مشهد عشيّة حرب ما
من السجالات الأساسية لجيل ما بعد الحرب، الخلاف حول أسباب الحرب الأهلية، والذي تحوّل، خاصة مع الصمت الرسمي إزاءها، إلى المدخل لفهم تاريخنا وتحديد خياراتنا السياسية.
كان السجال يدور حول الأسباب التي أدّت إلى هذا الدمار، مع ما تعنيه لحاضر هاجسه الوحيد عدم تكرار التجربة: هل مشكلة لبنان في نظامه الطائفي والهيمنة المارونية، هل مكمن الحرب في هذا النظام الإقتصادي وأحزمة البؤس، هل كانت الشرارة السلاح الفلسطيني وإقحام لبنان في حرب إقليمية، هل كانت المشكلة في وجود لبنان في هذه المنطقة المتفجرّة.
مهما كانت خلاصة هذه السجالات، تبدو الصورة اليوم، وكأنّها تكرارٌ لتلك الأسباب، تعيدنا إلى مرحلة ما قبل حربٍ ما: انهيار اقتصادي غير مسبوق مع دمار اجتماعي لم تشهده البلاد من قبل، صراع إقليمي يمتّد من السعودية وإيران إلى العراق وسوريا، ويقبع لبنان في وسطه، تفتّت للسلطة وشللها، بروز طرف مسلح طائفي يفضل التهويل بالحرب من التفكير بالتسوية.
من الصعب الآن تحديد أي من تلك الأسباب ستكون الأساسية في إشعال الحرب القادمة. هذا سؤال نتركه لمؤرّخي هذه الحرب. لكن لمن يعيش هذه اللحظة، فلتراكم هذه الأسباب، خلاصة واحدة: هناك دمارٌ ما آتٍ.
«العقلانيّة» أسرع طريق إلى الحرب
من إحدى خلاصات الحرب الأخيرة، هي أنّه ما من طرف يمكن أن ينهيها، مهما اقتنع بعبثية الاستمرار بالقتال. فلمن يتابع محاولات الحلول التي قُدِّمت منذ أواسط السبعينات وحتّى انتهاء الحرب في التسعينات، كانت «التسوية» معروفة الشكل، لكنّها احتاجت إلى أكثر من خمس عشرة سنة من القتال لكي تتأمّن شروطها.
تبدو اليوم «التسوية» معروفة الشكل، وإن كانت لا تحقّق بالضرورة طموحاتنا. هي معروفة الشكل وتُحرِّك الإحاطة الغربية بهذا النظام: استعمال المساعدات للنظام كمحفزّ لإعادة إصلاحه، دعم ما تبقى من مؤسسات أمنية لمحاولة ضبط الوضع على الأرض، التمسّك ببقايا المؤسسات الرسمية بانتظار مرحلة التفاوض على أسس هذا النظام، النظر للانتخابات القادمة كفرصة لتغيير طفيف في موازين القوى التشريعية … والانتظار ريثما تتحدّد معالم التسوية الإقليمية.
تبدو معالم «التسوية» واضحة، وإلى حدّ ما غير خلافية. لكنّ هذا «الوضوح» قد يكون الدليل على عدم جدواها. فتبدو هذه الخطة «الإنتظارية» هشّة، وغير قادرة على مواجهة الصدمات الآتية، أكانت سياسية أو أمنية أو إقتصادية… وتبدو أقرب إلى صلاة يردّدها الخارج مع كل انحدار في الوضع بلبنان، صلاة تذكرنا بكلام الموفدين العرب والغربيين إلى لبنان في الثمانيات عن ضرورة وقف إطلاق النار والحوار وحماية المدنيين.
هناك دمار قادم، ولن يوقفه الكلام عن الانتخابات أو الإصلاحات أو صندوق النقد الدولي.
القاضي في وجه الحرب
لا يكسر عبثية هذا المشهد إلّا سوريالية وجود قاضٍ يتابع تحقيقاته وكأنّه ليس ضمن نظام شرس يحاول قلعه بشتّى الطرق. ورغم كل محاولات فبركة الملفات، من اتهامه بالارتهان لطرف سياسي أو اعتباره مختلّاً عقلياً أو تحميله مسؤولية اشتباك حزبي أو محاولة مقايضته باستقالات أخرى لا دخل له بها، ما زال هذا القاضي مجهول الهوية، كل ما نعرف عنه هو صفته الرسمية، قاضي التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت.
ولعلّه لهذا السبب، بات هذا القاضي أكبر من صفته، وإن كان لا يحاول تجاوز مهمّاته أو تقديم نفسه كمخلّص جديد.
أصبح هذا القاضي آخر فرصة لامتلاك بعض الأمل في الإدارة العامّة، رغم عقود الفساد والحزبية والزبائنية.
أصبح آخر فرصة لامتلاك بعض الأمل في مساحةٍ يلعب فيها القضاء دوره، رغم ارتهان القضاء والقضاة.
أصبح آخر فرصة لامتلاك بعض الأمل في وجود حدود للقتل في هذه البلاد، رغم القتل الرخيص والاستخفاف الممنهج بالحياة.
أصبح آخر فرصة لامتلاك بعض الأمل في إصلاح ما لا يتطلّب تدمير النظام والبلاد، رغم كل الإشارات التي تدّل على العكس.
أصبح أخر فرصة لامتلاك بعض الأمل في أخلاقٍ ما ترفض مقايضة مئات القتلى بحسابات سياسيين دنيئين، رغم عبثية المشهد.
فإقالة بيطار، إن حدثت، لن تكون تفصيلًا، يمكن التلاعب عليه من خلال تعيين قاض آخر أو من خلال طلّة إعلامية لنصرالله أو بكاء متلفز لرئيس الوزراء. إقالته ستعني انتهاء أي إمكانية لمسار شبه سلمي لحلّ الأزمة، وإعلان النظام كدولة احتلال. هذا الكلام ليس موجّهًا لنا، في الداخل، نحن الذين ندرك تمامًا طبيعة هذا النظام، بل لعرّابيه الخارجيين الذين ما زالوا يحاولون الحفاظ على حدّ أدنى من التماسك المؤسّستي وحضن النظام في انتظار انفراج ما. لكن ما ستعنيه الإقالة للداخل، هو أنّ لا أمل من أي عملية إصلاحية، من خلال التوزير أو الترشيح، لا تضع كل من يعترض على هذا النظام أمام السؤال الفعلي: كيف تعارض نظام احتلال داخلي؟
لم يخطئ نصرالله عندما ربط بين القاضي والحرب، لكنّه أخطأ التوصيف، كالعادة. فرحيل بيطار هو الدخول إلى الحرب الأهلية، وليس العكس.