولبس المخبر معطف المخبرين السمني، في حين تنكّر المواطن في زيّ «مواطن» في واحدٍ من أعنف المجازات مرارةً. 


ثورة مصر في عالم الفيلم

قدّم داود عبد السيّد فيلمه قبل عشر سنوات من ثورة يناير 2011، في عالم مستقرّ لدرجة الرتابة يسمح بالتأمّل وتأنّي الرؤية. بدا ذاك العالم لداود عبد السيّد صيغةَ تعايش تعيسة بين عدة عوالم متنافرة كانت على موعد مع انفجار كبير بعد عقد واحد. رسم داود عبد السيد عالمه وهو يائس تماماً من احتمالية تلاقي عناصره في تجربة تشبه ما حدث في ميادين مصر لاحقاً. كانت أقصى أمنياته صيغة من التعايش السلمي الرثّ، تحكمه حدودٌ من العقلانية تحت سيطرة الضابط المنهَك ذهنياً ووجدانياً.

في بلد «الصراع الطبقي»، بألف لام التعريف مثل مصر، وفي القاهرة القهّارة التي لها نصيب من اسمها، لا يمكنك استقراء ما بداخل هذا المكان من تفاعلات أو معرفة حدود إمكانياته تحت وطأة شفرات مركّبة للقهر  الاجتماعي اليومي وأدواته. أُمَّةٌ حِرفَةُ سكّانها اليومية هي العنف والتخفّي، ينزلون إلى الشوارع في كل صباح وكأنّهم متوجّهون نحو ساحة حرب يخوضونها مختبئين من بعضهم بعضاً ومن أنفسهم أيضاً. لذا، وفي اللحظة التي تتلاقى فيها الإمكانيات وينقشع القليل من القهر الظاهر والكامن، يُدهش هؤلاء العالم بينما هم يُدهِشون أنفسهم في اللحظة نفسها، تتولّد فيهم طاقاتٌ لم تكن متوقَّعة بالمرّة ولحدود تمكُّن الغرور الفرعوني منهم، فيتحولون بين عشيّة وضحاها من «عبيد من غَلَب» إلى «صرنا آلهة». 

ومن عالم داود انطلقت ثورة، هي رواية «المواطن» بالأساس، ثورة يناير هي ثورة النسخة التقدمية من «المواطن»، وما هو إلا مجرد نسخة واحدة مِن نسخ عديدة لأخوته من «المواطنين». جميع هذه النسخ لم تكن متأكدة ـ في لحظة انتفاضها ـ من موقع أخوتهم الحرامية داخل حدثهم الجلل، وانصبّ جلّ تركيزهم على مستقبل علاقتهم بأخيهم الشقيق «الضابط»، في صراعٍ على مَن هو صاحب الكلمة العليا والنهائية في بيت العائلة. المواطن المتقدّم يرى في أخيه الضابط مجرّد قبضة لتنفيذ إرادته، والضابط يرى إخوته المواطنين أكثر هشاشةً من أن يدركوا معنى القبضة أو الإرادة.

استحضر المواطن الطليعي عفريتاً لأخيه الضابط. انطلق العفريت ليوم واحد في الثامن والعشرين من يناير بحسب الأرقام شبه الرسمية، خلّفت مواجهات جمعة 28 يناير 2011 التي اصطدم فيها مئات الآلاف من المواطنين العزّل في عموم مصر بقوّات الأمن المركزي وشرطة الأقسام ومجموعات القنّاصة وبعض آليات الحرس الجمهوري 680 قتيلاً على الأقلّ، أغلبهم من المدنيّين، إضافةً إلى آلاف المصابين. اعتمد الرقم على البيانات الرسمية لوزارة الصحة المصرية وما ورد إليها يومَها وفي الأيام التالية، وهو في ظنّي رقمٌ شديد التحفّظ، ولم يضع في الاعتبار صداماتٍ كثيرة في بقاع كثيرة لم تعلن عن نفسها أو لم تكترث بذلك من الأساس. اللافت أنّ الثوّار المواطنين اعتمدوا رواية وزارة الصحة المصرية وإحصاءاتها مثلما سيثقون لاحقاً في الهيئات القضائية المدنية التقليدية لإرساء «شرعيّة الثورة - المظفّرة». عام 2011. توصينا حكمتنا الشعبية بأنّه قبل استحضار العفاريت يجب أن نعرف أوّلاً كيف يمكننا صرفها لاحقاً، وإلا علينا تحمّل أذاها. غابت عن حكمتنا الشعبية أنّ العفاريت ليست إلا مخاوف في رؤوسنا وتراكماً لأحاسيس لا تنتهي بالذنب، عفاريتنا ضحايا جريمتنا الاجتماعية اليومية، لا يمكنها الانصراف لأنها حتى لو اختفت وذابت، فإنّ وقع لحظة استحضارها سيمتدّ ويتمدّد في الذاكرة والوجدان لزمن طويل جداً يتجاوز لحظة خروجها العارم من المصباح. العفاريت لا تنصرف من داخلنا أبداً، لذلك تحذّرنا الحكمة الشعبية بنبرة ضجرة ولوّامة.

