هذا ليس نصاً يستهجن عرس الهستيريا الجماعية في لبنان، وبالتأكيد لا يستغرب تصرّفات القوى الأمنية، وانحيازها التام لمفهوم «التشبيح» على حساب أي مفهومٍ آخر، لاسيما إذا كان ينادي بالحريات. كما أن هذا النص لن يكون مساحةً لبث الأمل لا سمح الله، أو الدعوة إلى الثورة وتسجيل المواقف بوجه الهمجية لا قدّر الله، في بلدٍ محكومٌ عليه بالرجعية لأنه محكومٌ من قِبل مرتزقة أوصلته إلى حضيضٍ ممنهج بعدما استباحت كلّ شيء فيه.
فعلى من نقرأ مزاميرنا، وأمام من ينزلق الخطاب لينادي بالتأكيد على الحريات، كحقٍ فردي يكفله الدستور اللبناني؟ على أهميتها، مضحكة هذه المطالب. وكأننا لا نعرف هذه الدولة، بجلالة قدرها، وميليشيوية تفكيرها، حتى خلال انهيار دورها وتعدد أزماتها.
نعم، هذا النص خالٍ من الاندفاع، لا بل استسلامي، ولا فائدة منه سوى تفكيك ورصد ما حدث في الفترة الماضية من «هلعٍ» تجاه الحريات الخاصة— والعامة— في بلدٍ يعاني من أزمةٍ تلو الأخرى، ويحاصرنا يوماً بعد آخر. من نحن؟ نحن الذين لا نشبه النظام و«شبّيحته»، حتى صرنا هاجساً «بعبعاً» يريدون القضاء عليه، لأننا فقط مختلفون عنهم. نحن الذين لم نعد نبحث اليوم سوى عن مساحاتٍ آمنة، في بلادٍ لم تعد تبحث سوى عن سببٍ لقتلنا.
على أنواعها، الحرية ممنوعة
يومياً، يُخبرنا هذا النظام— الذي يحلم بأن يكون بعثياً— أن كلّ شيء ممنوع. ممنوع أن نفكر إلا كما يريد هو، وممنوع أن نعيش إلا كما يحلو له، وممنوع أن ننتقد أو نعبّر، والطامة الكبرى أن نختار ونعيش هويتنا الجنسية.
حرية التعبير
بعد حملةٍ ممنهجة ومستعرة، تمّ اعتقال وإحضار نور حجار إلى المباحث الجنائية— ثم احتجازه— بتهمة إثارة النعرات الطائفية، على خلفية مقطعٍ مصوّر من عرضٍ قديم له (نحو 3 سنوات) اعتُبر أنه يمسّ بالدين الإسلامي. يسخر حجّار في المقطع من والدته في عزاء زوج خالته، لأنها طلبت من الشيخ «يسمّعها أحلى شي بالقرآن».
انهارت دار الفتوى على النكتة، وانهار معها الغيارى على الدين الذين هدّدوه وهدّدوا عائلته وزوجته بالقتل.
أُطلق سراح نور حجار في وقتٍ لاحق من اليوم نفسه، لكن الرسالة كانت واضحة: «ممنوع تنكّت، وإذا بدك تنكّت، ممنوع تجيب سيرة الدين».
والدين، «الصنم» الذي لا يُمكن الاقتراب منه ومن كلّ ما يشمله، حتّى لو كنتَ تملك وثائق، كان الذريعة نفسها لاستدعاء الزميلة مريم مجدولين اللحام، التي— وبتشبيحٍ بوليسي فاضح— تم اقتحام منزلها وتفتيشه ومنع محاميتها من دخوله، في الوقت الذي كان يتم التحقيق فيه مع اللحام من قِبل المباحث الجنائية.
ولافت هنا كيف تتحرك المرجعية الدينية ضدّ من «يُفترض أنّه ابنها» وينتقدها. فلا شيء يستفز المرجعية السنيّة أكثر من سنّيٍّ يسخر منها، كما لا شيء يحرّك المرجعية الشيعية أكثر من شيعي- يُفترض أنه «ابن الطايفة»- لكنه يستهزئ بها.
حرية المعتقد
أُغلق ملهى Hooligans في جونيه، بعد نشره صورةً للمسيح والعذراء والتلاميذ يشربون الخمر عبر خاصية الستوري على إنستغرام. جُنّ جنون الغيارى على الدين (المسيحي هذه المرة)، فما كان من بلدية جونيه إلا أن أقفلت المحل بالشمع الأحمر بعدما رفض صاحبه مسح الصورة في المرة الأولى، قبل أن يعود ويمسحها بعدما أُغلق الملهى.
