قبل 3 أعوام تقريباً، متعباً من سيطرة ثقافة التأقلم وأزماتها الحادّة، كتبت أغنية همممم وأنهيتُها بجملة يا مشروع للاستثمار، يا مشروع للديكتاتور سقفهم اقتصاد call center، بانغالور. عندما أردت أن أتخيّل مستقبل النموذج الاقتصادي للبلاد المبنيّ على وهم «الخدماتيّة» والدور البائد للقطاع المصرفي اللبناني في الإقليم والعالم، لم أتمكّن من رؤية أفق لكلّ طروحات «الازدهار» سوى في المشهديّة المأسويّة لتحوّل طاقاتنا البشرية والإنتاجية إلى جيوش من موظّفي الخدمة عبر الهاتف لزبائن في الدول الغربية.
قبل أسابيع قليلة، ومع انهيار النموذج الاقتصادي اللبناني بالكامل بفداحة ووقاحة، كرّرت لأصدقائي: إن لم نتمكّن من تغيير وجهة السياسة الاقتصادية في البلاد، سيستيقظ «عبد الحميد» الطرابلسي مثلاً، يذهب الى عمله كلّ يوم ليجيب على مئات الاتصالات مبتدئاً بالجملة نفسها: Hello its Michael, how can I help you؟ تماماً كأقرانه في مدن هندية كبانغالور، أو في مستعمرات أوروبية قديمة- حديثة مثل جزيرة الريونيون.
بالأمس، أرسل لي صديقي نفسه عبر الواتساب وثيقة عرض عمل من شركة EDGE3 الأميركية، والتي تطلب موظّفين لمركز خدماتها عن بعد في بيروت براتب ينطلق من 400 دولار، والدفع بالدولار. تختصّ الشركة بأجهزة مراقبة الآليات، وتحديداً داخل حجرة القيادة. للتوضيح، توضع كاميرات في شاحنة نقل تجارية أميركية مجهّزة بمجسّات بصريّة يمكّنها ذكاؤها الاصطناعي من التبليغ عن حالة إصابة السائق بذبحة قلبية مثلاً. عندها ينتقل الإنذار إلى عبد الحميد مايكل الذي عليه أن يراجع الفيديو الذي ترسله الكاميرا ويبلغ الجهات المعنية، بإنكليزية طليقة.
شخصياً، لا أنتمي إلى المدرسة العبد اللطيفية في استشراف المستقبل، والواقع أنه مع انهيار العملة اللبنانية في وجه الدولار على خلفية اقتصاد وهميّ غير منتج، تصبح اليد العاملة اللبنانية في منتهى الرخص في السوق العالمية المفتوحة. وبذلك تصبح خطوة كالتي تُقدم عليها الشركة الأميركية وغيرها بديهيةً بالمعنى الربحي.
طبعاً هناك من سيروّج لنماذج انتعاشيّة كهذه بحجّة أنّها «تخلق فرص عمل» و«تُدخِل الدولار إلى البلد». ولن يكون ذلك سوى وقاحة سلطوية أو قصر نظر نخبويّ سيوديان بنا مجدّداً إلى دورةٍ أخرى من دورات الفقاعات المالية الوهمية ذات النهايات المأسويّة.
وكما تجري العادة في السياسة الاقتصادية اللبنانية الهجينة «التوافقية» بين المحور وخصمه، سيتعايش وهم اقتصاد الـcall center المتّجه غرباً مع شكل جديد من أشكال الإقطاع الزراعي المتّجه شرقاً.
ليست دعوة الأمين العام إلى الجهاد الزراعي أوّل خطوة يتّخذها فعلياً مع حزبه وحلفائه في هذا الاتجاه. إنّ فحوى خطبة الجهاد الأخضر ليست في ما إذا كان نصر الله مخطئاً بتقديره للحلّ، بل في أنّه يعلن نيّته الإمساك بآليّات هذا القطاع، والذي سيكون تفعيله مسألة حيوية في المرحلة المقبلة من دون أي شك.
واقعياً، ليست زراعة البلاكين ما سيغيّر معادلةً في واقعنا الاقتصادي على المديَيْن الطويل والمتوسّط، بل إنّ جوهر ما نتحدّث عنه هو إعادة تفعيل الإنتاج الزراعي المتدهور منذ العهد العثماني، وعلى مستوى كميات استهلاكية. أي أننا نتحدّث بلا شك عن كبار مالكي الأراضي، وكبار التجار المحليّين والإقليميّين، ومعهم كبار المستزلمين سياسياً في المواقع الإدارية المطلوبة لحماية مصالح هؤلاء.
نحن لا شكّ بحاجة إلى رؤية زراعية من ضمن طروحات عديدة في كافة مجالات الاقتصاد المنتج. ولكن هذا الطرح الزراعي قادم من السلطة وفي سياقها، ومتقاطع حتى مع بيك الاشتراكي الذي لم يستطع أن يترك لأتباعه وريثاً جنبلاطياً معقولاً، فنصحهم بزراعة القمح على طريقة «الأجداد». وهو بذلك لن يكون سوى مشروع اقتصادي يحلّ مشكلة أمراء الطوائف فيما يزيد من استغلال العامل والفلاح لمصلحة شلة محدودة في نادي كبار المالكين وأصحاب رؤوس الأموال.
ستشهد هذه الشلّة وجوهاً جديدة معظمها في الكواليس، وقسمة جديدة للكعكة الاستغلالية فوق مزيد من السحق للمواطن العادي واستغلال طاقته الإنتاجية، مع التغيرات التي سترسو عليها الصراعات الحالية بين الفروع المافيوزية المالية في البلد: أموال طائلة سُحبت وتنتظر في صناديق استثمارية اللحظة المناسبة للانقضاض على موارد البلاد وأرضها وطاقاتها البشرية.
لقد اقتصرت الحياة السياسية في لبنان منذ إعلان الدولة على فكرة أنّ الطرف السياسي يستمدّ مقوّمات بقائه من طرف خارجيّ يحمي له مصالحه في وجه خصومه المحليّين الذين بدورهم يعتاشون على طرف خارجي آخر. ولا يزال التحالف السياسي- المالي الحاكم في العمق متمسّكاً حتى اللحظة في هذه التهجينة، يحاول الآن كسب الوقت فيما يتصارع كل طرف مع الآخر نحو مزيد من المكتسبات في النسخة الجديدة من الفينيق السكيزوفريني المنتوف. فينيق بجناحين: «بركات» السيّد من جهة، و«توأمة» الحكيم من جهة أخرى.