سحر المصارف
لم تتجاوز خسائر بنك بيبلوس خلال الربع الثالث من هذا العام مستوى الـ3.6 مليون دولار، فيما تمكّن بنك لبنان والمهجر بأعجوبة غريبة من تسجيل أرباح بقيمة 3.1 مليون دولار في الفترة نفسها. بنك عودة، تمكّن من اختتام السنة الماضية بميزانيات تظهر «صفر» أرباح، أي أن المصرف لم يسجّل خلال العام بأسره أي خسائر تقتصّ من رساميله أو حصص مساهميه.
ما نراه في هذه الميزانيات ليس سوى أرقام أكبر ثلاثة مصارف، في قطاع يمرّ منذ أواخر العام 2019 بحالة من الإفلاس الضمني، أو التوقّف الصريح عن الدفع.
كيف يمكن لقطاع بهذه الحالة المزرية أن يسجّل أرقاماً ورديّة من هذا النوع، قياساً بحالة التعثّر التي يعيشها؟ ولمصلحة مَن هذا التلاعب المكشوف في ميزانيّات القطاع؟
الساحر رياض
في مطلع العام 2020، قرّر حاكم مصرف لبنان تعليق العمل بالمعايير الدوليّة لإعداد التقارير الماليّة، بحجّة الظروف الاقتصاديّة التي منعت المصارف من استكمال تطبيق هذه المعايير.
وذلك رغم أن غاية هذه المعايير هي تحديداً التصريح عن الواقع الفعلي للمؤسسات الماليّة في ظل أزمات من هذا النوع. لا بل يمكن القول أيضاً إنّ التعامل مع الانهيارات المصرفيّة الناتجة عن هذه الأزمات مستحيل، في ظلّ أرقام وميزانيّات لا تعكس واقع القطاع كما هو.
منذ ذلك الوقت، باتت يد المصارف مطلقة للتملّص من التعامل مع عدد كبير من الخسائر التي كان يفترض أن يتمّ تسجيلها في الميزانيّات، وتكوين مؤونات خاصّة للتعامل معها.
المعايير المحاسبيّة الدوليّة تفرض في العادة إجراءات خاصّة لتقييم الخسائر ومخاطرها، ومن ثم اقتطاع نسبة من الأرباح أو الرساميل المصرفيّة كمؤونات للتعامل مع هذه الخسائر.
أمّا هذا التملّص من تحديد الخسائر، فبات معروفاً اليوم:
تقليص ما سيتمّ اقتطاعه من رساميل أصحاب المصارف من خسائر.
اختفاء الخسائر
من الخسائر التي تمّ تفادي التعامل معها بعد تعليق العمل بالمعايير المحاسبيّة الدوليّة:
- تحديد الخسائر الناتجة عن تعثّر الدولة، ما سمح للمصارف بإبقاء قيمة سندات اليوروبوند بقيمتها الفعليّة في الميزانيات، وبتخصيص مؤونات لا تعكس الخسارة الناتجة عن تدهور أسعار هذه السندات في السوق، أو عن قيمة الاقتصاص المتوقعة من قيمتها بعد إعادة جدولتها. أما السندات المقوّمة بالليرة المملوكة من المصارف، فلم يتمّ تحديد أي خسائر مقابلها.
- تحديد الخسائر الناتجة عن توظيفات المصارف في مصرف لبنان، وخصوصاً بعد أن توقّف المصرف المركزي عن تسديد قيمة هذه التوظيفات بالدولار الفعلي. وهنا، اكتفت المصارف، بطلب من مصرف لبنان، بتكوين مؤونات هزيلة لا تتجاوز الـ1.89 ٪ من قيمة هذه التوظيفات.
- تحديد الخسائر الناتجة عن تعثّر قروض القطاع الخاص، وقد جرى التملّص من الاعتراف بهذه الخسائر تحت ستار تفهّم مصرف لبنان لتداعيات تفشّي وباء كورونا. ومنذ ذلك الوقت، تمنّعت المصارف عن التصريح عن هذا النوع من الخسائر وتخصيص مؤونات مقابل التعامل معه.
- الخسارة الناتجة عن الفارق بين السيولة التي يملكها القطاع المصرفي بالعملات الأجنبيّة، وما يترتّب على القطاع من التزامات بهذه العملات للمودعين.
باختصار، كل ما ألمّ بالقطاع من خسائر بات خارج نطاق الميزانيّات منذ العام الماضي وحتّى اليوم. ولهذا السبب، ما زالت الميزانيات لا تعكس حجم الانهيار الفعلي في القطاع، ومنها ميزانيات المصارف الكبرى الثلاثة التي تعكس خسائر هزيلة مقارنةً بحجم الانهيار الذي يضرب القطاع ككل.
التفاوض على قياس المصارف
في الوقت الراهن، تُراجع اللجنة الوزاريّة المفوّضة بملف التفاوض مع صندوق النقد أرقام القطاع وميزانيّات مصرف لبنان، للعمل على صياغة الخطة الماليّة الجديدة التي سيجري على أساسها التفاوض مع الصندوق. لكنّ الميزانيّات المصرفيّة الموجودة حاليّاً لا تعكس واقع القطاع بدقّة، ولا تقدّم أي أجوبة على صعيد حجم الخسائر الفعليّة المترتبة عليه.
باختصار، ثمّة قواعد وضعها حاكم مصرف لبنان منذ البداية لرسم المشهد الذي يريده لهذا القطاع، مستبقاً بذلك الخطة الماليّة التي ستعتمدها الدولة. ولهذا السبب، ستكون جميع المعطيات الموجودة بحوزة اللجنة مصمَّمة على قياس مصالح المصارف، قبل أن يدخل لبنان جولات التفاوض مع الصندوق.
بالتأكيد، سيكون أمام شركة لازارد مهمّة عقلنة هذه الأرقام، وتقريبها من الواقع قبيل التوجّه إلى المفاوضات مع الصندوق. لكنّ مهمّة الشركة ستواجهها عراقيل عديدة، أبرزها محدوديّة المعطيات المتوفّرة، وخصوصاً من جهة أرقام مصرف لبنان وجمعيّة المصارف. أمّا العقبة الأكبر، فهي اللجنة الحكوميّة المسؤولة عن الملف، التي تدفع لازارد في الاتجاه المعاكس تماماً، من خلال الضغط باتجاه المقاربات التي وضعها منذ البداية حاكم مصرف لبنان.
في عالم المصارف، ما من خسائر. فالأزمة لا تعنينهم.