الإسرائيلي الذي خرج عن نصّه
تحوّلت المؤسسات الثقافية وعوالمها إلى إحدى ساحات الحرب الدائرة بين «إرادة الإبادة» وضحاياها، والتي تأخذ في عالم الثقافة شكل الاشتباك بين من يريد الاستمرار وكأنّ شيئاً لم يكن، ومن لا يستطيع ذلك بعد اليوم. أطاح هذا الاشتباك بـ«مهرجان برلين السينمائي» وبمحاولة منظّميه الاستمرار وكأنّ الأمور ما زالت على حالها، رغم دعوات المقاطعة والاعتراض التي أحاطت به.
وكان من المفترض فعلاً أن تجري الأمور على طبيعتها، خاصةً بعد حملات التأديب التي طالت عالم الثقافة في ألمانيا. لكنّ خطأً غير متوقّع أصاب مخطَّط المنظّمين. فاز فيلم «لا أرض أخرى» بجائزة أفضل فيلم وثائقي، واستلمها المخرجان، الأول إسرائيلي والثاني فلسطيني، وصعدا على مسرح الثقافة الغربية كبرهان حيّ بأنّ الثقافة تجمع ما تفرّقه السياسة. أو على الأقل، هكذا كان من المفترض أن تجري الأمور.
لكنّ المخرج الإسرائيلي خرج عن نصّه المفترض. لم يتحدّث عن الأخلاق والمساواة المجرّدة، بل تكلّم عن فصل عنصري واحتلال وضرورة الانتهاء منهما. تكلّم كـ«فلسطيني»، ليُظهر أنّ ما من طرفَيْن في هذه المسألة، وما من تسوية ممكنة وما من مكان مجرّد من الإبادة. هناك فصل عنصري و«إرادة الإبادة» واحتلال، وهناك ما يقابله.
الفرادة الغربيّة الأخلاقيّة
التقط الإستبلشمنت الألماني الرسالة وفقد أعصابه.
اتّهم محافظ برلين المخرج بمعاداة السامية وشُنَّت حملة عليه، امتدّت من ألمانيا إلى إسرائيل، ترافقها دعوات بالقتل. أمّا وزيرة الثقافة الألمانية، فغرقت بهبلها عندما اعتبرت أن تصفيقها لم يكن موجّهًا للمخرج الفلسطيني، بل محصوراً بالمخرج بالإسرائيلي. وبعد فشل محاولة تفادي الاشتباك حول المسألة، أصدر منظِّمو المهرجان بيانًا أطاح بأيّ ادّعاء للموضوعية، ليعودوا إلى كنف السياسة الرسمية الألمانية.
قد يبدو طبيعيًا أن تحدث هذه المهزلة في برلين، مع تصاعد التطرّف الألماني في قمع أيّ تعبير داعم لفلسطين، والذي وصل إلى حدود «فاشية» تطالب أساتذة بالتبليغ عن طلابهم إن أظهروا دعمًا لفلسطين.
أمّا التبرير الرسمي لهذا الانزلاق القمعي، فهو «الذنب»، ما دفع المخرج الإسرائيلي، المعادي للسامية بنظر الألمان، لمزيد من الخروج عن نصّه، مع اتهامه السياسيين الألمان بتسليح مصطلح «معاداة السامية»، ليتحوّل ذنبهم إلى مرادف لدعوات القتل التي تعرّض لها وعائلته في إسرائيل، بعد كلمته في المهرجان.
لكنّ في هذا الاتهام سوء تقدير.
اعتبر المخرج الإسرائيلي أنّ نقده كإسرائيلي لتهمة «معاداة السامية» سيضعفها أو يفرض على الغربيين بعض التروّي في استعمالها. فهو كوريث لـ«الضحية» ينبّه وريث «الجلاد» بشأن عدم تسليح «رواية المحرقة»، وبالتالي تهمة «معاداة السامية» التي تنبثق منها. لكنّ ما لم ينتبه إليه هو أن تلك الرواية التاريخية التي تشكّل المنطلق «الأخلاقي» للموقف الألماني، لم تهدف إلى تحويل ضحايا المحرقة إلى ما يشبه «الضحية المطلقة» وحسب، بل باتت تؤكّد فرادة هذا الغرب الأخلاقية وتفوّقه. هي الرواية التي تؤكّد أنّ ثمّة «خلاصاً» في هذا العالم، يأخذ شكل هذا المسار حيث «الجلاد» يتعلّم من أخطائه ويعلن أن لا عودة إلى عالم محكوم من الشرّ. والثقافة الغربية هي البرهان عن هذا الخلاص. هي الثقافة الوحيدة، حسب هذه الرواية، التي أنتجت من المحرقة تقدّماً أخلاقياً. هي الثقافة الوحيدة الأخلاقية، أي الكونيّة.
