رحل الأسد واستشهد نصر الله، وعادت سوريا لأهلها.
الأوّل، ارتحل «لاجئاً إنسانياً» إلى موسكو. أما الثاني، فقتلته إسرائيل في أكبر اغتيال سياسي شهده محور المقاومة منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي. الحدثان مرتبطان على أكثر من صعيد، فأحدهما صنعته ثورة الشعب السوري التي ساهم ضحيةُ الحدث الآخر في قمعها.
صمت حزب الله بعد سقوط الأسد لأيام ستّة قبل إصدار موقفه الرسمي الذي أبى فيه الإقرار بالهزيمة. فاعترافات كهذه ليست من شِيَم المحور الذي اشتهر بتحويل الخسائر والهزائم إلى مجرّد «تفاصيل» أو «معارك» في حرب واسعة ودائمة ومستمرّة. هذا في ظاهر الخطاب. أما في طيّاته، فاعترافاتٌ مبطّنة يتمّ قولبتها وتجميلها، لكن لا يمكن تجاهلها. أحيانًا تكون الهزائم عصيّة على التحويل إلى نصر، مهما جرى التلاعب بالكلام.
طريق الإمداد الذي كلّف الآلاف من القتلى
خير إن شاء الله، حصلت تطوّرات وأوضاع مُعيّنة، نغيّر بعض الأساليب وبعض الطرق، نعيم قاسم في خطاب 14 كانون الأول 2024.
سقوط بشّار الأسد «تطوّر» و«وضع معيّن»، بحسب الخطاب الأخير لأمين عام حزب الله الذي أقرّ أنه برحيل الأسد خسر حزب الله في هذه المرحلة طريق الإمداد العسكري عبر سوريا. لكنّ هذه الخسارة تفصيل في العمل المقاوم، حسب الأمين العام الجديد. لكن مهما خفّف قاسم من وطأة هذا الحدث، لا يمكن لحزب الله أن ينفي أنّ طرق الإمداد شكلت على مدار 13 عامًا تبريراً لمشاركة الحزب في حرب النظام على شعبه في سوريا. فالنظام، ومعه الجغرافيا السورية، هما بأدبيّات الحزب العمود الفقري لمحور المقاومة. والدفاع عن النظام، حسب هذه النظرية، جزء من مهامّ الدفاع عن المقاومة، إذ أنّ الثورة السورية لم تكُن، وفق هذه الأدبيات، سوى «مشروع» و«أجندة» من الغرب وإسرائيل لضرب المحور.
فجأة، لم يعد هناك تكفيريين
لا داعي لاستعجال التحليل حول مواطن التباين [...] مع وفصائل المسلحين والمعارضين السوريين الذين أصبحوا في موقع السلطة، محمد رعد، «إشكالياتٌ تُثيرها أحداث سوريا»، جريدة الأخبار، 16 كانون الأول 2024.
في خطاب نعيم قاسم، كما في المقال الذي نشره رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد في صحيفة الأخبار بعد أسبوع على سقوط الأسد، انتفت عبارات «التكفيريّين» و«الإرهابيّين» لوصف المعارضة السورية، هاتان العبارتان اللتان شكّلتا تبريرًا آخر للقتل في سوريا. باتت المعارضة، والتي أصبحت اليوم في السلطة، «قوى جديدة» بحسب خطاب قاسم، ينتظر حزب الله تبيان مواقفها من بعض المسائل ليحدّد موقفه منها. فلأكثر من عقد من الزمن، كانت تلك الفصائل مجرّد «تكفيريين» يجب سحقهم، ومعهم الشعب السوري، ليتحوّلوا بأقلّ من أسبوعين إلى «قوى جديدة». ربّما حان الوقت لبعض التروّي. فلا داعي للاستعجال، كما كتب محمد رعد.
بدّك حريّة؟
من حقّ الشعب السوري أن يختار قيادته وحكمه ودستوره ومستقبله، نعيم قاسم.