الحرية الجنسانية
اعتدى شبان يدّعون أنهم جنودٌ للرب على ملهى «أوم» في منطقة مار مخايل، بسبب تنظيمه لـDrag Show. حاصر أصحاب التستسترون العالي الملهى، مطلقين هتافات مناهضة للمثليين، فيما احتجزوا الزبائن بداخله مهدّدين باقتحامه.
لاحقاً، وفي مانيفست مصوَّر، للاستثمار في التحريض وضخّ الهلع، هاجم شبان ادّعوا أنهم جنود للفيحاء مركز الصحة الجنسية «مرسى»، وفتّشوه واستجوبوا الطبيبة التي تعمل في المكان، مستنكرين المصطلحات الطبية/الجنسية في الكتيّبات التي يوزعها المركز.
أصحاب التستسترون العالي– فرع طرابلس كانوا قد بدأوا نشاطهم عندما أحرقوا علم المجتمع الكويري وسط المدينة، ثم دخلوا إلى مبنى مدرسة قيد الإنشاء لتغيير لون الطلاء، بذريعة أنه يشبه ألوان قوس القزح.
الهجوم على المثلية، الذي افتتحه أمين عام حزب الله من خلال خطابٍ تحريضي— كلّف فيه جمهوره بنبذ قاموس المثلية واستبداله بقاموس «الشذوذ» ومواجهة «هذه الظاهرة» لافتٌ هنا كيف تطور خطاب حسن نصرالله عبر السنوات، من تحرير القدس إلى الهوس بحياة الناس الجنسية. — تُوّج يوم السبت 30 سبتمبر/أيلول 2023 خلال «مسيرة الحريات» في ساحة رياض الصلح- بيروت.
دخل الشبّيحة (السُنّة هذه المرة) إلى الساحة، بتسهيلٍ من عناصر القوى الأمنية التي ساهمت في بعض الأحيان بالاعتداء على المتظاهرين، مترجمةً مواقف وزير الداخلية بسام المولوي. ولم يكن المشهد غريباً، بل متوقعاً، وقد شهدته تلك الساحة مراراً وتكراراً.
تفاهة الشرّ
هل يمكن للمرء أن يرتكب الشرّ من دون أن يكون شرّيراً؟
كان هذا السؤال الذي واجهته هنة آرنت، حين قدّمت سلسلة تقارير إلى مجلة The New Yorker عام 1963 عن محاكمة أدولف أيخمان بتهم جرائم الحرب، والطريقة التي صوّرته بها إسرائيل. وعلى خلاف صورة الوحش المعادي للسامية، رأت آرنت أن أيخمان يمثّل نوعاً جديداً من مرتكبي المذابح الجماعية؛ نوعٌ لا تحرّكه دوافع خبيثة أو قاتلة، ولا يدرك خطورة أفعاله، كما لا يقبل بتحمّل مسؤوليتها.
بالنسبة لآرنت، ارتكاب الشر ليس فعلاً محصوراً بالأشرار التقليديين كما صوّرتهم هوليوود، هؤلاء الوحوش الذين يتمتعون بدهاءٍ كبير. يمكن للشرّ أن يكون تافهاً وسطحياً، من دون أن يكون بالضرورة نتيجةً لنيّاتٍ مدروسة. وهذا ليس تقليلاً من فداحة ما يُمكن أن يرتكبه «التافه»، بل على النقيض من ذلك.
وجدت أرندت أن أيخمان كان بيروقراطياً أقلّ من عاديّ، ولم يكن منحرفاً أو سادياً، بل «عادياً بشكلٍ مرعب». فقد فعل ما فعله من دون أي دافع، سوى الاجتهاد في تعزيز مساره المهني داخل البيروقراطية النازية. وفي كتاب «أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر» (1963)، خلصت هنة آرنت إلى أن أيخمان ارتكب أفعالاً شريرة مرتبطة بـ«بلاهته»، وأنه أتفه من أن يفكر في معنى ما فعله، حاصراً نفسه بآليات التنفيذ.
ووفقاً لها، فبسبب افتقاده إلى القدرة على التفكير من وجهة نظر شخصٍ آخر، ارتكب أيخمان جرائم تحت ظروفٍ منعته من أن يعرف أو يشعر أنه كان على خطأ. وبمعنى أوضح، فقد رأت أن الجهل وغياب التفكير يؤديان إلى ارتكاب الشر. دوافع أيخمان إذاً، بالنسبة إلى آرنت، ليست عميقة.
