للكراهيةِ سُمْعَةٌ سيِّئةٌ في الحيِّز السياسيّ: فإضافةً إلى وَصْمِها باللاعقلانيّة، هي تُعْتَبَرُ عموماً شعوراً مُدمِّراً لا ينتج عنه شيءٌ إيجابيّ، فيُقال إنّ تفشّيها يُمزِّق النسيجَ الاجتماعيّ ويُلحِق الأذى حتّى بالذين هم مصدرها. يكفي، مثلاً، وصفُ خطابِ شخصٍ أو حزبٍ بأنّه خطابُ كراهيةٍ لدحضِه كليّاً ونزع أيّ مشروعيّةٍ عنه؛ لذا، نرى أنّ معظم مَن يُرَوِّجون لخطاب كراهية فعليّ (أصحاب الطروحات العنصرية على سبيل المثال) غالباً ما يحاولون نفيَ هذه الصفة عن خطابهم، ذلك أنّهم يدركون تماماً أنّ الكراهية الصريحة، أو غير المُسْتَتِرة، مرفوضةٌ على نطاقٍ واسع كمحرِّكٍ للفعل السياسي.
في المقابل، فإنّ الغضب، وبالرغم مِن وَصْمه هو الآخَر باللاعقلانيّة، مقبولٌ، إلى حدٍّ ما، في الحياة السياسيّة. ولعلّ السَّبب كَوْنُ هذا الشعور ردَّ فعلٍ مؤقَّتاً، ليس مرتبطاً بالضرورة بالكراهية، ويتّخذ عادةً شَكْلَ فَوْرَةٍ قد تطول بعض الشيء، ولكن لا مفرّ مِن أن تَخْبُوَ في نهاية المطاف. لذلك، لا يُشكِّل الغضبُ الجماعيّ، في الأغلب، تهديداً جذريّاً للبنى الاجتماعية: هو بطبيعته عابرٌ زائلٌ، وإذا لم ينجح في قلب المعادلة السياسيّة رأساً على عقب خلال فورته الوجيزة نسبيّاً، فالأرجحُ عندئذٍ أنّ تعودَ الأمورُ إلى سابق عهدها.
أمّا الكراهية، فنَفَسُها طويلٌ طويل. وعلى عكس معظم المشاعر الأخرى، هي ذات هدفٍ واضحٍ نادراً ما يُبدِّله مرور الزمن: إلحاقُ الشرِّ بالشيء المكروه، أو حذفُه مِن الوجود. والكراهيةُ شعورٌ باردٌ، إذا صحّ التعبير. صحيحٌ أنها قد تتسبَّبُ بغليانٍ، بانفجارٍ، بفَوْرةِ غضبٍ؛ غيرَ أنّ الفَوْرةَ هذه لا تستنفد شيئاً مِن مخزون الكراهية، الذي يبقى على حاله بعد انحسار الغضب، حاوياً وقوداً يكفي لانفجاراتٍ مُستقبليّةٍ، مُتقارِبةٍ أو مُتباعدةٍ، لا تُحصى. بمعنى آخر، الكراهية كمٌّ لا محدودٌ مِن غضبٍ تراكمَ وتجمَّد فصار جزءاً لا يتجزَّأ مِن الشخص الكاره.
والكراهيةُ، بما هي مخزون غضبٍ لا يَنْضبُ إلّا بَعد تدميرِ الشيء المكروه، مُخيفةٌ مُرْعِبَةٌ إنْ تفشَّت في الحياة السياسيّة. هي قد تُحوِّل الخصمَ عدُوّاً لا سبيل إلى الحوار معه، فينتقل النزاع حينئذٍ مِن نطاقِ السياسةِ المُؤَطَّرِ بالقانون والمؤسَّسات، إلى حيِّزٍ وجودي قد لا تَحدُّه أيّة قوانين، ما يُهدِّد تماسك النسيج الاجتماعي ويُنذر باندلاع العنف.
لكن، ثمّة أنظمة سياسية يستحيل إصلاحها، أي العمل على تغييرها مِن داخلها ضمن أُطُر القانون والدستور. مثال عنها الأنظمة الديكتاتورية. ومثال آخر هي تلك الأنظمة التي تلتحف بغطاء ديموقراطي رقيق بالكاد يَحْجب جوهرَها المافيويّ المُتعدِّد الأقطاب، أنظمة تحكُم مُعتمدةً على هذه المُفارقة التي تتوجَّه بها ضمنيّاً إلى رعاياها: أنا العُنفُ الذي قد ينفجر ويبيدُكم إن أخْلَلْتُم بتوازني، وأنا مَن يُحافظ على التوازن ويحميكم مِن العُنف. بعبارة أخرى، هي تقول: أنا العدوّ، وأنا مَن يقيكم شرَّ هذا العدو. بَيْد أنّ هذه الأنظمة تعلم أنَّ تبريرَها لوجودها هشٌّ وركيكٌ، لذا تعمد إلى تقديم نفسها كحالة مؤقَّتة واستثنائية، موهِمةً الرعايا أنّ في استطاعتها أنّ تتغيَّر، وأنّ سُبُل العمل السياسي الديموقراطي ليست موصدة. هكذا تسعى إلى تأبيد نفسها.
لا يسقط نظامٌ مافيويٌّ كهذا إلّا عندما تتأصَّلُ كراهيةُ الشعبِ له وللمستفيدين من ديمومته. وليس المقصودُ هنا كراهيةً مُجرَّدةً تستهدف كائناتٍ سرابيّةً غائمة مِن قبيل «النظام الطائفي» أو «الفساد» أو «الطبقة السياسية»، وإنّما كراهيةٌ أكثرُ وضوحاً وتحديداً، تستهدف كبار المُنتفعين مِن شبكة المصالح المافيويّة والمُتعدّدة الأقطاب، أي الطبقة الاجتماعية الطفيليّة غير المُنتجة، التي تعتاش مِن الفساد المُقَوْنَن (كبارُ المصرفيّين والمقاولين والمُستوردين، إضافةً إلى الزعامات الطائفية). فقط حينئذٍ تصبِحُ مُهَدَّدةً استمراريةُ شبكةِ المصالح تلك، و تتَّضح صورة العدوّ الذي تنبغي هزيمتُه. لذلك، يمكن للكراهية أن تكون فضيلةً سياسيّة.
يبدو أنّ الكراهية تتأصَّل في لبنان. ولعلّنا في طور الانتقال مِن الغضب الجماعي إلى الكراهية الجماعية.