المخيّمات من أجل غزّة 
28
دقيقة

شكّل الحراك التضامني وغير المسبوق مع فلسطين، والنابع من أحرام الجامعات الأميركية، مفاجأةً للكثيرين، ولا سيّما بعد قمع «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» ومنع العمل الناشطيّ الفلسطيني في المجال الثقافي في السابق. لا شكّ في أنّ تحوّل «الإبادة الجماعية التدريجية» في غزّة إلى «حرب إبادة مشهدية» كما وصفها طالب من جامعة نورث وسترن (أنظر أدناه)، شكّل أحد الأسباب الرئيسية لموجة التضامن العالمية هذه. فقد فرضت الإبادة المستمرّة، التي سلّط انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الهواتف الذكية الضوء عليها، فرضت نفسها كالحدث الأبرز في عصرنا، على الرغم من الجهود العنيفة التي بذلتها السلطات للعودة إلى التوافق الأيديولوجي الذي كان سائداً قبل 7 تشرين الأول. 
لكن العنف غير المسبوق لهذه الإبادة الجماعية لم يولّد هياكل تضامن من العدم. فمنذ فترة، وهناك تحوّلات غير مرئية تقوّض ببطء التوافق السائد والحاكم. فقد وضعت عقود من العمل الناشطيّ في الولايات المتّحدة، من حركة «ستاندنج روك» (Standing Rock) و«فرغوسن» (Ferguson) وصولاً إلى «انتفاضة جورج فلويد» و«كوب سيتي» (Cop City)، أُسُس تحوّل النقد في الولايات المتحدة ليصبح أكثر راديكالية مع الوقت، كما شكّلت تنشئةً سياسيةً للعديد من المشاركين في المخيّمات الحالية. 
تقاطع مسار التحول الراديكالي هذا مع العمل الناشطيّ حول فلسطين، والذي كان قد تنامى بعد قمع «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» في أوائل القرن الحادي والعشرين داخل الأحرام الجامعية، وبدأ بالتأثير مباشرةً على الساحة السياسية، أولاً بحلول مسيرة العودة الكبرى عام 2018، وثمّ بحلول أحداث الشيخ جراح عام 2021. وتقاطعَ المساران مع التعاون المتزايد بين منظّمين فلسطينيين وناشطين في حركات أخرى (بما في ذلك تلك المذكورة أعلاه)، ليمهّدا الطريق أمام لحظة التضامن الحاضرة. 
تَبرُز قصّة الارتباط الوثيق والمتزايد بين مختلف حركات الاحتجاج ولحظات الاستياء بوضوح في المقابلات المنشورة أدناه. يُشكّل الفضاء الجامعي المتنازع عليه، وموقع خطوط التصدّع الحالية، موضوعاً أساسياً في المقابلات.

في القمع العنيف وغير المسبوق للمخيّمات، فقدت الجامعات ادّعاءها الليبرالي بكونها مؤسسات تفكير نقدي لتبدو كنقطة تلاقٍ في سيرورة إعادة إنتاج الأساس الأيديولوجي والعسكري والاجتماعي للإمبراطورية الأميركية.

يتزامن هذا النقد للجامعات من قبل المخيّمات مع تنامي القمع اليَمِيني لها، الرامي إلى سحق أحد آخر مواقع الاحتجاج المتبقية. وهذه الطبيعة المبهمة للجامعات، كنقطة تلاقٍ في إعادة إنتاج السلطة وكحيّز للاحتجاج على حدّ سواء، هي ما حوّل المخيّمات إلى إحدى أدوات النقد والرفض الأكثر فعالية في الحاضر، ومهدّ الطريق لتحوّل «فلسطين» إلى عنوان جميع مسارات الانتقاد المتقاطعة هذه. 
ساهمت التغطية الإعلامية غير المسبوقة لعنف الإبادة، إلى جانب انسداد الأفق السياسي المتمثّل بانتخابات رئاسية أميركية مرتقبة بين مرشّحَيْنِ مؤيّدَيْنِ بالكامل لأعمال إسرائيل، في إضفاء طابعاً عاطفياً خاصاً على اللحظة السياسية الحالية. «المخيّمات مشروع أخروي بكل وضوح». هذا ما كتبه أدناه أحد الأشخاص الذين أجرينا مقابلةً معهم. كلماتٌ تعكس شعوراً سائداً بعدم وجود أي شيء يمكن خسارته في حاضرٍ لا يبدو أنه سيحول دون إمكانية عيش حياةٍ كريمةٍ وحسب، ولكنه أيضاً لا يقدّم أي مخرجٍ من الإبادة الجماعية، أو حتّى لمحة عن مستقبل آتٍ. الموجة الاحتجاجية الحالية هي انتقادٌ لنظام، أكاديمي ومهني، يعاني من أزمة منذ عقود. يجد المحتجّون أنفسهم أمام «خيار هوبسون»، وهو آخر نسخة من الابتزاز الليبرالي الذي حكم الديمقراطيات الغربية منذ نهاية الحرب الباردة. فيُقال لهم إنّه من أجل مقاومة المرشحين اليَمِينيين الشعبويين، عليهم أن يتقبّلوا الإبادة الجماعية. 
لقد رفضوا اليوم أن يتعرّضوا للابتزاز.   
تعطينا مقتطفات المقابلات الواردة أدناه، والتي أُجريت بين أواخر نيسان ومنتصف أيار 2024، لمحةً عمّا دفع الطلّاب إلى التظاهر في مختلف الجامعات الأميركية. لا تدّعي الأجوبة أنّها تمثّل الحراك الطلّابي بأكمله، أو حتّى أنّها تمثّل أراء كلّ المخيّمات. لكنّها تحدّد ملامح وعي ناشئ، مع ما ينطوي عليه من أوجه تنافر وتعارض وهشاشة. لقد تواصلنا مع طلّاب منظّمين في مرحلتي البكالوريوس والدراسات العليا ومشاركين من غير الجامعيين في المخيّمات التسعة التالية في مختلف أنحاء الولايات المتحدة: هارفرد ونورث وسترن وشيكاغو وجامعة مدينة نيويورك وتكساس وجامعة ماساتشوستس في أمهرست وبرينستون وكولومبيا وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس. ووزّعنا تسعة أسئلة، جمعناها لاحقاً ضمن سبعة أسئلة، اخترنا أجوبة منها وأوردناها أدناه. تُنشر هذه المقابلة الجماعية المحررة بالعربية في ميغافون وبالإنجليزية في Endnotes، كما يتوفّر نصّ المقابلات الكامل على موقع Endnotes. شكراً لأماني خليفة وصافي شامون وآخرين لكونهم مصدر إلهام بعض هذه الأسئلة، ولدورهم في تنظيم بعض المقابلات.

لِمَ غزّة الآن؟

لماذا أصبحت «غزّة» شعاراً جامعًا في السياسة بعد سنوات أو عقود من كون فلسطين قضية هامشية أو مهمشة في الولايات المتحدة؟

(برينستون، AR، منظّم/ة مع حركة برينستون لسحب الاستثمارات من نظام الفصل العنصري الإسرائيلي): لا شكّ في أنّ جيل منظّمي «انتفاضة الطلّاب» بلغ سنّ الرشد في جامعة كانت «فلسطين» قد وصلت فيها إلى مستواها الأول من التطبيع الليبرالي. كان إدوارد سعيد موجودًا في العديد من المقررات، وكان درويش وأوفيد يُعتبران من «شعراء المنفى»، وكان ناديا «طلّاب من أجل العدالة في فلسطين» و«أصوات يهودية من أجل السلام» لا يختلفان عن النوادي الرياضية. بالطبع، يشكّل الاستيعاب الليبرالي دعوةً مثاليةً إلى الراديكالية. 
ولا شكّ أيضاً في أنّنا، في صيف 2020، شاهدنا بشكلٍ جماعيٍ حكوماتنا تضحّي بالملايين من أجل فيروس لصالح رأس المال. وفي خضمّ ذلك، شاهدنا مقتل جورج فلويد على يد شرطيّ في مينيابوليس بسبب ورقة 20$ مزيّفة، ما أدّى إلى رفض منهجي لثقافة السجن، وولّد ممارسة إلغائية (abolitionary practice) في نفوس الشباب. لذا، يكمن أحد الأجوبة على ذلك في أنّنا كنّا واسعي الاطلاع وأفضل اتصالاً وأفضل تنظيماً، ومدركين تمام الإدراك للعنف الذي اتّخذ طابعاً عنصرياً، وحاقدين على حكومتنا وكارهين للشرطة. 

وعلى الرغم من ذلك، قد يكون أحد الأجوبة الأبسط أنّ مشاهدة إبادة جماعية توقظ شيئاً عميقاً في روح المرء. أعتقد أن هذا هو الأمر على الأغلب.