بعد يوم انطلاق العفاريت في الثامن والعشرين، مسّت الجميع لعنةٌ ما سيدركونها بالتدريج وببطء. ارتبك وعي قطاعٍ محافظ من «المواطنين» المذعورين تحت شمس واقع جديد سيعيشونه يوماً بعد آخر، ليس لأنه واقع أسوأ، بل وللغرابة لأنه أتى أفضل بكثير من رهابهم الذهني ليشكّكهم في جدارتهم الأخلاقية التي تبرّر استحقاقهم «المواطنة» حصراً دون غيرهم. ظنّوا أن الحرامية الدهماء المتعصّبين سيحرقون الكنائس، فلم تُحرَق الكنائس، وانتظروا  هجوم «الحرامية» في جماعات تفترس «المواطنين» أحياء في أحيائهم، لكن بدلاً من ذلك حموهم لأيّام من «شرطتهم». لم يكن منبت ذعر المواطنين المحافظين هو الخوف من سلوك «الحرامية» وتصرّفاتهم المترتبة على اجتياحهم للشوارع، كان مكمن الذعر في نزول الحرامية ذاته، والأخطر هو تصرّف الحرامية كمواطنين محتملين، حتى ولو ترتّب على تصرفاتهم إقامة دولة الحق والخير والجمال. بدا الأمر عداءً أصيلاً للحرية بألف لام التعريف، استتبع معه أن قالت مثقفة مصرية نبيلة المنشأ: «فلتسقط حقوق الإنسان». لقد كان الحرامية أكثر نبلاً وتحضّراً وآدميّةً ورغبةً في الحياة من هؤلاء الذين مسّهم الذعر من شيء لم ولن يحدث، ذعر من ثورة جياع لم ولن تندلع أبداً، رهاب يخفي خلفه تبريراً أبدى لجوع الجائعين، وحقارة تليق بأن يكون مصيرك هو عبد الفتاح السيسي.

لكن على جانب آخر، أفقد الحرامية المواطنَ الطليعي روايتَه عن نفسه، أحرقوها  له للأبد من دون حرقها مادياً كما فعل الحرامي في فيلم داود عبد السيد، لأنّ في الواقع غير السينمائي لم تتصاعد الدراما لتصل ذروتُها إلى لحظة فقء المواطن عين الحرامي بينما يواجهه بـ«جهله» صارخاً. الحرامي في الواقع غير السينمائي لم يحرق للمواطن روايته، بل رفض قراءتها من الأساس وقرّر عدم الاكتراث بها، واكتفى بتصفية حساباته مع المخبر والضابط ليومين على الأكثر، ثم انصرف عن الاشتباك المتحمّس لينسحب بعدها متسلِّلاً من المشهد، حتى أنه بعد شهور راح يتساءل في خبث ريفيّ عن كنه الذين حرقوا الأقسام وحطموا الشرطة ولمصلحة من. لقد تشكك الحرامي في المواطنين جملةً، وتعامل كما لو أنّ هناك شركاً استراتيجياً يُنصَب له بغرض استدراجه نحو المزيد من الآلام والتضحيات المجانية التي سيحصد ثمنها «المواطنون»، ولن يحصل هو في المقابل إلا على أناشيد المجد.


