مراجعة سينما
طارق أبي سمرا

هل كانت انتفاضة 17 تشرين عبثيّة إلى هذا الحد؟

3 آذار 2025

نحن البشر كائنات تُضفي المعنى على كلّ شيء وأيّ شيء. في أزمنة سابقة، كنّا نرى في هطول المطر استجابةً لصلواتنا، هبةً من الآلهة التي نتضرّع إليها كي ينمو زرعنا. ومع أنّ السحر قد نُزِع عن العالم، لا نزال نرى في حيواتنا الكثير من الدلالات والإشارات والرموز، ولا نزال نُسقِط المعنى على التاريخ بوصفه حصيلة جهودنا وتطلّعاتنا الجماعية.

بالرغم من هذا، فإنّ المعاني والدلالات التي نؤَنسِن بها عالمنا هشّةٌ جدّاً، وقد تتفتّت لأتفه الأسباب. يكفي أحياناً النظر إلى أمرٍ ما من زاوية مختلفة عن المعتاد حتّى يُجرَّد من أيّ معنى، فلا يعود يحمل دلالات أكثر من تلك التي يحملها سقوط ورقة من غصن شجرة. الجنس، مثلاً: إنّه مِن أكثر الأشياء التي يشتهيها البشر ويتلذّذون بها، وغالباً ما يكون مرتبطاً بالعشق والغرام. لكن يكفي النظر إليه كسلسلة من الحركات شبه الآليّة، يُكرّرها البشر منذ فجر التاريخ وفي وضعيّات متشابهة، لكي يستحيل فعلاً عبثيّاً لا معنى له، لا بل طقساً سخيفاً، غبيّاً وأخرقَ، يبعث على الابتسام بشيءٍ من السخرية. إلّا أنّنا نادراً ما ننظر إلى الجنس بهذه الطريقة، أي من الخارج، إذا جاز التعبير. فالقدرة على ممارسته تشترط الغوص في اللحظة ونسيان كلّ ما قد ينطوي عليه هذا الفعل من سخافة وعبث.


تجريد انتفاضة 17 تشرين اللبنانية من أيّ معنى: هذا تحديداً ما يفعله فيلم غسّان سلهب «النهار هو الليل». النصف الأوّل من الفيلم الذي يمتدّ قرابة ست ساعات، يقتصر على مشاهد متتالية لأشخاص يسيرون في تظاهرات أو يردّدون الشعارات. مشيٌ، أو تكرارٌ للشعارات– ولا شيء غير ذلك. أمّا النصف الثاني فيتضمّن لقطات طويلة تُظهِر شوارع بيروتيّة فارغة أثناء فترة انتشار كورونا، ثمّ مشاهدَ من المسيرات والتظاهرات التي أعقبت انفجار مرفأ بيروت. وبين كلّ هذا، يمرّ سلهب سريعاً على خسارته والدَيه خلال تلك المرحلة.

المسيرات والتظاهرات في هذا الفيلم لا سياق لها على الإطلاق. صحيحٌ أنّ المُشاهد اللبناني يدرك تماماً خلفيّة ما يراه (الأزمة الاقتصادية، انهيار قيمة الليرة اللبنانية، احتجاز الودائع المصرفية...)، إلّا أنّه لا يلمح على الشاشة أيّ شيءٍ قد يشير إليها، ولو تلميحاً. فقط حشود تسير في الشوارع، أو مجموعات صغيرة تردّد الشعارات. وكاميرا غسّان سلهب قد تبقى أحياناً ثابتةً لعشر دقائق أو أكثر، فلا تُريك شيئاً سوى مئات من الأشخاص يتدفّقون تباعاً. ثمّ مشهدٌ آخر مماثل، لكن في شارع آخر، في يوم آخر. وهكذا دواليك. إلى أن يتملّك المُشاهدَ شعورٌ بأنّ ما يُبصره على الشاشة هو فعلاً بلا سياق– أيْ أنّ تلك الحشود المتدفقّة في الشوارع لا تفعل شيئاً سوى المشي والصراخ، بلا أيّ هدف. سيقانٌ تتحرّك، وحناجر تصدح. ولا معنى يمكن استخلاصه من ذلك.

