على مشارف الانتخابات النيابية، بدأت المعركة حول «عنونة» هذا الاستحقاق، والتي تبدو وكأنّها ستدور حول حزب الله وكيفية مقاربة «مشكلته». ففي ظل دفع خليجي لبناء تحالف جديد في وجه حزب الله، بالتزامن مع انهيار صورة الحزب جراء أحداث السنوات الأخيرة، من المتوقع أن تتصدّر مسألة حزب الله أولويّات المعركة القادمة.
لكنّ أكثرية الطروحات المقدّمة تتجاهل المشكلة الفعلية التي بات حزب الله عنوانها، وقد تشكّل مدخلًا لإعادة إنتاج المشكلة ذاتها، مهما صعّدت بنبرة خطابها.
الاحتلال كتهرُّب من مواجهة حزب الله
أطلقت شخصيات لبنانية «المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان»، معتبرةً أنّ مشاكل البلاد الحالية ناتجة بأساسها من حالة الاحتلال المفترضة.
إذا وضعنا جانبًا النظرة الضيقة للأزمة الحالية، وتغاضينا عن السقطات الثقافوية التي تشوب هذا التحليل، تبدو هذه المبادرة أقرب إلى هروب من مواجهة المشكلة الفعلية. ففرضية «الاحتلال» خاطئة، سواء كانت لالتقاط علاقة حزب الله بجمهوره أو طبيعة سيطرة حزب الله على النظام السياسي. هي ليست خاطئة فحسب، بل تتهرّب من مواجهة «مشكلة حزب الله» من خلال اعتباره جسمًا غريبًا يمكن اقتلاعه من النسيج اللبناني لإعادة الوضع إلى ما يفترض أن يكون عليه، بحسب مخيلة المجلس الوطني.
الفدراليّة كتهرُّب من مواجهة الغلبة
رفض مطلقو المبادرة الدخول في أي نقاش حول الفدرالية أو طبيعة العقد السياسي الجديد، قد يقسّم صفوف حرب التحرير في وجه الاحتلال الإيراني. فلأصحاب هذه النظرة، ما من مشكلة طائفية في البلاد، لأنّ ما من خصم طائفي. هناك جيش احتلال عليه الرحيل وجماعات قابعة تحت الاحتلال، يجب تحريرها.
لكنّ الخصم الفعليّ لهذه المبادرة ليس جيش الاحتلال المفترض، بل التجمّع الفضفاض الذي برز منذ بضع سنوات في الساحة المسيحية، والذي بات ينادي بشتّى أنواع الانفصال، من الفدرالية إلى التقسيم مرورًا باللامركزية الموسّعة. وإذا كان هذا التيار لا يعارض تلبيس صفة الاحتلال على النفوذ الإيراني، فإنّه ينطلق من فرضية استحالة الاستمرار بنموذج «العيش المشترك» الذي لا يبدو لأصحاب هذه النظرة إلّا كغطاء لغلبة طائفية أو مذهبية.
يبدو هذا الطرح وكأنّه خارج عن التاريخ، أكان في تصوّره لواقع المجتمع اللبناني أو حتى في تخيّله عن المناطق التي يراد منها أن تنفصل لتشكّل منطلق الفدرالية المرجوّة. لكنّ المشكلة الفعلية أنّ في هذا الشعار، أيضًا، هروباً من مواجهة منطق «الغلبة» السائد وتلخيصه إلى صراع ثقافي، يمكن لحل كالانفصال أن يكون مطلبًا واقعيًا أو منطلقاً لمواجهته. فلا داعي لتحرير لبنان من الاحتلال الإيراني، الأجدى هو الانفصال عن المناطق المحتلّة، لنعود إلى جغرافيا أكثر طهارة سكنية.
العلمنة كتهرّب من مواجهة السياسة
لا يبدو أنّ انضواء هذين الخيارين ضمن تحالف مدعوم من الخليج يزعج أصحاب هذه الطروحات. كما أنّ الانهيار التاريخي الذي نشهده لم يزعزع كلمة من قاموس سياسي بات اليوم أقرب إلى سعر الصرف الرسمي.
في وجه محاولات تصوير الاستحقاق المقبل كمقدّمة لحرب تحرير أو سيرورة انفصال، تختبئ مجموعات الثورة وراء مقاربة «تقدّمية» لمشكلة حزب الله، ترى في خطابها العلماني والعقلاني والاجتماعي مخرجًا لهذه المعضلة. مأزق هذه المقاربة أنّها في محاولتها للهروب من الاصطفاف الدموي تترك وراءها السياسة، لتصبح أقرب إلى قوى تبشيرية تريد مجتمعًا على هواها، في عملية عبثية لتكرار المعنى: الحلّ للطائفية أن لا يكون هناك طائفيون…
الانهيار كمدخل للسياسة
أن يتحوّل حزب الله لنقطة التقاء معارضات مختلفة للنظام قد يكون خطوة متقدّمة عن حالة الإنكار لهذه المشكلة التي سبقت ثورة تشرين. لكنّ هذه الخطوة باتت متأخرة اليوم، حيث بات الانهيار هو عنوان حزب الله، وليس العكس. فـقبل إعادة إنتاج قاموس سياسي، يتصدّره الانهيار كمدخل أساسي له، سيبقى حزب الله مسيطرًا، وإن كان من خلال مخيلة خصومه.