الضابط يقتصّ من المواطن في عمليّة انتحاريّة

الضابط، من ناحيته، لم ينسَ للمواطن افتتانه المراهق بروايته. وبتوهّمه سيادةً أخلاقيّةً وخطابيّةً على الجميع،  تصوّر أنّه قادر على تقويم الجميع في عملية طموحة واحدة تشمل تأديب المخبر وتسيير الحرامي في مقدّمة مواكب معاركه. كما لم ينسَ الضابط للمواطن خيانته زمالة الفصل الدراسي ونكران أخوّة الطبقة الاجتماعية، فقرّر تأديب الأخ إلى حدود الإلغاء، فأعاد صياغة علاقة القوى مع المخبر بشكل مختلف سمح فيها له ببعض الشراكة، كي يتفرّغا معاً للاقتصاص من جموع الحرامية الذين شاركوا في الثامن والعشرين من يناير، قصاص ربما لا يعرف عنه المواطن المُلغاة مواطنته أي شيء، أو ربما لا يريد أن يعرف، كعادته دائماً.

هنا لا يمكن أن ننسى المخبر ومكانته في الرحلة. فإذا كان الضابط هو المواطن النظامي، فالمخبر هو  الحرامي الذي يخون إخوته ويتنكّر لهم باسم الحفاظ على النظام. في المدارس الحكومية المصرية، يوجد نظام اسمه الشرطة المدرسية يتكوّن من الطلبة العسس الذين يحترفون الوشاية بإخوتهم الحرامية لدى السلطة المدرسية، وفي الأغلب لا يفوز هؤلاء العسس إلا بقليل من المكاسب وينالون في المقابل استخفافاً واحتقاراً عميقاً من زملائهم يصيبهم بخوفٍ ونقصٍ أبديّ. ومثلما يحتقر جموع الطلبة أفراد الشرطة المدرسية، يحتقر عساكرُ الجيش زملاءهم «السِيَك»، والعسكري السيكا هو جندي يقوم بنفس أدوار الشرطة المدرسية، لكن داخل وحدات القوات المسلحة، وهو بالمثل لا ينال إلا احتقار زملائه، بل وضباطه أيضاً- يا لها من مواقع تعسة بقدر ضروريّتها .

لكن في لحظة «انتفاضات الحرامية»، ينضمّ كثير من المخبرين إلى إخوتهم في الطبقة، بعضهم شارك في حرق الأقسام يوم 28 يناير 2011 بعد أن جلبهم الضبّاط يومها على عجلٍ لحمايتها. فالمخبر هو حضور شديد الحساسية والذكاء، يؤمن بنفسه تمام الإيمان. وإذا كان الضابط يؤمن بسلطته العليا وأحمالها، وبالتالي استحقاقاتها، فالمخبر في المقابل لديه تمام اليقين الذاتي في حكمة تقديره. فهو الحارس الحقيقي للنظام الاجتماعي وحامل المفاتيح  لمداخل ومخارج الجسر الذي يربط بين عوالم المواطنين وعوالم الحرامية. وفي ثورة يناير التي كانت بالأساس صراعاً داخل عوالم المواطنين، وتحديداً بين المواطن المتقدِّم وشقيقه الضابط، تحمّل المخبرون انتقام إخوتهم الحرامية وغضبهم لبضعة أيّام امتدّت أسابيع في بعض المناطق، وأعلن بعض المخبرين توبته تحت وطأة الإدانة الشعبية، وبعضهم صمد صموداً عقائدياً. ووسط سكرة صراعات المواطنين التي امتدّت عامَيْن ونصف، ذاب المخبرون في أخويّة الحرامية الممتدّة على عموم البلاد ليعملوا مراسلين منهم ولهم خلف خطوط الأعداء، حاملين لهم رسائل قادمة من الضابط في الأغلب.