(برينستون، CB، طالب/ة منظّم/ة في مرحلة الدراسات العليا): أعتقد أنّ مركزّية غزّة اليوم تعود إلى وضعها الكابوسي كموقع لعنف صهيوني مشهدي. ففي حين اضطرّ الفلسطينيون المقيمون في أجزاء أخرى من فلسطين المحتلة إلى مواجهة العنف اليومي للمشروع الصهيوني الاستيطاني- الاستعماري، كانت حملات القصف الخمسة للفلسطينيين المقيمين في غزّة منذ «الانتفاضة الثانية»، الحالات الأكثر بروزاً والأكثر وضوحاً على نطاق واسع من العنف طويل الأمد المرتبط بالإبادة الجماعية الذي تقوم عليه الدولة الإسرائيلية.

(نورث وسترن، KK، طالب/ة منظّم/ة في مرحلة الدراسات العليا): إنّ التعبئة الجماعية التي شهدناها هي نتيجة حقيقة لم يعد من الممكن إنكارها، وهي أنّ إبادة جماعية تدريجية مستمّرة في غزّة منذ عقود قد تحوّلت اليوم إلى حرب إبادة مشهدية – يبثّها الفلسطينيون في غزّة بثاً مباشراً للعالم. وهذا ما جعل الاستهلاك الغربي «الآمن» للرعب عبر الشاشات آمرًا لا يُطاق.

(شيكاغو، CI): من الصعب شرح هذه الأمور بعوامل سببيّة مباشرة، ولكن لا شكّ في أنّ دعم الشباب لفلسطين قد اتّخذ منحى تصاعدياً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة. وقد برز هذا التحوّل بشكلٍ خاص في صفوف الأميركيين اليهود الأصغر سناً- 33% منهم كانوا يعتبرون إسرائيل نظام إبادة جماعية حتّى قبل الهجوم الحالي – ولكن يمكن ملاحظة ذلك في صفوف مجموعات أخرى أيضاً. هناك على الأرجح عددٌ من العوامل المؤثرة هنا. فقد زاد بشكلٍ ملحوظٍ صعودُ حركة «حياة السود مهمة»، على سبيل المثال، حساسية العديد من الشباب تجاه أنظمة الهيمنة العرقية وعنف الدولة. وقد أُجبِر أيضاً العديد من الأميركيين من غير السود على محاولة فهم ضلوعهم الجماعي في أنظمة العنف هذه، لدرجة لم يكونوا قد قاموا بها من قبل، لسوء الحظ. وقد دفع ذلك بعددٍ غير مسبوق من الشباب الأميركيين إلى الشوارع– العديد منهم لأول مرة– بأساليب شكّلت تحدّياً جذرياً للمعايير السياسية والخطابية والسلوكية التي فرضتها الديماغوجية الانتخابية الليبرالية. 
تجدر الإشارة إلى أثر وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الهواتف الذكية هنا أيضاً، إذ حتّى وقت قريب جداً من تاريخ الولايات المتحدة، كان للشركات الإعلامية تأثير كبير على الخطاب العام. وعندما سُمح لفلسطين بأن تدخل إلى هذا الخطاب، قامت بذلك بشروطٍ نصّتها وسائل الإعلام هذه والمصالح السياسية التي تخدمها. وهذا جزء مما كان يشير إليه إدوارد سعيد عندما وصف، قبل أربعة عقود تقريباً، الفلسطينيين على أنهم يُحرمون من «إذن رواية» قصصهم ومعاناتهم وتطلعاتهم السياسية الخاصة. وقد بدأت الأمور تتغير في السنوات الأخيرة، ليس لأن الشراكات الإعلامية أصبحت أقل عدوانية تجاه الفلسطينيين، ولكن لأنّها فقدت إلى حدّ كبير قدرتها على تنظيم ما يدخل إلى الوعي العام وما لا يدخله. وبات عدد متزايد من الأميركيين، ولاسيما الأصغر سناً منهم، يحصلون على الأخبار حول العالم من صفحات ومنظمات وصحافيين مستقلّين يتابعونهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي هذا الإطار، استطاع الفلسطينيون وشعوب أخرى مقموعة التواصل مباشرةً مع الجماهير الغربية بطرقٍ لم يكن باستطاعتهم التواصل بها من قبل. 

 
(هارفرد، FA، SG، SW، OL، وSB، منظمون مع «ائتلاف هارفارد خارج فلسطين المحتلة»): لطالما مثّلت فلسطين، ولا سيّما بالنسبة إلى الشباب، القضية التي لم تتمّ تسويتها والنضال الذي لا يزال يجب خوضه. هناك أسئلة مهمة يجب طرحها حول سبب كون فلسطين، بالنسبة إلى اليسار، إحدى المسائل المحورية في عصرنا، هذا إن لم تكن المسألة المحورية فيه. وهذا الأمر صحيح بالتأكيد منذ ما قبل تشرين الأول 2023. 

إن كانت غزّة قد أصبحت شعاراً جامعًا، فالفضل يعود في ذلك، أوّلاً وقبل كلّ شيء، إلى طول أمد المقاومة الفلسطينية بجميع أشكالها وتجدّدها.

وترتبط قوّة الحراك الحالي مباشرةً بالدور الذي أدّاه الفلسطينيون في رفض القبول بتأجيل تقرير مصيرهم إلى أجلٍ غير مسمّى. وعلينا ألاّ نستخفّ بأهمية 7 تشرين الأول– التجلّي الأخير والأقوى لهذا الرفض– ولا سيّما في ما يتعلّق بتعبئة المجتمع الدولي، أو على أقلّ تقدير، بإجبار العالم على التطرّق مجدداً إلى القضية الفلسطينية. ولكنّ أحداث أيار 2021 [تظاهرات الشيخ جراح] كان لها دور خاص في تسييس الجيل الحالي من الطلاب المتظاهرين في مختلف أنحاء الولايات المتحدة والعالم، خصوصاً وأنّ ذلك كان أيضاً لحظةً ازدادت فيها شهرة عدد من الناشطين والمفكّرين الفلسطينيين الشباب المؤثّرين، في وسائل الإعلام التقليدية ولكن على وجه الخصوص على مواقع التواصل الاجتماعي. وجزء من الوعي والبنى التحتية التنظيمية التي تمّت تعبئتها في مخيّمات 2024 بُني انطلاقاً من تجربة عام 2021، فضلاً عن التظاهرات التضامنية مع مسيرة العودة الكبرى عام 2018. 
 
(جامعة تكساس في أوستن، LL): أعاد «طوفان الأقصى» مسألة التحرير الفلسطيني بالقوة إلى وسط اهتمام العالم. لقد كان العمل التضامني السابق حول فلسطين، مثل #أنقذوا_الشيخ_جراح أو «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» معزولاً ومقتصراً بشكلٍ أساسيٍ على الناشطين من الجالية الفلسطينية وحلفائهم. خلال العقود القليلة الماضية، قام منظّمو التضامن مع فلسطين في الولايات المتحدة بعمل ميداني مهمّ للغاية بالنسبة للّحظة الحاضرة. فأنتجت عقودٌ من المناصرة والحملات، من «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» وصولاً إلى التحرّكات التضامنية، وعياً ودعماً للقضية الفلسطينية، مستقطبةً المزيد من المتعاطفين معها. وقد أظهر المنظّمون الفلسطينيون المشاركون في الانتفاضات المناهضة للشرطة والحملات الإلغائية ونهضة الشعوب الأصلية والدفاع عن أراضيها وتحرّكات أخرى، الروابط المادية بين أعدائنا المشتركين، وساهموا في نشر ثقافة تفكير استراتيجي نضالي في مختلف الحركات. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن تكون هذه الموجة الأخيرة من المقاومة قد انتشرت ووصلت إلى أحرام الجامعات. ففي العديد منها، عادةً ما تكون الفروع المحلية لنادي «طلّاب من أجل العدالة في فلسطين» أو ما شابهه من منظمات تضامنية، المكوّن الأكثر اتساقاً، وأحياناً الأكثر راديكالية، للبيئة الطلّابية الراديكالية. وبسبب ارتباطها بشبكة منظّمة أوسع من العمل التضامني مع فلسطين، تستطيع هذه المنظمات مقاومة حلقات التبدّل والانهيار التنظيمي التي تلقي بثقلها على غالبية المجموعات اليسارية الجامعية. 