اعتبر المخرج أنّ «الذنب» هو ما يحرّك هذا الهجوم، لكنّه لم ينتبه أنّ المحرّك الفعليّ هو الدفاع عن هذه الذات المتعجرفة.
إزاحة الغضب
لكنّ الغضب غالبًا ما ينزاح عن هدفه.
قد لا يكون الاعتراض الفلسطيني هو ما يشكّل تحدّي اليوم لهذه الرواية، وإن كان واضحًا بتشكيكه بها، بل السياسة الإسرائيلية التي يجري ربطها بالثقافة الغربية في ماكينة الدعاية الإسرائيلية. فمنذ بداية الإبادة، والدعم لإسرائيل يدفع بالثقافة الغربية إلى حدودها القصوى ليعرّي ادّعاءاتها.
أُطِيح بمعظم «المعايير» الغربية للاستمرار بدعم حكومة نتنياهو، سواء كانت معايير القانون الدولي أو المعايير المهنية بالإعلام أو معايير حرية التعبير بالجامعات والحقول الثقافية أو معايير الديمقراطية بالتعاطي مع الاعتراض الداخلي.
لم ينهَر هيكل الثقافة الغربية جرّاء اعتراض ضحاياه، بل نتيجة سياسة ابنه الضالّ، والتي باتت تشكّل حقيقته المفضوحة. فالرصيد الذي تمّت مراكمتُه أخلاقيًا ومؤسساتيًا، يُضحّى به من أجل دعم «إرادة الإبادة»، ريثما تنتهي بسرعة قبل إفلاس هذا الرصيد.
مغادرة جوديث بتلر للمسرح
على خشبة مسرح «مهرجان برلين السينمائي» كان من المفترض بالفلسطيني والإسرائيلي أن يتكلّما لغةً أخرى، أن يرتقيا أخلاقيّاً تحت نظر ممثّلي الثقافة الغربية. لكنّهما لم يلعبا هذا الدور، كالعديد من «المقاطعين» الذين باتوا يتواجدون بمسارح عديدة لتذكير مَن يصعد على المسرح بأنّ هناك إبادة لن تسمح بعودة الأمور إلى «طبيعتها». فمن الحملات الانتخابية إلى المحاضرات الثقافية، مرورًا بالاجتماعات السياسية أو العروض الفنيّة، التي تهدف جميعها إلى محاولة الاستمرار وكأنّ شيئاً لم يحدث، هناك من يعترض ويقاطع ليذكر بالإبادة وبتخاذل المتواجدين على المسرح.
في هذا المناخ من التطبيع مع الإبادة، يمكن قراءة كلمة جوديث بتلر الأخيرة، والتي رفضت فيها وصف هجوم 7 أكتوبر كعملية إرهابية معتبرةً إياها نوعًا من الكفاح المسلح، كمقاطعة لثقافة تحاول بشتى الطرق تجاهل الإبادة وما تحملها من معانٍ. في ما يشبه مقدّمة جان بول سارتر لكتاب فرانتس فانون، «معذبو الأرض»، كسرت بتلر الثنائية المؤسِّسة للموقف الغربي، أي نقد «إرهاب حماس» و«ردّة فعل نتنياهو» في الآن نفسه (وهو الموقف الذي حاولت أخذه في بداية طوفان الأقصى)، تلك الثنائيّة التي باتت تشكّل الغطاء الأخلاقي للإبادة. وفي هذا الرفض، نقدت بتلر أي محاولة لموقف «مجرّد» من الأحداث، يضع المراقب في موقف الحكم المحايد.
لقد نزلت بتلر عن خشبة مسرح هذه الثقافة الغربية لكي تنضمّ إلى جمهور المقاطعين لهذه الثقافة.
بات هناك ثقافة اعتذار في المؤسسات الثقافية، تعتذر عن مآسي الماضي، من الاستعمار إلى العبوديّة، مرورًا بالمحرقة. لكنّ هذا الاعتذار، عندما يُظهر قابليته للتعايش مع الإبادة، يتبيّن أنّه كان يهدف إلى إثبات التفوّق الأخلاقي للمعتذِر أكثر ممّا هو محاولة للتعويض لضحايا تلك الحقبات التاريخية، أو ضمانة لعدم حدوث هذه المجازر مجددًا. ربّما ستعتذر تلك الثقافة عن سكوتها عن الإبادة بعد عقود من الزمن، أي بعد إتمام الإبادة، لتحوّل دورها المتخاذل إلى برهان آخر عن هذه الأخلاقية الفارغة.