كان يوماً أسود.
لا يعود ذلك لكون سعر الصرف قد قطع حدّاً رمزياً، أي عتبة الخمسة عشر ألفاً، أو لكون الدعم سيُرفَع، أو الكهرباء ستقطَع، أو الطرقات …
كان يوماً أسود لأنّنا في هذا النهار، لم نعد نستطيع الكذب على أنفسنا أو الاختباء وراء المجهول، أو تمنّي غيرَ المتوقّع، أو التمسّك بتسوية وهمية، أو تحميل طرف مسؤولية الانهيار، طرف يمكن اقتلاعه واقتلاع مشاكلنا معه.
في هذا النهار، دخلنا حالة الانفلات العامّ والتفكّك المعمَّم والانحلال التام.
ومهما حاولنا الاختباء وراء المجهول والتمسّك به، ندرك تمامًا كيف ستتطوّر الأمور وكيف ستنتهي القصة:
- سيتهاوى سعر الصرف بسرعة متزايدة وبحالة من التقلّب ستجعل أبسط عمليات التبادل شبه مستحيلة.
- سيرفع الدعم، تدريجيًا وبطرق ملتوية، ليصبح تأمين الحد الأدنى من المعيشة من الكماليات المحصورة بالطبقات «الميسورة».
- سيجتاح العنف الحياة اليومية، لتتحوّل السوبرماركات والصيدليات إلى ساحات معارك، بعدما كانت المصارف تشكّل تلك الساحات.
- ستنقطع الكهرباء بوتيرة متصاعدة وتتحوّل المولدات إلى مصدر الطاقة الأساسي، ليتحوّل أصحابها إلى طبقة جديدة من المحتكرين.
- …
لا حاجة لاقتصاديين لتأكيد هذا الكلام. باتت كل أسرة في لبنان تعرف حتمية هذه النهاية، مع كل عملية حسابية بسيطة تقوم بها لتحديد ما يجب الاستغناء عنه في بداية كل أسبوع.
دخلنا مرحلة الانحلال العام.
من قعر الانحلال، تبدو الخلافات على تشكيل الحكومة وتوزيع الحصص سخيفة، سخيفة بحد ذاتها وسخيفة كمدخل لحل ندرك تمامًا أنه لن يأتي مع حكومة جديدة. أكثر فأكثر، تكبر الهوة بين الناس القابعين بأرض الانحلال هذه، والطبقة السياسية التي فهمت أنّها لا يمكن أن تحكم هذا البلد بعد اليوم.
بيد أنّ تلك الخلافات ليست سخيفة. ربّما ينمّ نعتُها بالسخيفة عن رواسب إيمان بهذه الطبقة، إيمان غير مفهوم بأن هناك حدًا من التدهور، سيتمالك السياسيون أنفسهم من بعده ويتعاطون بمسؤولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. المتذاكي يبحث عن مصلحة لهم في تفادي الانهيار.
إنّها ليست سخافة لأنّها معركة وجودية لهذه الطبقة، ليس بينها وبين الناس، بل ضمن مكوناتها المختلفة.
الأزمات وحتى الانهيارات هي مناسبات لإعادة توزيع الثروات والمواقع والأدوار. فنظامنا الاقتصادي الذي ينهار اليوم، جاء نتيجة انهيار مالي واقتصادي أعاد تركيب القطاع المصرفي مع بداية مرحلة ما بعد الحرب. كما شهدت تلك الأزمة إعادة توزيع للثروات أعادت هيكلة التركيبة الطبقية للنظام.
الأزمات في صلب الرأسمالية، جزء من طريقة عملها.
يمكن مَن يريد أن يتجاهل دروس الماركسية، ولكن لا يمكن نفي هذا الترابط العضوي بين الرأسمالية والأزمات.
فما نشهده اليوم هو معركة على من سيرث هذه الأزمة، من سينجرف معها ومن سيبقى ليصبح نواة الطبقة الحاكمة المقبلة. هذا ليس وقتاً ضائعاً كما تعتقد «جماعة الإصلاح». إنّ هذا الوقت الذي نعيشه هو وقت يتمّ فيه هيكلة شكل المستقبل.
لم نعد نعيش في التوقيت نفسه. فالشرخ بين الناس والطبقات الحاكمة هو شرخ زماني أيضًا.
في حالة الانحلال التي ينتجها تهاوي سعر الصرف، تتزايد الإغراءات القمعية، سواء عند السلطة التي تريد السيطرة على الشارع، أو عند بعض أجزاء الثورة، ممّن باتوا يحلمون بـ«انقلاب عسكري»، قد يعفيهم من العمل السياسي. فالإغراءات القمعية باتت طبيعية في ظلّ هذا الانحلال واستحالة العمل السياسي في قعر الانهيار.
لكن ربّما علينا أن نوقف مقاومة هذا الانهيار ونقبل به، كدافع لسياستنا. أن نتبنّى منطق «اللا-حُكم» ونحوّله من تهديد إلى ممارسة في ظل الانهيار. أن نقبل بأنّ أكثر ما يمكن الطموح إليه هو تنظيم هذا «اللا-حكم» وفرضه كسلاحنا الوحيد بتفاوض لم يجرِ بعد على شكل الخروج من هذا القعر.
فمع دخولنا مرحلة الانحلال العام، قد لا يبقى من سلاح بيدنا إلا هذا «اللا-حكم».