سُلالة المخيّمات

هل تنتمي حركتكم إلى سلالة من الحركات الاعتراضية الأميركية الأخرى؟ هل تُنبئ بتحوّل على صعيد الأجيال في الولايات المتحدة؟

(برينستون، AR): أعتقد أنّ جوابي على السؤال السابق يرتبط في الحقيقة إلى حدّ كبير بهذا السؤال. فإذا أردنا التعمّق أكثر بالموضوع، أعتقد أنّ المقاومة تصبح ممكنة أكثر عند أجيال متمسّكة أقلّ بحياتها هي وأكثر بحياة الآخرين وبالمستقبل. لا يمكنني أن أتكلّم عن الأجيال التي سبقت جيلي، ولكن شخصياً، يمكنني القول إنني ترعرعت في ظلّ المرض المزمن للروح الأميركية وعشته بكلّ تفاصيله. لقد قامت هذه الأمة بالتقليل من شأن الحياة و ازدرائها لدرجة أنه يبدو من المستحيل عدم القول: أنظر إليّ، إن كنتَ غير مهتمّ بي لهذه الدرجة، فاسمح لي إذن أن أستخدم جسدي وعقلي بطريقة غير آمنة وأن أخاطر بهما، لنرى إلى أين يوصلنا ذلك. العديد من معارفي أكاديميون لديهم مسيرة مهنية مثلي، باتوا مستعدين للالتفات إلى فلسطين ولقول إنها تستحق أن نبذل ذواتنا بأكملها من أجلها، كلّ ذرّة منّا– وهذه التصرفات واللفتات تحدث فقط عندما تفهم كيف تنظر حكومتك أنت إلى هؤلاء الأشخاص أنفسهم، مبتهجةً بزوالهم، علماً أنها ستنظر إلينا بتلك الطريقة أيضاً لو سنحت لها الفرصة.

(برينستون، CB):

ما تجسّده «انتفاضة الطلاب» هو الفهم المتزايد لفكرة أنّ نضالنا من أجل العدالة في الولايات المتحدة مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بنضالات نزع الكولونيالية حول العالم.

بدأت المخيّمات بمبادرة من طلّاب بلغوا سنّ الرشد خلال أزمة مياه فلينت، ومظاهرات «ستاندنج روك» (Standing Rock) وخط أنابيب داكوتا، وتظاهرات جورج فلويد، وحركة «حياة السود مهمة». أظهرت هذه الحركات، المنظّمة تحت شعار أزمة المناخ العالمية، بوضوح أنّنا لن نجد عدالةً في أمّة مبنية على استخراج الموارد والموت الجماعي. ما نشهده إذاً هو رفضٌ واسع النطاق لأكذوبة إعادة إنتاج الرأسمالية. علينا أن نصنع عالماً آخر لنبقى على قيد الحياة.
رأيت لافتة من مخيّم جامعة تورنتو عليها رسم «أنجلس نوفس» (Angelus Novus) للفنان بول كلي. كُتب على اليافطة قولٌ من أقوال سيزير. جاء فيه: «الشيء الوحيد في العالم الذي يستحقّ أن يبدأ... نهاية العالم، بالطبع!» المخيّمات مشروع أخروي بكل وضوح، ويا له من فرح، يا لها من قوة، بأن أكون جزءاً من ذلك! إن كانت المخيّمات رفضاً للانقسام بين الطلاب وأعضاء المجتمع، فهي أيضاً رفض للعالم كما نعرفه: منفرد، منقسم، ومعنَّف. على غرار حركة «احتلّوا»، المخيّمات طريقة احتجاج بقدر ما هي طريقة لبناء مجتمعات والعيش بوئام.

(هارفرد، FA، SG، SW، OL وSB): لم يغفل عنّا أنّ «انتفاضة الوحدة» في أيار 2021 حصلت تقريباً بعد عامٍ بالتحديد من التظاهرات التي تلت مقتل جورج فلويد عام 2020. ومنذ عام 2014، مع انتفاضة «فيرغسون» بعد مقتل مايكل براون وعملية «الجرف الصامد» في غزّة، تكمّل النضالات المناهضة للعنصرية والتضامن الفلسطيني في الولايات المتحدة بعضها بعضاً. وائتلافنا ليس سوى مثل على الروابط التنظيمية الملموسة بين المنظمين الأميركيين من أصول أفريقية والناشطين في مجال التضامن مع فلسطين التي تشكّلت خلال العقد الأخير من الاحتجاج.

(جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، JP، مشارك/ة في مخيّم جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس): العديد من الطلاب الذين شاركوا في تظاهرات الحرم الجامعي اليوم كانوا قد شاركوا في التظاهرات المناهضة للعنف المسلّح في مدارسهم الثانوية عام 2018. وتخرّجوا تقريباً خلال الفترة التي قُتل فيها جورج فلويد عام 2020. بالنسبة إليهم، قد تكون تظاهرات جورج فلويد تجربتهم الأولى في حراك اجتماعي كبير. لست متأكداً من أنّ هذا الحراك يشير إلى تحوّل في صفوف المتظاهرين، ولكن من المؤكّد أنّه يشير إلى تحوّل في طريقة استجابة الدولة للتظاهرات. فهذا القدر من قمع التظاهرات السلمية غير مسبوق على الإطلاق. وهذا يؤدّي إلى تحوّل هذا الحراك إلى حراكٍ راديكالي للغاية.

(جامعة ماساتشوستس في أمهرست، RH وKG، عضوان في نادي «طلّاب من أجل العدالة في فلسطين» و«حركة إلغاء السجون»): الحراك المؤيّد لفلسطين وحركة إلغاء السجون وحركة «حياة السود مهمّة» مرتبطة كلها ببعضها بعضاً. قبل حركة «حياة السود مهمة»، كان هناك «انتفاضة فيرغسون»، حيث رأينا الفلسطينيين يغرّدون للمرة الأولى متوجّهين إلى المتظاهرين الأميركيين، قائلين لهم كيف عليهم التعامل مع رذاذ الفلفل إلخ. وكان في فيرغسون العديد من اللافتات والعديد من الرسائل المرتبطة بفلسطين. وعندما رأينا دريك شوفان يضع ركبته على رقبة جورج فلويد لثماني دقائق – كانت هذه تكتيكات قد رأيناها في فلسطين خلال العقود الماضية. يتدرّب رجال الشرطة هؤلاء على يد قوات الدفاع الإسرائيلية. يُرسَلون فعلاً إلى إسرائيل ويتعلّمون هذه التكتيكات المروّعة، العنيفة من الجيش الإسرائيلي. [هنا] تُدرك إلى أيّ مدى تبدو جميع هذه النضالات متشابكة. الآن تتفتّح أعين الناس هنا على أوجه الظلم، وعلى حريّة التعبير كواجهة.

عندما تُعنّف في حرم جامعتك، تتغيّر حياتك؛ يجعلك ذلك راديكالياً.

 

(جامعة مدينة نيويورك، SK، مشارك/ة في مخيّم جامعة مدينة نيويورك): تتالت النضالات خلال العقد ونصف العقد الماضيين. وتمهّد كلّ موجة جديدة من النضال الطريق أمام الموجة التالية. سرعة انتشار هذا الحراك بالذات، والتكتيكات التي اختارها، وراديكاليته شكلاً ومضموناً، كلّها تصبح أموراً مفهومة عندما يُنظر إليها كجزء من هذا التسلسل. انطباعي هو أنّ العديد من المشاركين في المخيمات كانوا أصغر سنّاً من أن يشاركوا [في تظاهرات] عام 2020. يحاول من لم يكونوا يوماً جزءاً من حراك من قبل بجدّ فهم الأمور بمفردهم من دون أن يصبح الماضي هَوَسهم أو أن يتعرّضوا لخيبات أمل بسببه. هناك مجموعة واضحة من المحطات المرجعية التاريخية: كولومبيا عام 1968، الحراك المناهض للفصل العنصري داخل أحرام الجامعات في ثمانينيات القرن الماضي، وإلى حدّ ما عمليات الاحتلال الطلابية عامي 2008 و2009. ولكن يبدو أيضاً أنّ هناك ذاكرة تاريخية ضعيفة جداً، ولا سيما بالنسبة إلى الماضي الأقرب. رغم ذلك، لا يبدو هذا مفاجئاً للغاية، إذ نعيش في عصر فقدان دائم للذاكرة، على كلّ حراك جديد ينشأ فيه أن يتعلّم مجدداً وبسرعةٍ كبيرةٍ جميع الدروس من الحراك الذي سبقه. 

