ما زالت السلطة تحصر أفكار خطتها الماليّة بمعادلات معالجة الخسائر، سواء تلك المتعلّقة بطريقة احتساب فجوة ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، أو في ما يخص المعالجات التي ستذهب إليها للتعامل مع هذه الفجوات. وفي النتيجة، لا يمكن أن يتوقّع المراقب من كل هذه المقاربة للخطة الماليّة إلا إعادة إنتاج النظام المالي نفسه، بل والنموذج الاقتصادي نفسه الذي أدّى إلى الانهيار الحاصل اليوم.
في المقابل، ثمّة مسارات بديلة عن المعالجات التي تذهب إليها السلطة اليوم، وهي مسارات تم تجاهلها تمامًا في الإعلام والنقاشات المرتبطة بالخطة الماليّة، بعد أن نجح النظام في حصر هذه النقاشات في صندوق مقفل من الأفكار المحدودة الأفق.
النظام المالي البديل: أيّ نظام مالي يحتاج لبنان؟
امتلأت الفجوات والخسائر في ميزانيّات النظام المصرفي كما نعرفه اليوم، وبات أعجز من أنّ يقدّم الخدمات الماليّة البديهيّة التي يفترض أن يستفيد منها الاقتصاد والمجتمع. وبدل الذهاب تلقائيًّا نحو كيفيّة إعادة إنتاج القطاع المصرفي المنهار، كما يجري اليوم، كان من المفترض الذهاب أوّلاً إلى السؤال عن شكل النظام المالي البديل الذي نحتاجه من حيث الدور والوظيفة.
ففي معظم دول العالم، تتنوّع أشكال المؤسسات الماليّة القائمة، والتي تشمل على سبيل المثال التعاونيّات الماليّة ومؤسسات التسليف والادخار. البحث عن شكل هذا النظام المالي، يحتاج أوّلًا إلى البحث في الدور الذي يفترض أن يؤدّيه في إطار الاقتصاد المنتج، ومن ثم الجرأة بالدخول في ورشة قانونيّة تعيد تحديد أطر تنظيم القطاع المالي. يقتضي هذا المسار التخلّي بطبيعة الحال عن بعض المقدّسات التي تمّ تكريسها كأطر قانونيّة جامدة لا يمكن المسّ بها، كالأطر التنظيميّة التي نصّ عليها قانون النقد والتسليف منذ العام 1963.
البنية التحتيّة والاستثمار: من سيخدم اقتصاد لبنان؟
يقتصر البحث في البنية التحتيّة اليوم على السؤال عن فرص الشراكة مع القطاع الخاص، لجذب الدولارات من الخارج. السؤال الأوّل يفترض أن يكون عن شكل الاقتصاد الذي ترغب خطّة الدولة ببنائه، ومن ثم البحث عن نوعيّة البنية التحتيّة التي يمكن أن تخدم قطاعاته الاقتصاديّة.
فقط بعد تحديد شكل الاقتصاد والبنية التحتيّة التي يريدها لبنان، يمكن البحث عن النماذج الاستثماريّة المتاحة، والإطار القانوني الذي يخدم هذا الهدف. المعيار الأساسي الذي يفترض أن يحدّد الإجابة على كل هذه الأسئلة: أي شرائح اجتماعيّة سيخدمها هذا النموذج الاقتصادي؟ وأي شرائح سيستهدف حمايتها؟ هذا التمرين لم تقم به الخطّة التي تُعدّها حكومة ميقاتي، كما لم تقم به سابقًا خطة حكومة دياب.
إعادة هيكلة المصرف المركزي
يسلّم الجميع اليوم بنموذج المصرف المركزي القائم، من ناحية هيكليّته والأدوار والصلاحيّات المتشعّبة المنوطة به، رغم أن تضارب هذه الصلاحيّات مثّل أبرز أسباب تنامي الأزمة قبل انكشافها سنة 2019. لا يمكن البحث في خطّة إنقاذ مالي اليوم دون إعادة النظر بهذه الهيكلة، وضمن إطار قانوني جديد. مع الإشارة إلى أنّ الكثير من دول العالم، وخصوصًا المتقدمة اقتصاديًا منها، باتت تفصل ما بين الوظائف التي اعتاد لبنان على جمعها في إطار مصرفه المركزي، كوظائف تنظيم ومراقبة القطاع المصرفي.
نظام القطع وسعر الصرف
ما زالت جميع المداولات المتعلّقة بنظام القطع وسعر الصرف مرتبطة بالمعالجات المؤقتة والترقيعيّة التي يعتمدها حاكم مصرف لبنان. البحث عن شكل نظام القطع البديل يفترض أن ينطلق أولًا من السؤال عن شكل النموذج الاقتصادي الذي تريده الدولة، وكيفيّة تكامل السياسة النقديّة مع هذا النموذج. لا معنى للحديث عن نظام قطع بديل، إذا لم ينطلق أولًا من الحديث عن النموذج الاقتصادي البديل الذي تسعى لبنائه الخطّة الحكوميّة.
تصحيح الأجور
الحديث عن خسائر الأزمة وطريقة توزيعها محصور بخسائر القطاع المصرفي وحده، مع تغاضي شبه تام عن خسائر محدودي الدخل الناتجة عن تراجع قدرتهم الشرائيّة، بعد انهيار سعر صرف الليرة. أي بحث في خطط ماليّة إنقاذيّة، لا يمكن أن يتسم بالحد الأدنى من العدالة إذا لم يأخذ في الاعتبار هذا النوع من الخسائر.
الخروج من صندوق السلطة
هكذا، ثمّة تمرين جدّي يفترض أن ينطلق اليوم، لإعادة النظر بقواعد النقاش التي تم تكريسها كبديهيّات في النقاش الاقتصادي المحلّي، وفي طليعتها تثبيت معادلة احتساب الخسائر كنقطة انطلاق في مقاربة ملف الخطة الماليّة. وهذا التمرين يشمل كل ما يندرج ضمن إطار الخطّة: من شكل النظام المالي إلى نظام القطع، مرورًا بالنماذج الاستثماريّة والبنية التحتيّة وأجور المقيمين.