بدأت الليلة الأربعون من الثورة كسائرها من ليالي التسكيرات الاحتجاجية، لكن هذه المرّة بعد اعتقالات تعسفية لأولاد لُفّقت لهم تهمة تمزيق صورة رئيس الجمهورية يوم السبت، وآخر سُحب من مقهى في طرابلس بتهمة «الإساءة للذات الإلهية». فانتشرت دعوات بعنوان يخطفون أبناءنا، نسكّر طرقاتهم، وهجم شبّيحة حزب الله وحركة أمل على جسر الرينغ بعد عدم تحمُّلهم للإهانات التي وجّهها أحد المتظاهرين لسيّدهم، وبالتالي الإهانات التي طالت «كرامتهم» و«شرفهم»، وبدأوا يحومون على درّاجاتهم لتذكيرنا أنّ الدراجات التي بدأت الثورة منذ ٤١ يومًا لم تعُد لنا، بل عادت لهم.
بدأت المواجهة بعددٍ من الدرّاجات التي يصرخ أصحابها شيعة شيعة و7 أيّار، ثمّ انتقلت إلى الله، نصر الله، والضاحية كلها، وبري، نصر الله، والضاحية كلها. ثم دون أن ندري وجدنا أنفسنا قد جُررنا إلى مواجهة مع المحور العتيد عندما سمعنا إيران ثلاث مرات والله، سوريا، بشار وبس، في محاولة لتذكيرنا بـ7 أيّار الدموي وبالسلاح «الحامي» وبقدرتهم على عدم التردّد باستخدامه ضدّنا في الداخل وقيادتنا إلى حرب أهلية كالتي كانوا قياديين فيها مع «الدكتور» الذي هتفوا له من وسط بيروت ومن كل قلوبهم.
لكنّ ما أعلن عدم هزيمة الثورة التي أتت الدراجات لتسحقها كان ردّ الثوار والمتظاهرين المتواجدين بهتافات كلنا شعب واحد وثوّار، أحرار، حنكمّل المشوار، وطبعاً كلّن يعني كلّن وسمير جعجع صهيوني، ردّاً على ظنّهم أنّ المتظاهرين، أو قطّاع الطرق كما سمّونا، هم من القوات اللبنانية.
ما تلا هذه المشاهد من عنف وتشبيح لم يقتصر على المتظاهرين أنفسهم فحسب، بل طال أيضًا الصحافيين والنساء بتهديدات اتّسمت أغلبها بالتعديات الجنسية. فبعدما سنحت لهم عدة فرص لضرب بعضنا، قاموا برمي الحجارة علينا وعلى قوى الأمن. لكن لمَ كلّ هذا التعلّق بفكرة التشبيح كسمةٍ أو وصفة أساسية لهذا المحور؟ أليسوا هم مَن بحوزتهم ملفات وأدلة عن فساد السياسيين وأزلامهم وزوجاتهم؟ أليس مَن بإمكانه تحقيق النصر الإلهي في حرب أهلية ضدّ الإرهاب والشعب السوري قادراً على مكافحة الفساد في بلده الخاصّ دون معايرتنا بتلك الأدلّة الفتّاكة ليلاً ونهاراً؟ ولِمَ لم يقُمْ بنشرها حتّى الآن لتبرئة نفسه أمام جمهوره أوّلاً؟ أوليس من يهدّد الثائرات والصحافيات بالاغتصاب يشبه خصمه الذي يدّعي محاربته لتأمين كرامتنا وشرفنا بهزيمته؟
امتلأت مواقع التواصل بالتحليلات والتبريرات للأحداث. فمنها ما برّر التشبيح بالفقر للتركيز على الجانب الطبقي للمواجهة والانتماءات، ومنها ما أصرّ على الوكالة الذاتية لمناصري الحزبَيْن. ثمّ اشتعلت ببيان وصف ما وقع على أوتوستراد الجية بالميليشيوية والإرهاب، بالرغم من التوضيحات التي تظهرها الكاميرات الموجودة وتبرّئهم من التشبيح الذي سارعت الميليشيا الحقيقية لإلباسه لغيرها.
أفلا يُعَدّ مشهد المتظاهرين وهم يقعون فوق بعضهم بعضاً بعد إطلاق الغاز المسيل للدموع إرهاباً؟ ولمَ رُشِق المتظاهرون أصلاً من بعد الشبيحة؟ وما السبب وراء عدم اعتقال أيٍّ منهم عندما تهجّموا على إعلامية وسرقوا هاتفها؟ يبدو أنّ قوى الأمن عاجزة عن الوقوف في وجه احتفالهم بهذا الانتصار مع الأبواق التي أبهجت ليلتهم كابتهاجهم بالانتصارات الكيماوية.
مهّدت هذه المواجهة مع سوابقها لدفن الثنائيّتَيْن النقيضتين: 8 أو 14؛ المقاومة التي يمثّلها الحزب أو الإرهاب. الأولى أُسقِطت للمرّة الأربعين منذ بدء الثورة عندما طرد المتظاهرون أنصار القوات الذين جاؤوا «للدفاع عن منطقة بشير الجميّل» وأعلنوا «بالمشبرح» أنها منطقة جميع اللبنانيين. أما الثانية، فسقطت عندما بقي المتظاهرون لمقاومة التشبيح وتوزّعوا لحماية الجسر من كلّ الجهات. كمّا أثبتت المواجهة أنّ وعي الشارع وجّه صفعةً حملت في طيّاتها شعاراً غير محكي: الشعارات الفارغة بلّوها واشربوا ميّتها، من مكافحة الفساد إلى الخوف من الفراغ إلى احتكارات قرار السلم والحرب، والمقاومة.