لا يتفاعل سلهب بتاتاً مع ما يجري أمامه. لا يُحاور أحداً، لا يطرح أي سؤال، لا يصوِّر حديثاً بين شخصَين. لا يبالي بغير المشي والصراخ. كأنّ ما يُريد قوله هو أنّ الانتفاضة– هذه الانتفاضة وأيّة انتفاضة– يمكن اختزالها في هذين الفعلَين: المشي والصراخ، وأنّ كلّ ما عدا ذلك ليس سوى معنى وهمي نُسقطه على حركة السيقان وهتاف الحناجر.

غنيّ عن القول إن مشاهدة هذا الفيلم، بساعاته الستّ، هي بمثابة قصاص يبعث على ضجرٍ رهيب. وأغلب الظنّ أنّ المخرج أراد أن يكون لفيلمه هذا الأثر. ذاك أنّ الضجر هو ما يحمل المُشاهد على نزع المعنى عن التظاهرات التي يُبصرها تمرّ أمامه. تدفّقُ مَشاهد لا ينتهي، يُشبه تدفّق الحشود في الشوارع على غير هدى– وكلّ مشهد منها يكاد يكون تكراراً للذي سبقه: هذا تحديداً ما يُشعرِك بأنّ ما فعله هؤلاء المنتفضون لم يكن له غاية أو جدوى.

محو السياق وإضجار المُشاهد لحمله على نزع المعنى. إنّها صيغة إذا طُبِّقت على أيّ شيء– حدثًا كان أو ظاهرة أو فعلًا– أفضت دائماً إلى النتيجة إيّاها: إشعارُك بأنّ ما تراه أمامك لا معنى له. لكن ثمّة وسيلة أخرى لإظهار لامعنى شيء ما، وسيلة أكثر صعوبة إلّا أنّها تترك أثراً أعمق في المتلقّي: التفاعل مع المعاني والدلالات المُحيطة بهذا الشيء لتفكيكها وكشفِ الأوهام التي تنطوي عليها. لنفترض أنّ انتفاضة 17 تشرين كانت قائمة على أوهام خالصة– وهذا افتراض قد يكون صحيحاً. لا نرى هذه الأوهام في فيلم غسّان سلهب، ذاك أنّه قرّر، منذ البداية، شطب جميع المعاني والدلالات بوصفها أوهاماً، لكن من دون تكبّد عناء برهنة ذلك.

مشاهدة «النهار هو الليل» تشبه مشاهدة فيلم إباحي طويل بعد أن تبلغ النشوة، وفيما لم تعد مُثاراً جنسيّاً على الإطلاق. فمن دون الإثارة لا تعود ترى في مشاهد الجنس سوى تكرار رتيب، عبثيّ ومملّ، لحركات لا تعني شيئاً، فتكاد تتساءل لماذا يقْدِم عليها الممثلون. وعلى نحو مشابه، فإنّ ما تراه في فيلم غسّان سلهب يقتصر على تكرار لحركات أجساد وأصوات حناجر في حالتها الخام، أيْ مجرّدة من الدلالات والإشارات والرموز التي نصنع منها عالمنا، والتي وحدَها تحول دون أن تغدو أفعالنا بتفاهة سقوط ورقة من غصن شجرة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
قتيل وأربعة جرحى في عملية طعن في حيفا: المنفّذ درزي من أراضي الـ48
مسيّرة إسرائيلية في الجنوب: سنفتح أبواب جهنّم
فيلم «لا أرض أخرى» يفوز بالأوسكار
وزارة الزراعة تتصدّى للاتجار بالحيوانات البرّية
مراجعة

هل كانت انتفاضة 17 تشرين عبثيّة إلى هذا الحد؟

طارق أبي سمرا
جنبلاط يحّذر من مشروع التخريب الإسرائيلي في سوريا