تناحرت صنوف المواطنين لعامين ونصف العام، أفرطوا في شراب مواطنيّتهم لحدود السُّكر وتمادوا في استعراض مفاتنها، حتى أنهم خاضوا حرباً خطابية استمرّت ستّة أشهر على الأقلّ عنوانها «الدستور أوّلاً أم الانتخابات أوّلاً». في بلد أربعة أخماسه على الأقل من الحرامية والمخبرين، لم يكن عجز المواطنين عن إثبات جدارة حكم شعبهم الحرامي مفاجأة، ليعود الضابط مرة أخرى ممسكاً بحزامه الميري صارخاً في الجميع «أنا راجل البيت هنا»، وراح يكيل الضرب في إخوته المواطنين يميناً ويساراً، ويدمي أجسادهم مهيناً موقعهم المصون، بعد أن ظلوا لعامين ونصف يعمّقون جرحه النرجسي ويلوكون كلاماً كبيراً مجرّداً لا يستسيغه ولا يراه عملاً من أعمال الرجال.

بعدما استعاد كرسيّ عرش «رجل البيت»، شنّ الضابط حرباً ضروساً ضدّ «الكلام الكبير» بكلّ أنواعه. حرم المواطن من الميكروفون والاحترام، ثمّ تطوّرت حربُه لتكون ضدّ الكلام عموماً. رحلة الانتقام هذه أنستْه المكوِّن المواطنيّ في ذاته، ومع الوقت، بدأ يتنكّر لهذا المكوِّن- بعد أن كرهه- لصالح اللاشيء. عقائدياً، لم يعبّر الضابط عن نفسه بعد في صورة خطاب متماسك، لكنّه على كل حال قرّر أن يحلّ هو محلّ كلّ المواطنين، فأصبح لا لزوم لهم في نظره بعد أن فقدوا عقلهم يومَ ظنّوا أنّهم وحدهم قادرون على إدارة عالمٍ لم يفهموه قطّ، بل ويخافون منه. كان الأجدر بهم أن يدينوا له بالفضل على حمايتهم منه.

وبينما يسير الضابط في غيّه مختالاً، يتعمّق جرحه النرجسيّ أكثر وأكثر إذ يدرك أنّ قوّته الباطشة لن تجعل من حماقته حكمة، فقرّر تَعَقُّب كلّ من يكاشفه بحماقته، يزداد عصاباً كلما واجهه آخر من تبقّى من المواطنين  الشجعان بأنه قد يكون الأقوى ولكنه ليس الأذكى أو الأعلم. لكنّ الضابط يريدها ملحمةً اختار المنطقَ فيها  عدوّاً فكرّ بسيفه في صفوف المواطنين حتى لم يعد لديهم خيار سوى الرحيل والسجن أو التحوّل إلى حرامية ومخبرين متنكّرين في زيّ مواطن كما فعل سليم سيف الدين في الفيلم. لم يعد الأمر مجرّد تنكيل بقصّة اسمها «الثورة»، أو مطاردة لشبح يوم اسمه «28 يناير 2011»، بل بات اجتثاثاً للمواطن نفسه وإنهاءً له، ليصبح الضابط هو المواطن الواحد الأحد، طبيب الفلاسفة وهُدهُد سليمان وصقر قريش.

في رحلة اجتثاث المواطن وانتحال اسمه حصراً من قِبَل الضابط، تتعرّض الدولة الوطنية الحديثة في مصر لخطر وجوديّ، لأنّه لا يمكن لهذه الدولة أن تحيا من دون مواطنيها، فالمواطن إذ يتهشّم تتهشّم معه كلّ الأشياء وفقاً لقوانين الأواني المستطرقة، لا إعلام ولا صحافة ولا فنون ولا رقابة ولا لغة ولا منطق. شنّ الضابط حرباً مفتوحةً ضدّ كل إنتاج رمزيّ أيّاً كان تجلّيه حتى أصبح من الصعب على أي طالب يدرس العلوم الإنسانية إجراء بحث ميداني. (أحد الأصدقاء كان ينهي رسالة دكتوراه من جامعة أميركية عن تاريخ القضاء المصري في بداية القرن العشرين. أثناء بحثه الميداني، زار أحد القضاة في منزله ليجري حواراً معه. خرج من الحوار إلى السجن لمدّة عامين، ولا يزال ممنوعاً من السفر حتى الآن، بعد مرور خمس سنوات). في هذه الأجواء، يمكن لكوبري أن ينشأ مائلاً، أو لطريق أن يُرصَف مبتوراً، يمكن قطع كل أشجار القاهرة تحت عنوان «التطوير العمراني»، يمكن أن تُهدَر كلّ الأموال وتُسرَق كل العوائد في انتقام عابث انتحاري من النفس، فهي أوانٍ مستطرقة، كما قلت.