سياسة سحب الاستثمارات

في دعواتكم إلى «الإفصاح» و«سحب الاستثمارات»، نرى حراككم ينتقل بين حدّين: الأول مادي (لا تجنوا أموالاً بهذه الطريقة)، والثاني أخلاقي (لا تورّطونا؛ لا نريد أن نكون متواطئين). هل يمكنكم، أولاً، أن تعطونا أمثلة ملموسة عن الجانب المادي الأول؟ وما هي برأيكم بعض ممارسات جامعتكم الاستثمارية الأكثر إشكالية؟ ما هي الأهمية الاستراتيجية المحتملة لسحب الاستثمارات من هذه الممارسات؟

(هارفرد، FA، SG، SW، OL، وSB): مطلبنا الأساسي هو الإفصاح عن استثمارات الجامعة وفرض الشفافية بشأنها. هذه ليست وسيلة لتحديد الاستثمارات «السيّئة» وحسب، ولكنها أيضاً طريقة لمحاولة إخضاع القرارات بشأن استثمارات الوقف لرقابة ديمقراطية. يجب أن ينطوي الإفصاح على مشاركة أكبر لطلّاب الجامعة والعاملين فيها في إدارة الأوقاف، ما يقلب النموذج الحالي القائم على لجان استشارية محدودة للغاية ومعنية فقط بمسؤولية المساهمين. 
احتمالات حصول ذلك في هارفرد بعيدةٌ بقدر ما هي طارئة، فهي مؤسسة قاومت بتحفّظها العميق والمتجذّر مراراً وتكراراً محاولات تفويض جزء من حوكمتها على الأقل إلى مجالس الكليّات (ناهيك بالمجالس الطلّابية)،. لهارفرد أكبر وقف أكاديمي في العالم، تتخطّى قيمته الخمسين مليار دولار. 3% فقط من الوقف يُستثمر مباشرة في أسهم متداولة علناً، فيما يتمّ التحكّم بشكلٍ غير مباشر بما تبقّى عبر متاهة من الشركات التابعة. كما خُصِّص 70% من إجمالي الوقف لصناديق تحوّط وأسهم خاصة عام 2023. وبالتالي، فإنّ القسم الأكبر من الوقف محميّ من الإفصاح العام. 
نطالب بإفصاح كامل لأنّه لا يمكن السماح لأوقاف الجامعات بأن تنقل غالبية استثماراتها البغيضة إلى شركات قابضة خاصة يلفّها الغموض ومن ثمّ غسل الوقف بالعدد الصغير من الاستثمارات المباشرة في أسهم عامة في موازاة ذلك. وقد تبيّن مؤخراً أنّ قرار جامعة براون سحب الاستثمارات من الوقود الأحفوري، مثلاً، لا ينطبق إلّا على أقلّ من 5% من الوقف المستثمر مباشرةً في الأسهم العامة. يمهّد نشاطنا من أجل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ومن أجل فلسطين، الطريق أمام مقاومة الحركات الطلّابية لأنواع أخرى من مصادرة الممتلكات عبر التوسّع المالي. 
نطالب بسحب استثمارات الجامعة وشفافيتها على وجه الخصوص، لأنّه لم يسبق للحياة الجامعية أن كانت خاضعة للتوسّع المالي إلى هذا الحدّ. ونعتقد أنّ هذا يزيد من التباين الحالي بين الطلاب وهيئة التدريس والموظفين الذين يدعمون سحب الاستثمارات من جهة، والمدراء المدينين لصفوف المانحين ومدراء الأصول، من جهة أخرى. عبر مقاطعة «التوسّع المالي كالمعتاد» والمطالبة بالشفافية، نسعى إلى التصدّي لطرق تحكّم القوى الرجعية أكثر فأكثر بالجامعة.

(برينستون، CB): في جامعة برينستون أعضاء في مجلس الأمناء يعملون لصالح شركة ر.ت.أكس، شركة الأسلحة التي تزوّد إسرائيل بصواريخ أرض – جوّ وقنابل عنقودية وطائرات حربية استُخدمت لقصف غزّة. تتلقّى الجامعة أيضاً تمويلاً من وزارة الدفاع تتخطّى قيمته الـ300 مليون دولار أميركي. وفي حين لا تُجري الجامعة «رسمياً» أبحاثاً في مجال الأسلحة، يجب التشكيك في تمويل وزارة الدفاع لأبحاث حول «تحسين مخروط المقدّمة» (Nose cone optimization)، على سبيل المثال.

مطلب سحب الاستثمارات المادية والأكاديمية مطلبٌ قوامه ألّا تستولي نزعة العسكرة القائمة على الإفقار الجماعي لشعوبٍ حكمت الولايات المتحدة عليها بالإعدام، على العمل الفكري المنجز في هذه الجامعة.

(جامعة ماساتشوستس في أمهرست، RH وKG): لثلاث كلّيات في جامعة ماساتشوستس في أمهرست شراكات مع شركة رايثيون للتكنولوجيا (Raytheon Technologies). تدفع شركة رايثيون للجامعة لتوظّف داخل الحرم الجامعي، وتعطي الطلاب حسومات على أقساطهم لإجراء أبحاث، وتؤثّر على المناهج الدراسية. ويتمّ تشجيع الطلاب على العمل في قطاع «الدفاع»، حتى أصبحت شركة رايثيون سادس أكبر موظِّف لخرّيجي جامعة ماساتشوستس في أمهرست عام 2021. تهدف مطالبنا إلى قطع العلاقات مع شركة رايثيون. كما نعترض على تخصيص مبلغ 7 مليون دولار سنوياً إلى إدارة الشرطة، ما يفاقم معاناة الطلّاب، ونعمل من أجل إعادة تخصيص هذه الأموال لمعالجة أزمة السكن الجامعي. ونريد أيضاً أن تُفصح مؤسسة جامعة ماساتشوستس في أمهرست عن مكان استثمار وقفنا وسحب الاستثمارات من مصنّعي الأسلحة. انضمّ مارتي ميهان، رئيس نظام جامعة ماساتشوستس في أمهرست، إلى ائتلاف «جامعات ضدّ الإرهاب» الذي ركّز بشكلٍ خاص على دعم إسرائيل بعد 7 تشرين الأول. خلال الفصل الدراسي الماضي، استفدنا من «قانون حرية المعلومات» للبحث عن مراسلات حول فلسطين وإسرائيل ومتظاهرين للكشف عمّا كانت الإدارة تناقشه في رسائلها عبر البريد الالكتروني. وعثرنا على مراسلة مع «رابطة مكافحة التشهير» تكشف أنّ إدارة الجامعة كانت تتناول «فطوراً متأخراً مع الرابطة» حيث كانت تناقش نقاطاً مطروحة للنقاش من قِبل الرابطة، وكانت تساوي بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. كلّ هذا يعني أنه من الواضح لماذا هناك تباين بين قيم الطلاب والقرارات المؤسسية.

(جامعة تكساس في أوستن، LL): لجامعة تكساس ثاني أكبر وقف بين الجامعات، تسبقها جامعة هارفارد فقط. تتضمّن استثمارات الوقف مقاولين عسكريين مثل شركات لوكهيد مارتن (Lockheed Martin) ورايثيون وبوينغ (Boeing) ونورثروب جرومان (Northrop Grumman). وبالإضافة إلى هذه الاستثمارات المالية، تشكّل جامعة تكساس مركز أبحاث يتعاون مباشرةً مع الجيش والشركات. وأبرز ما جاء في هذا الإطار تعاون الجامعة مؤخراً مع وحدة مستقبل الجيش الأميركي، وهي فرقة من الجيش مخصصة لتحديثه.

(شيكاغو، CI): على الرغم من خطاب «الحياد المؤسسي»، لطالما شكّلت جامعة شيكاغو عامل تمكين للاستعمار الإسرائيلي وعدواً للتحرير الفلسطيني. في كانون الثاني الماضي، مثلاً، فيما كانت محكمة العدل الدولية تحقق بجدّية في ارتكاب إسرائيل جرم إبادة جماعية، استضاف الرئيس بول أليفيساتوس قنصلاً عاماً اسرائيلياً بصفته الرسمية لمناقشة طرق «مواصلة تعزيز الشراكات» مع المؤسسات الإسرائيلية. ولكنّ ارتباط الجامعة المادي والايديولوجي الوثيق بالاستعمار الإسرائيلي أعمق بكثير من اجتماع واحد. فمنذ منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حافظت الجامعة على شراكة فاعلة مع معهد إسرائيل، وهو منظّمة دعائية تأسست على يد سفير إسرائيلي سابق وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإستبلشمنت العسكري والأمني الإسرائيلي. ارتبط تأسيس معهد إسرائيل بمؤسسة عائلة شوسترمان– وهي منظّمة صهيونية تموّل المناصرة المؤيّدة لإسرائيل داخل أحرام الجامعات الأميركية– وهو يرسل سنوياً عدداً من المستفيدين من المنح إلى جامعة شيكاغو لإعطاء صفوف قائمة على الدعاية حول إسرائيل وتاريخها. ومن بين المستفيدين من منح المعهد، والذين استضافتهم الجامعة بانتظام، مير ألران، وهو عميد متقاعد من الجيش الإسرائيلي تولّى منصب نائب مدير الاستخبارات العسكرية خلال الانتفاضة الأولى. يستند مير مباشرةً إلى تجربته كعميد احتلال ومخطط استراتيجي عسكري ويعطي دورات حول «مكافحة الإرهاب» تقدّم إسرائيل كنموذج أمني على «الديمقراطيات الليبرالية» الأخرى أن تقتدي به. 
وقد كشف تقرير نُشر عام 2020 أنّ «صناديق التبادل والتجارة» التي تستثمر فيها الجامعة دائماً «فيها مبلغ 6 مليار دولار مستثمر في تصنيع أسلحة تقليدية ونووية على حدّ سواء». ومن بين الجهات المستفيدة من هذا الاستثمار شركات جنرال دايناميكس (General Dynamics) ولوكهيد مارتن وبوينغ ومزوّدون آخرون رئيسيون للأسلحة لإسرائيل. لهذا السبب وللكثير من الأسباب الأخرى، مُنحت سياسات الجامعة الاستثمارية درجة راسب في حقوق الانسان وهي 0/40 من منظمة العفو الدولية. فالجامعة لا تكتفي برفض التوقيع على «مبادئ الأمم المتحدة بشأن الاستثمار المسؤول» وحسب، بل ليس لوقفها، بحسب منظمة العفو الدولية، أي سياسة تذكر حقوق الإنسان كاعتبار، وما من إفصاح عام عن الحيازات الاستثمارية.

