اضمحلال محور…
جاء اغتيال يحيى السنوار بعد أقلّ من شهر على اغتيال حسن نصرالله، وبعد موجة استهدافات طالت أبرز القياديين في التنظيمَين وحرب دمرّت معظم مؤسّساتهما. بعد سنة على «طوفان الأقصى»، نجحت إسرائيل بضرب حركات المقاومة، أو النسخة الأخيرة عنها، ومعها إضعاف محور الممانعة الذي فقد أبرز ساحاته.
ربّما نجح السنوار بإعادة فلسطين على الخريطة العالمية، بعد عقود من النسيان وسنوات من التطبيع. لكنّ ثمن هذه العودة، بالإضافة إلى آلاف القتلى والدمار الذي لا يحصى، كان ضرب التنظيمات المسلّحة التي حملت هذه القضية في الآونة الأخيرة.
ربّما ليست ضربة قاضية، وقد ينجح هذان الفصيلان في إعادة تشكيل نفسيهما، وربّما قد تستعيد إيران بعضاً مما خسرته في السنة الأخيرة. لكنّ الأكيد أنّ هناك صفحة انطوت، كان عنوانها صعود محور الممانعة، صفحة بدأت مع غزو العراق وتنتهي اليوم بغزو غزّة ولبنان.
…وصعود آخر؟
لم تنتهِ سنة «طوفان الأقصى» باغتيال أبرز قائدَين في محور المقاومة وحسب، بل أظهرت التفوق التقني الإسرائيلي على خصومها، ووحشية هذا الكيان الذي لا تضبطه أي معايير أخلاقية أو قرارات دوليّة أو قانون إنساني. سمح هذان العاملان لنتنياهو بأن يقدّم نفسه ليس فقط كحامٍ لأمن إسرائيل، بل كمهندس «الشرق الأوسط الجديد» الذي فشلت الولايات المتّحدة بتحقيقه عندما احتلّت العراق قبل عشرين عاماً.
لكنّ هذا الشرق الأوسط ليس بجديد. فسقوط محور الممانعة سيفتح المجال أمام صعود المحور المقابل، محور التطبيع، أو ما كان يسمّى سابقًا محور الاعتدال، لينذر بمنطقة يعاد تشكيلها سياسيًا تحت قيادته. فبعد سنوات من إضعاف المحور الخليجي، أكان في لبنان أو سوريا أو اليمن، جاءت الحروب الأخيرة لتعيد التوازن بين المحاور، أو حتى لتنهي هذا الصراع.
ربّما الأمور لن تجري حسب مخططات نتنياهو. لكنّ الأكيد أنّ هناك صفحة انطوت، كان عنوانها صراع المحاور، وإن كان شكل الصفقة الإقليمية ما زال غامضًا.
المحاور والثورات وفلسطين
طيّ صفحة المحاور لا يخصّ فقط ألاعيب صانعي القرار في منطقتنا. فقد كان هذا التنافس مؤسِّسًا لانقسام في «البيئة التقدميّة» في العالم العربي، بين من رفع لواء التغيير الديموقراطي والتحرّر من الأنظمة القمعية ومن رفع شعار فلسطين وقاوم الاحتلالات الخارجية. فمنذ غزو العراق، بات هذان الشعاران، جراء سياسة المحاور، متناقضَين، وربّما كانت «الثورة السورية» وما أحاطها من سجالات ومجازر أوضح دلالة لهذا الانقسام.
سقطت «الثورات العربية» على مذبح هذا الصراع الإقليمي، إمّا من خلال الاحتلالات أو المجازر وإمّا من خلال السيطرة السياسية على بعض القوى الثورية من قبل أنظمة رجعية، وأخيرًا من خلال تعاضد الأنظمة مع بعضها بعضاً دفاعًا عن استقرار منظومتها القمعية.
أمّا فلسطين، فكان مصيرها مماثلاً. بدأ بتناسي هذه القضية قبل أن يتمّ استغلالها من قبل محور، وصولًا إلى محاولات تصفيتها على يد نتنياهو. ستفرح أبواق الخليج بما حدث، كما فرحت أبواق الممانعة من قبلها بالإبادة السورية. لكن لمن يهمه مسألة التحرّر العربي، أكان تحرّراً داخليًا أو خارجيًا، فلا بد من أن يتمّ إعادة التفكير بهذا الموقع المعارض في لحظة التحوّل الإقليمي هذه.
أمّا في لبنان
غالباً ما تكون لحظات التحوّل الإقليمي تمهيدًا للحظات انفجار داخلي في لبنان. وهنا لا نحتاج إلى الكثير لتخيّل التفاوض الداخلي المرتقب في لحظة ضعف حزب الله وراعيه الإقليمي، وبعد حرب دمّرت أي توافق حول سلاحه. الأبعاد المذهبية لهذا التفاوض واضحة أيضًا، كما خطر الانزلاق العنفي.
فبالنسبة لمن عارض حزب الله في لحظة سيطرته وهو متحمّس لسيطرة بديلة بعد صعود «محوره»، قد تشكّل هذه اللحظة «فرصة». لكن بالنسبة لمن عارض حزب الله لأنّه طرف مسيطر، وهو يطمح إلى بنيان سياسي جديد لا سيطرة فيه لمحور أو فصيل أو طائفة، تشكّل هذه اللحظة هي لحظة خطر يجب مواجهتها لتفادي الحرب القادمة.
عاشت المنطقة منذ أكثر من عشرين عامًا تحت وطأة صراع المحورَيْن، صراع أنتج تسويات قاتلة وحروباً دموية وسياسة عقيمة. ولن يكون الخروج من هذا الصراع من خلال انتصار طرف على آخر، ولكن من خلال فتح أفق مختلف بالسياسة، أفق لا يعيد تكرار عقم المرحلة السابقة.