كنتُ في خضم كتابتي لمقال يستتبع السابق، أعرض فيه اقتراحاتي لمنهجية نستنبط منها لغة أخلاقية تعيد تشكيل خطاب الحركة الثورية. لكن قضية «الثأر» في خلدة استعجلتني إلى التطبيق قبل عرض المنهج. إنّ السؤال الأخلاقي الواضح هنا:
ما موقف الأخلاقيات الثورية من ممارسة التصفية الجسدية في سياق الثأر العشائري؟ وهل يتبدّل هذا الموقف بحسب الوضعية السياسية للقاتل والمقتول؟
بما أننا عاجزين إلى الآن عن الرجوع إلى لغة تنصّ علينا بوضوح القواعد الأخلاقية للحركة الثورية اللبنانية وقواعد اشتباكها مع السلطة، سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة انطلاقاً من بعض الإشارات المتقاطعة للخطابات الكامنة في هذه الحركة ومقابلتها بالحدث.
فلنبدأ بالموقف العام من مسألة الثأر العشائري، ونقيسه ضمن حقل معجمي متقاطع في الحركة الثورية:
إجرام السلطة تقابله عدالة الثورة، فساد السلطة تقابله مسؤولية الثورة، كذب السلطة يقابله صدق الثورة، عمالة السلطة تقابلها تضحية الثورة…
بل أجزم توصيفاً - وإن لم يكن ذلك انعكاساً لما أتمنى شخصياً - أن غالبية الخطابات ضمن الحركة الثورية تستحضر نموذج «دولة القانون والمؤسسات» في وجه خروج قوى السلطة عن القانون وتلاعبها به ونهبها المؤسسات ثم تدميرها.
مبدئياً، يتناقض طموح دولة القانون والمؤسسات في الخطابات الثورية مع القبول بنفاذ الثأر العشائري وشرعيته الأخلاقية. وهذا بديهي بما أن فكرة هذه الدولة تقوم على وجود سلطة مركزية تحتكر ممارسة العنف والقصاص، على أساس شرعيّة تمثيلها للعدالة في المجتمع الذي تنعكس قيمه الأخلاقية في مقاصد النص القانوني.
لكنّنا في غياب للدولة، وتعطيل للقانون ومؤسساته، هل يفتح ذلك الباب أمام نوع من فقه الضرورات الثورية؟ أي أنه في انتفاء شروط العدالة المركزية تصبح العدالة الخصوصية أخلاقية؟
لا، لا يكفي انهيار التعبيرات السلطوية للعقد الاجتماعي كي نضفي الشرعية الأخلاقية على ثأر العشيرة، أو الطائفة، أو الحزب، أو الشلة، أو العصابة، أو الـNGO… أو مثلًا على المقتلة التي تباهى بها محمد فهمي وحماه فيها ميشال عون! بل إنّ هذه الشرعنة تشترط القبول بانتفاء العقد الاجتماعي نفسه، أي بانقراض المجتمع كمجتمع. ولا يمكن رؤية هذا القبول إلّا متناقضاً بالكامل مع اكثر المقاصد الثورية بديهيةً في الحديث عن «الشعب» و«الوطن» و«السلطة»، أو في الفعل الثوري القائم على عمومية المساحة وتحالف الأفراد والمجموعات في الحدث الإجتماعي المشترك.
لا يمكن لأيّ فقه ضرورةٍ ثوريّ أن يضفي شرعية أخلاقية على انتفاء المجتمع، كما لا يمكن مثلاً لأي فقه ضرورةٍ إسلامي أن يضفي شرعية أخلاقية على انتفاء الذات الإلهية! وهذا يشمل التيارات الثورية التي لا تؤمن ضرورةً بدولة القانون والمؤسسات، اللهم إلا هؤلاء الذين يدعون إلى حلّ المجتمع اللبناني وضمّه إلى مجتمع آخر. ولهؤلاء قياس أخلاقي آخر.