(جامعة كاليفورنيا في لوس انجلس، JP): الجامعات مصانع أسلحة. تُطَوِّر التكنولوجيا وتبيّض الأموال وتدرّب العمّال وتصنِّع الموافقة (consent). لأمناء الجامعات صلات مباشرة مع انتهازيّي الحروب مثل شركتي لوكهيد مارتن ورايثيون. ينتهي المطاف بارسال عدد لا يُحصى من الطلاب من برامج العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات للعمل في وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا). يحاول الناس رؤية كيف نجح الحراك من أجل إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. لربما ينفرد هذا النضال بعدد المطالب التي تبدو مهمة وقابلة للتحقيق على حدّ سواء. سيكون مهمّاً للغاية فتح إمكانيّة إجبار جامعات كبرى على فسخ عقود مع مجموعات ذات مصالح صهيونية. إلّا أنّ هناك حدوداً حقيقية للخطابات حول «سحب التمويل» من المؤسسات. كانت هذه إحدى طرق توجيه الطاقة الراديكالية خلال حراك جورج فلويد: بدأ الناس يركّزون على سحب التمويل من الشرطة. لكن من المهمّ أيضاً الإشارة إلى أنّه لا يبدو أن أي قدر من الضغط سيُقنع الولايات المتحدة بقطع العلاقات مع إسرائيل بالكامل.

(نورث وسترن، KK): لاحظنا في سياقنا المحلي أنّ الفشل في تحويل مطلب اقتصادي لسحب الاستثمارات إلى أداة تنظيم سياسي من أجل التحرير والإلغاء، أفسح المجال أمام منطق ماكر من الأعمال التجارية/ التفاوض على عقود للهيمنة على هذا الحراك القائم على المطالب. فالتغلغل في منظمات سياسية مثل «حزب الاشتراكية والتحرير» والبُنى التنظيمية غير الديمقراطية وقيادات أمر واقع انتهازية ولا-أخلاقية  سرّعت هزيمة مخيّم نورث وسترن. تذكّرنا أكثر من مرّة الخيانات الأخيرة لاتحاد العمال في مرحلة الدراسات العليا. لكنّ خيانة حراك التحرير الفلسطيني من أجل فُتات هي إهانة لمعنى الإنسانية بحدّ ذاتها. من دون أفق سياسي يعي أنّ سحب الاستثمارات الحقيقي من الموت لا يمكن أن يحصل ضمن نظام سلطة الحياة والموت (Necropolitical Regime)، تقدّم الحملات من أجل سحب الاستثمارات للجامعة في أفضل الحالات فرصةً لتبييض أوقافها وتلميع صورتها، وفي أسوئها لعبة شطرنج فيها «البعض من الربح، والبعض من الخسارة» تبيع «انتفاضة الطلاب» – فلترقَ إلى اسمها – لقاء المزيد من الموارد الحياتية الطلابية وتمثيل أفضل للتنوع والإنصاف والشمول. 

سياسة التواطؤ

ثانياً، تحوّلون مطلبكم المادي إلى مطلب أخلاقي عندما تشيرون إلى الطرق التي تتواطأ فيها الجامعات الأميركية، أو على الأقل البعض منها، في الإبادة. وهذا المطلب الأخلاقي يفتح الباب أمام تسييس المطلب المادي. هل يمكنكم أن تتحدّثوا قليلاً عن كيف ترون هذا المطلب الأخلاقي الذي تؤكّد عليه حركاتكم، نسبةً إلى الجامعات، ولكن أيضاً نسبةً إلى النظام الأميركي بأكمله؟

(برينستون، CB): الاعتراف بالتواطؤ هو انقطاع عن الفرد بصفته الوحدة الأساسية للتحليل الاجتماعي. أستوحي هنا بعض الشيء من سماح جبر، الذي يصف التفرّد بأنه فشل إبستمولوجي. وهذا يعني أنّه علينا أن نفكّر على مستوى البنى. علينا الإصرار على علاقتنا المتعنّتة. فالاعتراف بالتواطؤ، والحقّ في نفي التواطؤ، هو بشكلٍ جزئي رفض للنية السيّئة التي يقوم النظام الاجتماعي الأميركي عليها. إن لم يكن هناك مفرٌّ من الاستخراج والعنف اللذين ينظّمان اقتصادنا السياسي، فلمَ رفض الاستثمار في الشرّ أصلاً؟ علينا أن نرفض هذه الشروط عند كلّ مفترق طرق ممكن.

(هارفرد، FA، SG، SW، OL، وSB): يقدّم لنا السؤال تمييزاً مفيداً: هل نسعى فعلاً إلى سياسة تستهدف التواطؤ، أم أنّ تحليلاتنا تقودنا إلى تعريفٍ أوسع للمشكلة؟ التواطؤ، بالطبع، على المحكّ. أن نقول إنّ جامعتنا تدعم آلة الإبادة الجماعية والتطهير الإثني مالياً – ما يوحي بدرجة أقل أو بشكلٍ بعيد من التورّط – يعني أن ننسب إلى المؤسسة دوراً ثانوياً في الفظائع. وهذا صحيح إلى حدّ ما، لا سيما عندما نقارنه بأفعال المرتكبين على الأرض في فلسطين.

ولكن هل يكفي أن نتّهم مؤسساتنا بالتواطؤ؟ الجامعات النخبوية مكوِّن أساسي من جهاز الإمبريالية الأميركية.

فهي تدرّب طبقته السياسية والرأسمالية، والبيروقراطيين والفنيين فيه، وهم يطوّرون أسلحته وأشكالاً أخرى من القمع غير المباشر ويجرون تجارب عليها ويحسّنونها. تضطلع الجامعات بدورٍ أوسع بكثير في الحفاظ على الهيمنة الأميركية، من الدور الذي تتطرق إليه مسألة سحب الاستثمارات. على الرغم من أنه علينا أن نمنح إسرائيل في تحليلاتنا بعض الاستقلالية عن حليفها الامبريالي الأكبر، لا شكّ أيضاً في أنّ الصهيونية من الأصول الاستراتيجية الأساسية للمشروع الأوسع للهيمنة الأميركية. 
يمكن طرح السؤال على المستوى الوطني أيضاً: هل هو دقيق وصف دور الولايات المتحدة في الإفناء المستمرّ لغزّة كمجرّد تواطؤ؟ لعلّ أحد أبرز التطورات غير المتوقعة خلال الأسابيع الماضية، هو قدرة الحراك الطلابي على التأثير على الصعيدين الوطني والدولي. فيما بدأت المخيمات في مختلف أنحاء البلاد بتعزيز قوتها الفردية بشكلٍ متبادل، أصبح من الواضح أنّ الضغط الذي كان يُمارس تخطّى بشكلٍ كبير نطاق الأحرام الجامعية. وليس من قبيل الصدفة أنه وبعد أسابيع من المماطلة، بدأت إدارة بايدن أخيراً تضغط على إسرائيل للقبول باتفاق وقف إطلاق نار كانت قد أعدّته. وفي حين أنّ الحراك بحدّ ذاته لم يتّخذ يوماً موقفاً فعلياً من الانتخابات في تشرين الثاني، علينا أن نؤمن بأن نطاقه بدأ يمثّل مشكلة انتخابية كبيرة للرئيس الحالي، الذي باتت احتمالات أن يبني «جبهة شعبية» في وجه ترامب خلال ستة أشهر، في خطر شديد.

