جرّ المحقق العدلي طارق البيطار التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت إلى ساحة جديدة. أعدّ اجتهاداً قانونياً أعاد بموجبه نفسه إلى التحقيق متخطّياً كل العراقيل القانونية والقضائية والسياسية التي وُضِعت أمامه منذ أيلول 2021.
هو اجتهاد «خطِر» وقد يفتح الأبواب أمام اجتهادات أخرى أكثر خطورة، يمكن أن تستفيد منها السلطة السياسية بجهود جيشها القضائي لتطويع هذا الملف وغيره. لكنّه كان حلاً وحيداً أمام البيطار، علّه يُنهي ما باشر به في صياغة صفحات القرار الاتهامي في الملف. فعلى مدى أكثر من عام، لم تُوقَّع التشكيلات القضائية، لم يُنظَر في طلبات الردّ، ولم يلاحَق عدد من المدعى عليهم.
لم يعد بإمكان البيطار العودة إلى مكتبه سوى بهذا الاجتهاد الذي صوّر فيه موقع المحقّق العدلي كوظيفة مستقلّة عن الهرمية القضائية من جهة، مستفيداً من الصلاحيات المطلقة الممنوحة له، من جهة أخرى، خصوصاً وأنّ النيابة العامة ادّعت في الملف «على كل من يظهره التحقيق متورّطاً». وبذلك وضع البيطار نفسه في موقع قضائي لا يُمَسّ أو يُنحّى، أو «يُقبع» بحسب لغة السلطة وحزبها.
عاد طارق البيطار إلى مكتبه، وعاود عمله فأطلق سراح خمسة موقوفين وحدّد مواعيد استجواب عدد من المدعى عليهم. رفع السقف عالياً من خلال الادعاء على النيابة العامة التمييزية ممثلةً بالقاضيين غسان عويدات وغسان خوري. فانقلب المشهد على السلطة ومن معها.
من معالم الساحة الجديدة التي فرضها طارق البيطار، مأزق الجسم القضائي في التعاطي مع الاجتهاد.
تخبّطت النيابة العامة التمييزية في طريقة مقاربة اجتهاد البيطار. كان الردّ المتوقّع رفض تنفيذ قراراته، وهو ما حصل وفقاً للبيان الصادر عن القاضي غسان عويدات. لكنّ الأخير عاد عن تنحّيه عن الملف، ورفض إطلاق سراح الموقوفين وتبليغ المدعى عليهم للمثول أمام المحقق العدلي.
برفضها تنفيذ قرارات المحقق العدلي، باتت النيابة العامة، التي يُفترض أن تكون المدافع الأول عن التحقيق والضحايا وحقوقهم، في صفّ معرقلي التحقيق فعلياً.
أضف إلى ذلك أنّ عودة عويدات عن التنحّي جاءت من دون أيّ سند أو تفسير قانوني، بل من باب المناكفة والوقوف بوجه عمل المحقق العدلي. فإن كان عويدات قد تنحّى سابقاً بسبب تضارب المصالح وعلاقة القربى التي تجمعه بالوزير السابق غازي زعيتر، فما علاقة اجتهاد البيطار بانتفاء تضارب المصالح هذا؟
لا يقف المأزق عند هذا الحدّ، ذلك أنّ عودة عويدات عن التنحّي تعني أنه أصبح بإمكانه المشاركة في جلسات مجلس القضاء الأعلى لمحاولة تمرير «هرطقة القاضي البديل»، ولو من دون موافقة رئيس المجلس القاضي سهيل عبّود. الجسم القضائي في مأزق آخذ بالتوسّع، وما يحصل هو عصيان في تطبيق القرارات القضائية.
من معالم الساحة الجديدة التي فرضها طارق البيطار، منطق تحدّي السلطة ومقارعتها في القضاء.
ليس جديداً على البيطار الوقوف في وجه رغبات السلطة السياسية، لكنّ اجتهاده أوضح فعلياً مدى تمسّكه بملف التحقيق. وهو ما يعكس فعلياً حدّة المواجهة التي قرّر خوضها مع فريق السلطة التي لم تعتد، تاريخياً، مواجهاتٍ مماثلة في القضاء. حتى أنّ محور العرقلة والتعطيل جَمَع على مدى ساعات خبراء وقضاة للبحث في آليات مواجهة هذا الاجتهاد، ولم يصدر عن هذه الاجتماعات شيء سوى التمسّك بعدم الاعتراف بالاجتهاد ومضمونه والإبقاء على رواية أنّ المحقق العدلي لا تزال يده مكفوفة. كأنّ البيطار جرّ السلطة إلى ملعبه، إلى ملعب لم تعتد اللعب فيه. معلب تتحكّم فيه عادةً بلجان التحكيم وشروط اللعبة، من دون أن تمارسها فعلياً.
ستردّ السلطة على اجتهاد طارق البيطار وقراراته.
إن كان الردّ الأوّلي قد جاء عبر النيابة العامة التي تصرّ على أنّ طارق البيطار مكفوفة يده، فإنّ الردّ الثاني سيتمثّل بشلّ الأجهزة الأمنية ومنعها من تنفيذ أي قرار قضائي صادر عن المحقق العدلي. المدعى عليهم المطلوب أن يمثلوا، لن يفعلوا. ولن يتمّ تنفيذ أي تبليغ أو مذكرة إحضار أو توقيف. أي أنّ ثمة عصياناً أمنياً في تنفيذ القرارات القضائية.
وأهمّ ما في جعبة السلطة، سياسيةً كانت أم قضائية، محاولة إظهار طارق البيطار في موقع الخارج على القانون والمعتدي على الصلاحيات. وهو مشهد سبق أن تابعناه في الملفات التي حقّقت بها القاضية غادة عون، ولو أنّ الفارق كبير بين القاضيين. فلا علاقة للبيطار بأي طرف سياسي، ولا مونة له على أي جهاز أمني، ولا أجندة خفيّة تحرّكه، عكس كل ما قيل في سيرة القاضية عون.
السلطة لم تفهم بعد حقيقة ما حصل.
حقيقة أنّ البيطار انقلب عليها. وهو فعلياً انقلب على الانقلاب على القضاء. ستعتبر السلطة البيطار قاضياً غير موجود، لكنها ستصدم بواقع أنه يتابع تحقيقاته بمعزل عن كل أدوات العرقلة المستجدة في عدم مثول المدعى عليهم وتنفيذ المذكرات. وهذا ما لا يصبّ لصالحها.
عندما تفهم السلطة حقيقة الانقلاب الذي حصل للقضاء، ستردّ بما تراه مناسباً، وبأسلوبها الخاص. لكنّ البيطار كسب جولة جديدة بعد طول انتظار وبعد طول تعطيل. والانتصار في هذه الجولة أكثر من مجرّد عودة البيطار إلى مكتبه وتحقيقاته واستجواباته، إذ يعني أنه بات قادراً على مراسلة القضاة الدوليين في الخارج، هناك حيث التحقيقات لا تقف عند حدود هرطقة أو خطوط حمراء.