ننتقل إذن إلى الجزء الثاني من السؤال: هل هناك ما يدعو إلى إعادة النظر من هذا الموقف في حال كان المقتول من «حزب الله» مثلاً، على أساس أنه تنظيم مسلّح يستخدم العنف بلا محاسبة قانونية ويشارك لاعباً أساسياً في تركيبة السلطة العدوّة؟
إنّ المدخل الوحيد إلى تشريع هذا الفعل دون الدخول في انتفاء المجتمع كما ذكرنا، هو أن نقرأ عملية القتل في سياق الصراع بين السلطة والشعب. ولكننا نسأل الذين يقرأون هذه القراءة:
هل أعلنوها هم كفاحاً مسلحاً ضد السلطة؟ وهل رأوا في القاتل تمثيلاً للشرعية الشعبية؟ وإذا كانوا قد أعلنوا الكفاح المسلح ولم نعلم، فلماذا لا يقاتلون بأجسادهم؟ ولماذا لا يقاتلون بشرعية ثورية بل يتحيّنون عوضاً عن ذلك شرعية الثأر العشائري لنسبها إلى الخطابات الثورية؟ بل الأهم من ذلك، إن كانوا قد أعلنوها فعلاً كفاحاً مسلحاً ضد السلطة، فبأي ضوابط؟
لا يبدو هناك أي مسوّغ لقراءة هذا القتل كفعل اقتصاصي من السلطة يصدر عن إرادة شعبية، بل إنّ أكثر العلاقات الوظيفية مع الثورة والتي تقدّم الفعالية على الشرعية الثورية لا تفيد في هذا السياق:
أي تحليل وهميّ يرى في عملية تصفية ثأرية عشائرية مكسباً في صراعنا الطويل مع قوى السلطة ومنها «حزب الله»؟ هل من المفترض أن نبتهج لأنه «نقص منهم واحد»؟ بل نقص منا. أم لأن نقطة التماس الطائفية-السلطوية هذه ستصبح أكثر وأكثر اشتعالاً أمنياً، أي أكثر وأكثر توظيفاً سياسياً من السلطات العديدة وعلى رأسها «حزب الله»؟
في غياب الضوابط الأخلاقية الواضحة للفعل-القول الثوري، أقترح في هذا السياق بعض المبادئ المرحلية:
أولاً، في ظل غياب أي أفق قتالي توافقي للحركة الثورية اللبنانية، تبقى أية عملية تصفية فردية فاقدة للجواز الأخلاقي إلّا إذا بنيت على نزعة تأسيسية لشرعية عنفية ثورية، أكانت على أسس طبقية أو حتى وطنية. وهذا شرطٌ يبدو تحقّقه شبه مستحيل في عمل فردي أو عشائري أو شلليّ.
ثانياً، على الحركة الثورية أن تستوعب كل مظلومية خصوصية ناتجة عن الاستبداد السلطوي بشرط أن تحوّلها إلى عنصر من الخطاب المشترك في المصلحة العامة. وإن لم تستطع فلا يجوز لها أن تستثمر خطابياً أو عملياً في أي تناقض طائفي أو عشائري أو مناطقي في لبنان وخارجه.
ثالثاً، في ظل عجز الحركة الثورية عن تفكيك البنى الخدماتية والمادية للشبكة الزبائنية أو منافستها، على هذه الحركة أن تركّز على قدرتها التنافسية العقائدية والأخلاقية في الخطاب والممارسة. وبذلك يمتنع الخطاب الثوري عن كافة مظاهر الابتهاج بتصفية جسدية لأي شخص تربطه بالزعامة ورأس المال علاقة دونية، إنما هو حزن - ضروري للخطاب الثوري - على حياة مجتمعية كان بالإمكان إنقاذها من الطغيان السلطوي قبل فقدانها. بل حتى في الحالات التي يصعب الحزن عليها، لا تفيد مظاهر البهجة الخطابَ الثوري بشيء ولا تزيده شيئاً إنما تنقصه الكثير.
لن أناقش بعد الآن أياً من قوى السلطة عبر عدسة المسألة الأخلاقية، وقد بيّنت في السابق طبيعتها الحيوانية أي عدم جواز قياس أي منها في الميزان الاخلاقي. إنّما تقع الأخلاق على عاتق الحركة الثورية وحدها.