(شيكاغو، HD): القول إنّ حكومة الولايات المتحدة متواطئة في الإبادة الجماعية للفلسطينيين تقليلٌ من أهمية الموضوع، وتصريح يكاد أن يكون غير صحيح من الناحية التحليلية. ترتكب الولايات المتحدة وإسرائيل – اللتان تقودهما حالياً إدارتا بايدن ونتنياهو – إبادة جماعية بحق الفلسطينيين معاً. تتشاركان الأسلحة والاستخبارات والأموال ونقاط الدعاية، وتقومان بمكافحة التمرّد الداخلي، إلخ... خدمةً لهذه الإبادة، الموضوعة تحت عنوان «الحرب العالمية على الإرهاب» مادياً وكلامياً على حدّ سواء. ويسترشد قمع الحراك الطلابي داخل أحرام الجامعات الأميركية بوزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية ومنظمات صهيونية من قبيل رابطة مكافحة التشهير. 
لفهم الإبادة الجماعية المتصاعدة ضدّ غزّة، المقدّمة على أنها «الحرب لتدمير حماس»، علينا أن نبدأ بفهم المشروع الأميركي في المنطقة، الذي تشكّل إسرائيل مكوناً عسكرياً استراتيجياً أساسياً منه. تمنح الولايات المتحدة إسرائيل ميزة عسكرية نوعية على جيرانها الذين يعارضون ذلك وغطاء سياسياً مطلقاً على الساحات الدولية مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وبالطبع، لا يمكن فصل الروابط الأيديولوجية والثقافية بين الولايات المتحدة وإسرائيل – مع ماضيهما الاستيطاني الاستعماري المشترك وتأثير الصهيونية المسيحية وتفوّق العرق الأبيض، إلخ.– عن هذه الديناميكيات الأخرى. 
كذلك فإنّ إطار «الحرب على الإرهاب» الذي تقارب الولايات المتحدة المنطقة من منظوره هو مشروع إسرائيلي أيضاً، ومفهوم «الإرهاب» الذي يسترشد به هو مفهومٌ قائمٌ إلى حدّ كبير على التجربة الاستيطانية الصهيونية مع الفلسطينيين. يُستخدم الخطاب حول الإرهاب كسلاح في قمع المناصرة الفلسطينية داخل أحرام الجامعات الأميركية، التي تسبق بكثير نمو الحراك منذ 7 تشرين الأول. أطلّ البروفيسور سامي العريان من العالم الافتراضي على مخيّمنا. لكن بتحريض من الرئيس الصهيوني للجامعة التي يعمل فيها، احتجزت الحكومة الأميركية هذا الأكاديمي الفلسطيني المقيم في فلوريدا كسجين سياسي، وحاولت تلفيق تهمة «إرهابي جهادي إسلامي فلسطيني» وإسنادها له مستخدمةً كتباً من مكتبته الخاصة. ودفعته في نهاية المطاف إلى مغادرة البلاد بسبب دعوته لعدم استخدام أدلة سرية من قبل دولة الأمن القومي الأميركية بعد هجمات 11 أيلول، وعمله على بناء مؤسسات دعمت القضية الفلسطينية. 

شخصية الطالب

نقيض الساكن الأصلي هو المستوطِن، ونقيض العامل هو الرأسمالي، ولكنّ نقيض الطالب ليس بالضرورة عنصراً واحداً محدداً، وليس فقط الطبقة الإدارية للجامعة. ولكن لربما بسبب موقع شخصية الطالب غير المؤكّد، قد تشكّل هذه الشخصية مساحةً لتأكيد مطالب سياسية قد تؤثّر على قطاعات أخرى من المجتمع. هل يمكنكم التحدّث قليلاً عن الطريقة التي تقومون بها بتعبئة هذه الشخصية والذهاب، من خلالها، أبعد من حدود الجامعة؟

(نورث وسترن، KK): الناشط الطالب هو شخصية مؤقتة تساعد الحراك من أجل تحرير فلسطين على توسيع ساحة المعركة والذهاب أبعد من الحرم الجامعي والتحوّل إلى نضالٍ عام يتفاعل مع أوجه التعارض والتناقض المادية للمجتمع ككل. لقد رأينا أيضاً شخصية الطالب تعرقل مهمّة تخطّي نفسها أو تتخلّى عنها أو تخونها عندما ترتعب أمام حجم الخسارة التي قد تتكبّدها إن جُرّدت من الامتيازات والضمانات التي ترافق صفة الطالب. بالطبع، هذه الخسائر لا شيء مقارنة بما يمرّ به الغزّاويون. ولكنّها أيضاً ليست غير مادية. ويتطلّب تخطّي هذه المخاوف الكثير من التدريب والخبرة والالتزام والبسالة والذكاء والثقة الجماعية. ونحن لا نزال في بدايات هذه العملية.
لقد شكّلت المخيّمات مساحات قيّمة للطلاب المنخرطين حديثاً في الحياة السياسية ليلتقوا ببعضهم بعضاً ويتعلّموا ويتشاجروا ويكتشفوا بأنفسهم شروط وحدود التعبئة القائمة على المطالب والمواجهات داخل الحرم الجامعي في المرحلة الحالية من الحراك التحريري. أعتقد أن هذا ينطبق على المخيمات التي تعرّضت لهجمات ومداهمات عنيفة على يد الشرطة، كما على المخيّمات التي استسلمت من دون معركة كبيرة وخسرت كلّ شرعيتها خلال سقوطها. سيتعلّم الأكثر جدية والتزاماً بيننا من هذه الحدود لوقتٍ طويل.

(كولومبيا، S، SJP): يمكنني القول إنّ وضع الطلاب ضمن فئة منفصلة يغذّي خطاب الوضع الراهن الذي يتمّ فيه فصل انتفاضاتنا عن تلك التي تقودها الطبقة العاملة. لم نخترع المخيّمات أو حملات سحب الاستثمارات أو المساعدة المتبادلة أو التطبيق العملي للإلغاء. لقد تعلّمنا كل ذلك من التحرّكات التي قامت بها الطبقة العاملة قبلنا. جهودنا جزء من نضال الطبقة العاملة ضدّ الرأسمالية ووكلائها. وهنا تأتي مناقشات صعبة حول الامتياز والتواطؤ. نحن كطلّاب في كولومبيا متواطئون في استطباق هارليم وتشريد سكّانها. نحن كطلّاب في كولومبيا متواطئون في زيادة صعوبة الحصول على التعليم. ونحن متواطئون في العديد من عمليات الإبادة الجماعية التي تجري حول العالم. تمحور حديث أجريناه للتوّ صباح اليوم حول كيف تمّت إدانة زملاء لنا تمّ توقيفهم في كلية مدينة نيويورك بتهمة ارتكاب جرائم في حين أنّ الذين تمّ توقيفهم في كولومبيا اتُّهموا بدلاً من ذلك بارتكاب مخالفات. لا تزال امتيازات «الجامعات النخبوية» حيّة تُرزَق. ما العمل مع امتياز يؤمّن لك لقمة عيشك، ويظهرك للعالم، ويجعل الناس يتعاطفون معك، ويحميك؟

(جامعة ماساتشوستس في أمهرست، RH وKG): أعتقد أنّ وضعنا كجامعة رسمية يجعل تجربتنا مختلفة إلى حد كبير عن تجربة «الجامعات النخبوية». حراكنا لا يتألّف من الطلّاب وحسب، بل يضمّ طلّاباً قدامى وأعضاء من المجتمع وموظّفين وأعضاء في هيئة التدريس. الجميع كان في ذلك المخيّم، ومسموحٌ لنا قانونياً باستقبال جميع هؤلاء الأشخاص في حرم جامعتنا لأننا جامعة رسمية. خصمانا هما الإدارة والشرطة، وهذا الأمر علامة على التناقضات المجتمعية الأوسع نطاقاً، ألا وهي أننا على أرض مسروقة، وأنّ هذا البلد بأكمله مبنيّ فقط على العنف. وبالتالي، فإنّ القول إنّ أخصامنا الوحيدين هم المدراء أمرٌ غير صحيح. خصمنا هو الدولة. تكلّمنا في وقت سابق عن حرية التعبير والرقابة، في حين أنّ هدفنا هو أن تكون كلّ العيون على غزّة، أن تتمّ تعبئة شخصية الطالب لأنّ أحرام جامعاتنا تفتخر بكونها في طليعة حرية التعبير وبوتقة جميع هذه الأفكار. التعرّض لوحشية الشرطة يحطّم هذا الوهم.

(هارفرد، FA، SG، SW، OL، وSB): بالطبع، لقد ذكّرت المخيمات في مختلف أنحاء البلاد– ولربما في كولومبيا بشكل صارخ أكثر– بتاريخ طويل من عمليات الاحتلال الطلابية وتحرّكات مباشرة أخرى في جامعات أميركية يعود تاريخها إلى ستّينيات القرن الماضي. وفي هذا الصدد، تمت تعبئة شخصية الطالب بهذه الطريقة التي باتت مألوفة. لقد كان الارتباط الشعبي للطلاب بالراديكالية السياسية أيضاً سبب بقاء طلاب الجامعات الأميركية أهدافاً ثابتة للقمع المناهض لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (التي تقودها الدولة الإسرائيلية بشكل علني وتتّبعها منظمات أميركية صهيونية متنوعة) منذ بداية الحراك. لم يكن قمع المخيّمات الأخيرة إلا تفاقماً لردة الفعل العنيفة الصهيونية المستمرة منذ عقدين.
وفي الوقت عينه، شهدت شخصية الطالب خلال السنوات الأخيرة بعض التحولات الرئيسية. فقد دفعت تجربة الهشاشة – ولا سيما في صفوف طلاب الدراسات العليا – العديد إلى اعتناق هوية «الطالب العامل»، والذاتية السياسية المرافقة لها. وقد نظّم الطلاب أنفسهم ضمن اتحادات، وفي غالبية الأحيان ضمن اتحادات صناعية أوسع نطاقاً مثل اتحاد عمّال السيارات المتحدين. وبالتالي، فإنّ تحرّكاتنا كطلاب ترتبط أكثر فأكثر بقطاعات أخرى من المجتمع، حتّى بعيداً عمّا يتردد في المشهد الإعلامي. وقرارات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي تمّ تمريرها في الاتحادات في مختلف أنحاء البلد في الخريف مثال على ذلك. وفي آخر المستجدات، فإنّ التصويت الناجح للسماح بالإضراب في اتحاد عمّال السيارات المتحدين 4811 – الذي يمثّل حوالي 50,000 عامل أكاديمي في منظومة جامعة كاليفورنيا – ردّاً على قمع نظام الجامعة لهذه المظاهرات، يشهد على التعبير المتزايد للحراك العمّالي الوطني عن الحراك الدولي التضامني مع فلسطين.