جاء اعتراف حزب الله، عبر قاسم، بـ«حقّ الشعب السوري» باختيار مصيره متأخراً 13 عاماً، بعدما حاولوا تدفيع من طالب بهذه الحرية أثمانًآ باهظة. أكثر من 700 ألف قتيل ومفقود، وأكثر من 12 مليون مهجّر ولاجئ ونازح داخل سوريا وخارجها، وأكثر من 600 مليار دولار خسائر اقتصادية. كان الثمن باهظًا أيضاً على لبنان وحزب الله وبيئته، إذ قُتل آلاف مقاتلي الحزب في حرب كُبرى قيل لاحقاً إنها مجرّد معركة و«تفصيل». وبعد كل ذلك، يأتي حزب الله من موقع المهزوم الرافض بالإقرار العلني لهزيمته، ليضع شروطاً على شكل تمنّيات أو حتى توجيهات لضمان حريّة الشعب السوري. فيكتب رعد مثلاً أنّ من يريد الحرية السياسية ينبغي أن يكون سياديّ التوجّه والالتزام الوطني.
الوحدة الوطنيّة بعد التهجير والتطهير المذهبي
إنّ التطلّع نحو الحرية والعدالة يكتسب صدقيّته حين يكون شاملاً ومعيارياً وليس مجتزأً واستنسابياً، محمد رعد، «إشكالياتٌ تُثيرها أحداث سوريا»، جريدة الأخبار، 16 كانون الأول 2024.
بعد المشاركة في قتلها وخنقها، جاء زمن النُصح للثورة السورية، تحديداً من باب التأكيد على الوحدة الوطنية السورية. وهو ما قاله قاسم في خطابه حيث أكد على أهمية وأولوية أن يتشارك كلّ الأطراف في سوريا وكلّ الطوائف وكلّ المكوّنات في صياغة الحكم الجديد وفي المشاركة في الحكم الجديد. وهذا الأمر هو عكس ما دعمه حزب الله في سوريا، وعكس ما دافع عنه ومكّن أساساته على مدى سنوات قمع الثورة. هو نقيض ما نفّذه حزب الله مع حلفائه في الترانسفير المذهبي والتطهير الطائفي في أحياء المدن السورية وأنحائها، وعلى الحدود مع لبنان. والأهم أنّ في ذلك انتكاسة صريحة لمفهوم حكم الأقليّات الذي دعمه حزب الله وكان جزءاً منه أيضاً في المنطقة، والذي، وهنا المفارقة، يتقاطع مع لعبة الأقليات التي حاولت ولا تزال تحاول إسرائيل إرساءها.
فصل المسار بعد وحدة المصير
«نحن لا نعتقد أن ما يجري في سوريا سيؤثّر في لبنان»، نعيم قاسم.
بعد عقود من التدخّل السوري في لبنان، ثم الوصاية والتلازم في «المسار والمصير»، والذي كان حزب الله جزءاً فاعلاً وأساسياً منه، جاء عهد نعيم قاسم الجديد ليُعلن أن لا تأثيرات لما يحصل في سوريا على لبنان. هكذا، وببساطة، حاول الأمين العام أن يتعالى على كل ما خسره في سوريا. فلم يخسر حزب الله «طريق إمداد عسكرية» وحسب. خسر أولاً وحدة «المحور» في السياسة قبل العسكر. وخسر ثانياً بنى تحتية بناها على شكل قواعد ومستعمرات ومصانع عسكرية. وخسر ثالثاً حركة اقتصادية وامتداداً ديموغرافياً واجتماعياً وحتى دينياً عمل على بنائه خلال أكثر من عقد. وخسر رابعاً الملعب الخلفي، الأرض المفتوحة والمرحّبة رسمياً لمشروعه ومشروع إيران. وخسر خامساً صورة حزب الله العابر للحدود، عبر قوّات مسلّحة ومستشارين وقياديّين، ودوره كقوة إقليمية.
بعد الهزيمة في سوريا، يعود حزب الله إلى لبنان حيث لم يعترف بالهزيمة في أدبيّاته أيضاً. يعود إلى داخل الحدود حيث كرّس نقيض تمنّياته ونقاط نُصحه للثورة السورية: قمع حقوق اللبنانيين بالتغيير والعدالة، منع المشاركة السياسية بالحكم، إنقاص السيادة الوطنية، عرقلة قيام المؤسسات الرسمية… والويل لنا من هذه العودة إلى داخل الحدود بعد الهزائم المعلنة وغير المُعلنة.