يُحيلنا ذلك إلى أصحاب التستسترون العالي في جميع فروعه، جنود نظام الكراهية، وعلاقتهم مع المجتمع الكويري. لا بدّ أن هؤلاء لا يعرفون، أو يشعرون، بفداحة شرّهم. وأكرّر، ليس هذا تقليلاً من شرّ أفعالهم، بل على العكس من ذلك. فـ«التافه» قد يقتل من دون دوافع «واضحة»، وهو بالتأكيد لن يشعر بالندم.
أمضت صديقتي نصف يوم الأحد الفائت في المستشفى. تبيّن أنها تعاني من «رضة قوية» نتيجة تعرّضها للضرب من أصحاب التستسرون العالي، لأنها شاركت في مسيرة الحريات التي يتحمّل فيها وزير الداخلية- والإعلام المحرّض والغائب- مسؤولية ما حصل فيها من اعتداءاتٍ فاضحة، ومرعبة.
فائض التستسترون هذا مخيف، لأنه يحاصرنا من كل الجهات. تخيّلي أن تُقتلي لأنكِ مختلفة عمّا هو طبيعي بنظرهم، هم الذين لا يفكرون في معنى الأفعال التي يرتكبونها، حاصرين أنفسهم بالتنفيذ فقط، كما تقول هنة آرنت. آلات بشرية لا تفكر، أو تسمع، أو تعرف. وهذا مرعب.
هل شعر «الشبّيحة» بالندم بعد اعتدائهم على صديقتي، وغيرها من الذين حضروا إلى مسيرة الحريات؟ قطعاً لا، بل على النقيض من ذلك، ها هم ينشرون مقاطع مصوّرة يحتفلون فيها بـ«إنجازهم» العظيم، ويتلقون التبريكات والتهاني من زملائهم في فرع طرابلس.
عن الرعب من كلّ ما هو مختلف
صديقٌ آخر تعرّض للضرب في الليلة التي نجح فيها الشبيحة بفضّ مسيرة الحريات. لكنه لم يكن مشاركاً في المسيرة، بل عائداً إلى بيته بعد منتصف الليل، من حفلةٍ أحياها الرابر «الفرعي»، وكنتُ فيها. تحلّقت حوله مجموعة من الشبان وانهالوا عليه بالضرب، فقط لأن شكله لم يعجبهم، «شاذ» عن الطبيعة.
بكيتُ حين رأيت صورته مضرّجاً بالدماء، وزاد شعور الحصار الذي يلازمني منذ الحملة المستعرة التي لا تستهدف المجتمع الكويري وحسب، بل كلّ ما هو مختلف عن السائد و«الطبيعي» من وجهة نظرهم. هم الذين يحدّدون ما هو الطبيعي، وما هو غير الطبيعي، وفقاً لأشكالنا. هذا شعره طويل، اضربوه. هذه محجّبة تشارك في مسيرة للحريات، اشتموها وانزعوا حجابها.
نحن محاصرون من مجموعات يحرّكها صنمٌ يبرر العدوانية باسم الدين والمجتمع. تلك العدوانية الحاضرة في كلّ نقاش أو خطابٍ حول المثلية، لأنها تجرف معها كل ما هو مختلف، كما حصل مع صديقي الذي اعتُبر غير مطابق للمواصفات.
فكيف يمكن مواجهة حفلة التفاهة هذه، حيث لا يعترض فيها المجتمع فقط على كون المثلية «شذوذاً»، بل على كونها تعبيراً عن الحرية الشخصية؟ مجتمعٌ يقولها بكلّ وضوح ويكررها أينما كان: «أنتم أحرار في بيوتكم، لكننا سننال منكم في الساحات. لا مساحات آمنة هنا. نحن أقوى منكم وأشرّ منكم».
كيف يُمكن مواجهة الشرّ التافه؟ هو السؤال الذي يطاردني مؤخراً. وهل يمكن ذلك؟ كيف أُثبت لمن يعتدي علينا بوحشية أنه هو الشاذ، وتصرفاته شاذة، وأفكاره شاذة؟ هي أفكار غير منتظمة تمرّ سريعاً في بالي، قبل أن أعود إلى قوقعتي وأسأل نفسي: متى سيتسنّى لي مغادرة هذه البقعة الجغرافية، إلى مكانٍ لا أناضل فيه سوى للدفاع عن حق شجرةٍ- عمرها 200 عام- قام أحدهم بقطعها؟