الفضاء الجامعي

بمجرّد أنكم احتشدتم داخل الحرم الجامعي، وضعتم في الواجهة تواطؤ الدولة والجامعات، الذي اتّخذ أشكالاً مختلفة، من تهديدات جاءت على لسان طلاب قدامى أثرياء مروراً بجلسات الاستماع إلى رؤساء جامعات أمام الكونغرس وصولاً إلى نشر أجهزة الدولة القمعية داخل أحرام الجامعات الأميركية. لقد سُحقت الاستقلالية المفترضة للجامعات بعنفٍ خلال الأشهر الماضية. هل تعتقدون أنّه من الممكن كسر قيود هذه العلاقة المتينة بين الجامعات والدولة؟

(برينستون، CB): يتّضح من شهادات «الجامعات النخبوية» أمام الكونغرس خلال الأشهر القليلة الماضية وجود جهد منسّق عند أعلى المستويات الحكومية لسحق المظاهرات الطلابية في تلك الجامعات.

فالمخاوف بشأن نهاية وشيكة «للحرية الأكاديمية» خلال عهد رئاسي مستقبلي لترامب، تحققت خلال عهد الرئيس بايدن.

ولكنّ ولاء جامعة برينستون لطالما كان، أولاً وقبل كلّ شيء، للدولار. ما هو على المحك بالنسبة لبرينستون والمؤسسات النظيرة لها فائقة الثراء، هو إعفاؤها من الضرائب. فدائماً ما تتم الموازنة بين «استقلالية» الجامعة وإدارة المصالح المالية والحكومية التي تحكُم، وتستمرّ في إتاحة، التكديس الهائل للثروات الموجود على نطاق غير مسبوق على الصعيد العالمي في هذه المؤسسات النخبوية الأميركية. وليس القمع الذي شهدناه تقريباً على جميع الأصعدة سوى دليل على الهشاشة الحقيقية للغاية لهذه المكانة. 
 
(هارفرد، FA، SG، SW، OL، وSB): لوسائل الإعلام التقليدية الأميركية تاريخ طويل من تغطية سياسات أحرام الجامعات النخبوية كما لو كانت أساسية لفهم اللحظة السياسية بشكلٍ عام. لقد لمسنا ذلك مع حالة الذعر الطويلة بشأن «ثقافة الإلغاء»، وهي نمط نشأ في التغطية الإعلامية المتواصلة لقاعات التدريس في الجامعات النخبوية، وانتقل خلال العقد الماضي إلى صُلب كيف يتحدّث كثيرون عن الحياة السياسية ويعبّرون عن المظالم. لم يكن مفاجئاً انشغال وسائل الإعلام الأميركية بشكل أساسيّ بالحركات الاحتجاجية داخل أحرام الجامعات النخبوية. فمن ناحية، يمثّل هذا أهمية تلك الجامعات المحورية فعلاً كمساحات تتشكّل فيها النخب وتتم فيها تنشئتها اجتماعياً ويتمّ فيها توحيد الخبرات والتحقق من صحتها. ومن ناحية أخرى، فإنّ الطلاب المطالبين بسحب الاستثمارات في هذه الجامعات كانوا يحملون حقاً أكبر المطالب، ببساطة بسبب ضخامة حجم أوقاف مؤسساتهم.

(جامعة مدينة نيويورك، SK): يناقش مصطفى الخياطي في كتابه «عن فقر الحياة الطلابية» الحنين إلى زمن كان يبدو فيه أن للجامعة دوراً متميزاً في المجتمع، وبالتالي كان يُسمح لها بالتمتع بدرجة من الاستقلالية. ولكن بحلول عام 1967، عندما نُشر النص، كانت الجامعة قد تحوّلت أصلاً إلى خطّ إنتاج يصدر عنه موظّفون بمستويات متدنية يحتاج إليهم الاقتصاد المعاصر. ولكنّ الخياطي حاجج أنّ هذه العملية غير مكتملة. فالطلاب الذين «فهموا النظام» يستطيعون الاستفادة من المنح المتوفّرة لهم، كما من «التناقض الذي يجبر النظام، حتّى الآن على الأقلّ، على الحفاظ على قطاع صغير، مستقل نسبياً من «الأبحاث» الأكاديمية». وهؤلاء الطلاب هم «أصلاً من بين واضعي نظرية الحراك الثوري القادم». لو كان منطق الاقتصاد قد ابتلع الجامعات، لكان عندها بإمكان النضالات ضد الجامعة أن تؤدي إلى التشكيك مباشرةً بالمجتمع الرأسمالي بأكمله. رأى الخياطي هذه الإمكانية في الاضطرابات التي شهدتها جامعة كاليفورنيا: «أثبت تمرّدهم (في بيركلي وأماكن أخرى) ضد هرمية الجامعة منذ البداية نفسه كتمرّد ضد النظام الاجتماعي برمّته القائم على الهرمية وديكتاتورية الاقتصاد والدولة». وقد اعتُبر ذلك جزءاً من موجة متصاعدة من تمرّد الشباب: الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت في أمستردام، ورابطة زنغا كورن الطلابية في اليابان، وحركة السلام في إنكلترا. «ولكنّ تمرّد الشباب بحاجة إلى حلفاء». كان حلفاؤه الطبيعيون بروليتاريين يشاركون في إضرابات عشوائية وفي أعمال الشغب في أحياء السود مثل حيّ واتس. وبدا أنّ ذلك تأكّد العام التالي عندما ترددت شرطة نيويورك في الدخول إلى كولومبيا لأنها كانت تعتقد أنها قد تثير أعمال شغب في هارليم. ولكنّ هذا الكتاب ملفت ليس فقط لناحية محتواه، ولكن أيضاً نسبةً إلى الطريقة التي نُشر فيها. فقد أطلقت «فضيحة ستراسبورغ»، التي تضمّنت الاستيلاء على اتحاد طلابي واستخدام كل أمواله تقريباً لطباعة «عن فقر الحياة الطلابية» وتوزيعه، شرارة الأحداث التي أدّت إلى أيار 1968. وقد أظهر ذلك أنّ إشعال فتيل داخل الجامعة قد يسبب انفجاراً اجتماعياً أوسع نطاقاً. 
بطبيعة الحال، يبدو الوضع مختلفاً اليوم. لا يقاتل الآلاف من الشباب على الحواجز للدفاع عن احتلال الجامعات، كما حصل ذات مرّة في باريس. لم تُلهِم عمليات الاحتلال الكثير من الاحتجاجات العمّالية أيضاً. ولكن يبقى السؤال: هل يستطيع حراك التعطيل هذا، الذي بدأ في الجامعات، إيجاد سبيل للانتشار خارجها عبر مختلف طبقات المجتمع؟

المخيّم مقابل الشارع

من الجدير بالذكر أنّ المظاهرات العديدة التي برزت في الشوارع (تذكّروا المسيرة المليونيّة، إلخ.) أثارت استجابة محدودة من قِبل الحكومة، مقارنةً بردود الفعل المبالغ فيها التي رأيناها تجاه المخيمات من قبل كلّ من الكونغرس وإدارات الجامعات. لِمَ تُثير المخيّمات قلقاً شديداً كهذا لدى الدولة؟

(جامعة تكساس في أوستن، LL): ميّزت العديد من الجامعات بين أشكال الاحتجاج المقبولة (أي غير الفعالة) والمخيمات كطريقة لتبرير استعراض القوة المفرط في غالبية الأحيان، والذي استخدمته لعرقلة المخيمات واحتلال المباني أو فضّها. في جامعة تكساس، أصرّت الإدارة مراراً وتكراراً على واقع أنه، قبل محاولة إقامة مخيم في 29 نيسان، كان هناك 13 مظاهرة نظّمتها مجموعة طلابية فلسطينية سُمح لها بأن تستمرّ دون انقطاع، مقارنةً بالمخيم الذي، وبسبب جذبه للمجتمع غير الطلابي الأوسع وروحه المجاهدة أكثر، استحقّ وأثار قمعاً عنيفاً وسريعاً. يُضحكني هذا الأمر ولكن، على نحو مشابه، أصدر رئيس جامعة شيكاغو بياناً جاء فيه «أعتقد أنه على المتظاهرين أن يروا أن المخيّم، بكل روابط الكلمة الاشتقاقية بأصول عسكرية، هو طريقة لاستخدام نوع من العنف بدلاً من المنطق لإقناع الآخرين». يتمّ التمييز بشكلٍ واضحٍ هنا بين ترداد هتافات وتنظيم مسيرات، وهو أمر معقول، ومخيّم يسمح نضاله المفترَض للإدارة بتبرير جميع أشكال العنف والقمع ضد المتظاهرين. وهذا يعكس أيضاً جدالات أكبر حول إسرائيل وفلسطين حيث عنف الدولة الإسرائيلية غير مرئي، ومقبول، أو حتّى نبيل، في حين أنّ عنف المقاومة الفلسطينية لا مبرر له، ومُرهب، وغير منطقي. منذ عقود والسياسة الأميركية مدفوعة بالتصوير الكاريكاتوري العنصري للرجل العربي «المتوحّش»، وهي تستخدم هذا التهديد لإضفاء الشرعية على فظاعة تلو الأخرى. ويسرّ الجامعات الأميركية أن تقيم تشابهاً بين هذه الشخصية والطالب المتظاهر المؤيد لفلسطين؛ فالنسبة إليها، يستحيل التحدث بعقلانية مع كليهما، وهما عنيفان بطبيعتيهما. بالنسبة إلى المشروع السياسي الأميركي، من المستحيل رؤية الفلسطينيين كبشر؛ ومن المفيد أيضاً نسيان إنسانية المتظاهرين المؤيّدين لفلسطين. من المضحك النظر في تصريح رئيس جامعة شيكاغو إلى الأصول الاشتقاقية لكلمة «مخيّم» من دون الأخذ بالاعتبار استخدامها في العامية. ففي الولايات المتحدة عام 2024، غالباً ما تقترن الكلمة بكلمة «مشرّد». وغالباً ما تُداهم «مخيمات المشرّدين» بعنف أيضاً، ويتمّ التعامل مع سكّانها بوحشية وتتم سرقة ممتلكاتهم. ولكن بالطبع لا ينظر إليها كعمليات احتلال عسكرية.

(هارفرد، FA، SG، SW، OL، وSB): تقاطعت هذه المخاوف العامة إلى حد كبير مع خصائص محلية. وليس محض صدفة أن تكون بعض أشد عمليات القمع على يد الشرطة قد حصلت داخل أحرام جامعات تابعة لمدن – نيويورك، ولوس أنجلس، وأتلانتا، وبوستن– حيث كان من المحتمل أكثر أن ترتبط النضالات داخل أحرام الجامعات بتحرّكات خارجها. وأبرز مثل هنا هو علاقة كولومبيا بهارليم، وقرب كلية مدينة نيويورك منهما أيضاً؛ ومن الأمثلة الأخرى الارتباط الواضح بين الحركة النضالية في جامعة إيموري وحركة أوقفوا «كوب سيتي» (Cop City) في أتلانتا. من المؤكد أن استراتيجية هارفرد لتفادي الشرطة كانت محنّكة، نظراً إلى الاهتمام الإعلامي الذي كانت ستحظى به. ولكن الأهم هو أن مسافة المؤسسة من سياقها المباشر (بموجب موقعها، وعزلتها، ولكن أيضاً كبر حجمها) كان يعني أنّه من الصعب أكثر بكثير أن تلجأ الجامعة إلى شخصية «المشاغب البرّاني» (المُحدِّد في القمع الذي مارسته الشرطة في كولومبيا).

(نورث وسترن، KK): يُظهِر المخيّم في نورث وسترن، الذي وافق على فضّ نفسه في اليوم الخامس مقابل صفقة غدّارة، إلى أيّ مدى أصبحت الجامعة النخبوية الخاصة مختبراً لمكافحة التمرّد. عندما لم يكن من الممكن التلاعب بجيل الشباب لإدخالهم في حالة من اللامبالاة السياسية عن طريق وَهْم الاستقلالية الأكاديمية، دخلت على الخطّ منظومة صناعة التنوع والمساواة والشمول (DEI industrial complex) وبرامج إصلاحية أخرى نشأت بعد مقتل جورج فلويد، لاحتواء النزعات الراديكالية ضمن نطاق المؤسسات وإبطالها. وقد كشف الرؤساء المحتقَرون والعسكرة المفرطة لأحرام الجامعات حماقة المؤسسات النخبوية ووحشيّتها، ولكنّ هذه الجامعات تفقد شرعيتها بشكلٍ أساسي بسبب أزمة ديون الطلاب– فبالنسبة إلى شرائح واسعة من المجتمع، لم يعد من الممكن الدفاع عن وضعيّة الجامعة نظراً إلى أسعارها الخيالية وركود الأجور، إن لم تصبح حتّى وسيلة للانتقال إلى طبقة اجتماعية أدنى. تحتاج هذه الجامعات إلى رجال شرطة لأنها باتت تفشل في مهمة إعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية في أميركا التي يصعب القيام بها أكثر فأكثر. 

لا يمكن بكلّ بساطة «تحرير» الجهاز الأيديولوجي لإعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية أو مصادرته من الأسياد الذين يخدمهم. يجب تدميره بشكلٍ جماعي قبل أن يصبح من الممكن بناء شيء آخر مكانه. وبالتالي، من غير المفاجئ أن يكون طلاب في جامعات كجامعة العلوم التطبيقية الحكومية في كاليفورنيا وكلية مدينة نيويورك قد أنتجوا إحدى الحركات الأكثر نضالاً وراديكاليةً داخل أحرام الجامعات، والتي لم تحظَ بهذا القدر من الاهتمام الإعلامي. يشير تحليل بسيط للطبقات إلى أن غالبية الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في المؤسسات النخبوية يكرّسون أنفسهم لإنجاح المؤسسة. ولهذا السبب، يشكّل التفاوض والتعاون والإصلاح قواعد اللعبة في مخيمات مثل نورث وسترن وبراون وروتغرس وجونز هوبكينز ومخيمات أخرى أبرمت صفقات توفيقية. يسهل على الطلاب أكثر بكثير أن يمزّقوا الأوراق في البداية عندما تكون قيمة شهاداتهم منخفضة أصلاً. ولكن المهمّة تصبح أصعب بكثير– وهنا أتكّلم أيضاً عن نفسي كطالب يعمل أثناء إتمام دراسته العليا– عندما تهدد الجامعات بسحب شهاداتهم المُكلفة أو طردهم من وظائفهم. هنا يصبح الرفض الرمزي غير ملائم بشكلٍ يُرثى له. يجب أن يبدأ التهجّم على تواطؤ الدولة والجامعات بتعطيل تأمينهما المشترك للقيمة الاجتماعية، والمعنوية، والاقتصادية. يحصل هذا التعطيل أصلاً إلى حدّ ما في التعليم العالي منذ عقود، على الرغم من أنّ الاستنكار كان بأغلبيته حول إهلاك العلوم الإنسانية. أعتقد أنّ الانتفاضة الطلابية– وجامعات الناس– قادرة على تقديم مساهمات أكبر بكثير لا باتجاه تدمير القيمة الرمزية وحسب، ولكن أيضاً القيمة المادية لسُلالة «الجامعات النخبوية»، وعليها أن تقوم بذلك. لا أريد أن أكون تسريعياً بشأن هذا الأمر، ولكنّ مقاطعة القضاة المحافظين الثلاثة عشر مؤخراً لجميع طلّاب البكالوريوس والحقوق الذين سيدخلون إلى كولومبيا في خريف 2024 قد يشكّل نقطة انطلاق. 

(جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، JP): في نهاية المطاف، لتكتيك المخيّمات حدودها في الولايات المتحدة. عام 2020، تحوّلت المخيّمات بسرعة إلى أماكن احتكرت فيها «فرق أمنية» نصّبت نفسها بنفسها المناطق المحتلة بالأسلحة. أعتقد أنّه سيكون على النضال أن يجد استراتيجيةً لا تعتمد على المخيمات إن أراد النجاح. لكن في الوقت عينه، كانت بعض المخيمات الاحتجاجيّة من أجل غزّة تشبه فعلاً ميدان التحرير: تتبادر هنا إلى ذهني جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، حيث احتشد الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء لوس أنجلس (طلاباً وغير طلاب) للدفاع عن المخيمات بعد أن هاجمت عصابات صهيونية المخيّم في 30 نيسان. كان هناك نوع من الجهد المتواصل للدفاع عن المكان بطريقة لا أعتقد أننا رأيناها بالطريقة نفسها في الولايات المتحدة.

ترجمة: تالا نجيم
رسوم: جوناثان بليزارد
المخيّمات من أجل غزّة 

اخترنا لك

يوميات غزة: فرن على الرصيف

آخر الأخبار

مأزق أردوغان في الشمال السوري
03-07-2024
تقرير
مأزق أردوغان في الشمال السوري
احتجاجات ضدّ عيد الاستقلال الأميركي في بيروت
حدث اليوم - فلسطين الأربعاء 3 تموز 2024 
احتجاجات إدلب: ضدّ المصالحة وضدّ العنصرية
تعليق

تطبيع العنصريّة

سامر فرنجية
اللوبي الإسرائيلي يُلاحق فرانشيسكا ألبانيزي