يتحصّن الضابط الآن بيقينه الدينيّ المؤمن بأنّ مصر المذكورة في القرآن لن يمسّها أحد بسوء، فهي أقوى من الزمن كما غنّت الفنانة الراحلة شادية. دخل الضابط في طور الدراويش مدمني البوظة من أبناء عوالم نجيب محفوظ الروائية، وأصبح كرجل البيت المجنون الذي يطيح في النساء ضرباً ثم يشعل كبريتاً واضعاً أحد أطفاله فوق أنبوبة بوتاجاز ليهدّد كل الجيران بانفجار ومأساة. لقد بتر الضابط أطرافه يوم اجتثّ القطاع الأكبر من إخوته المواطنين ونسي في الأثناء مواطنيّته وحداثته هو، تلك التي تتآكل يوماً تلو الآخر في رحلة الغيّ والجرح النرجسي.

ومثلما نصح الضابط أخاه المواطن بحبّ المخبر والحرامي في الفيلم، أجد نفسي أنصحه هو بصوت راوي أفلام داود عبد السيد: عليه أن يحبّ أخاه المواطن هو الآخر، فمصر ليس لديها ترف الردّة عن الحداثة إذا أرادت الحفاظ على وجودها. ليس لديها طوائف أو جهات أو عصبيات يرتدّ لها السكان ويحتمون بها حال تضعضع وجود دولتهم الحديثة. نحن الآن في ورطة كبيرة لأنّ الجيش في مصر هو أساس الحداثة، وهو الآن مَن يحطّم أسُسها ويدمّر تقاليدها، وردّة مصر عن الحداثة تهديد وجوديّ لها لأنّ في ارتدادها شبح ماضيها المملوكي حيث العامّة هم من الأقنان وأشباه العبيد، ولا يوجد شيء اسمه مئة مليون قنّ في هذا الزمان أو في أي زمن. لا يمكن لمئة مليون قنّ أن يعيشوا في عالم حديث لأنّ قوانين القنانة لا تحتمل أعداداً كهذه. هذا خطر وجوديّ بالفعل.

اجتثاث المواطن وإخفاء الحرامي وجنون الضابط وعصام الشوالي*
ملحوظـــــــــــــــــــــــــــة

*عصام الشوالي: مذيع كرة قدم تونسي يحتكر التعليق على شاشات الفضائيات العربية المتخصّصة منذ خمسة وعشرين عاماً. يجيد فنون الإزعاج واللغو وهتك عرض الكلمات، متخصّص في نظم الضجيج بأبشع ما في الحماسة العربية من فسو بلا كلل أو راحة أو رحمة، حتى أنه يغتصب مسامعك بوضع كل سيناريوهات المباراة جملةً أمامك، فإذا ما أصابت واحدة منها أذلّك هو بصدق «حدسه» راكلاً بيضتيك بلا جريرة غير أنك عربيّ لا خيار له في ما يشاهد غير الاشتراك في الباقة القطرية. لذا، ليست صدفة أن تقتصّ  لكرامتنا بعض الفيديوهات التي تلخّص مباريات كرة القدم على منصّة اليوتيوب فتُعَنْون نفسها بـ«شاهد أهداف اللقاء وملخّص اللمسات وجنون عصام الشوالي».

اخترنا لك

فكرة

مهمّة عمل طويلة

مدى مصر

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
نتنياهو يهدّد المحكمة الجنائية وكل من يتعاون معها
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
21-11-2024
أخبار
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
25 شهيداً في عدوان يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني 2024
3,583 شهيداً، 15,244 مصاباً
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 21/11/2024
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة