عندما يقوم شعبٌ مستعمَر بتحرير نفسه من مستعمِره، فذلك عمل تحريريّ بالمعنى الدقيق للكلمة. لكنّنا نعلم، وفي تلك الحالة تحديداً، أنّ ذلك العمل التحريري ليس كافياً لإرساء ممارسات الحريّة التي ستصبح ضروريّة فيما بعد لهذا لشعب، وهذا المجتمع، وأولئك الأفراد، كي يقرّروا الأشكال المقبولة لوجودهم ولمجتمعهم السياسي.
ميشيل فوكو
ما العلاقة بين خطاب الأمين العام لحزب الله في يوم القدس ومحاولة خطف بشير أبو زيد، رئيس تحرير جريدة 17 تشرين، من أمام منزله في كفررمّان والاعتداء عليه من قبل مناصري حركة أمل بعد كلمة السيّد حسن نصر الله مساء الجمعة الفائت بساعات قليلة؟
ظاهرياً، لا علاقة بين كلام الأمين العام وكدمات الصحافي.
سببيّاً أيضاً، لا علاقة.
فالاعتداء على أبو زيد تمّ بعد تجرّؤه، بُعَيد انقطاع الكهرباء المتواصل، على المناداة: اطفوا قدّام بيت نبيه برّي وضوّوا بيوت الناس. لكنّ العلاقة موجودة، وإن لم تكن مباشرةً وسببيّة، وتمدّنا العودة إلى كلام نصر الله في يوم القدس بمفاتيح لفهمها، خاصّة عندما لمّح إلى تخوين المنتفضين: الإسرائيليّون في العام الماضي كانوا يراهنون على التطوّرات الداخليّة في لبنان وراهنوا على ثورة ١٧ تشرين على أنّها انقلاب على حزب الله.
والواقع أنّ الأمين العام قد بادر إلى تخوين مواطني ومواطنات 17 تشرين منذ أيّامها الأولى من خلال ربطها بالخارج. ورافق الفعلُ الكلام آنذاك. فانهمرت عصيّ الشبّيحة على الناس، وانتشرت فيديوهات الذلّ التي تصوّر اعتذارات من تجرّأ لوهلة على الخروج عن حدود الطاعة، وقد عاود تجديد البيعة علناً بعد الاعتداء.
ليس حزب الله أوّل قوّة تجمع ما بين التحرير والقمع في الداخل، واضعةً المجتمعات المركّبة التي تسيطر على أكثر مفاصلها أمام أحد خيارَيْن: إمّا الانصياع وإمّا العنف.
فالحزب، في بعض أوجهه، هو وريث لحركات مقاومة الاستعمار وأنظمة التحرّر الوطني العلمانيّة التي سبقته. ولم يحل الاختلاف العقائدي بينه وبينها أمام استيراده بعض أفكارها وممارساتها، كالتخوين واختزال الصراع العربي- الإسرائيلي بجانبه العسكري. فخسارة فلسطين أتت نتيجة هزيمة عسكريّة، ولا يتمّ استرجاعها إلّا بنصر عسكري.
لذلك التصوّر تبعات عدّة كتجريم الانشقاق وتحريم النقد (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، وعسكرة الطبيعة، وإنشاء المجتمع ذي البعد الواحد الذي يسخّر كلّ مقدّراته للقتال وكلّ مؤسساته لمؤازرة مقاتليه.
لا شكّ أنّ العمل السرّي والانضباط مفيدان في الميزان العسكري، لكنّ الثمن الذي يترتّب على تشييد مجتمع التعبئة العسكريّة الدائمة باهظ.
أوّلاً،
ينفي إمكانيّة الممارسة السياسيّة العلنيّة والاختلاف والمحاسبة. لا مكان للديموقراطيّة بما هي تداول علنيّ بين متساوين، ولا مكان لممارسات الحريّة التي تُنشئ مجتمعاتٍ سياسيّة.
ثانياً،
يختزل كلّ تعقيدات العالم إلى ثنائية الصديق/العدوّ التي تسهّل عملية "تفريخ" الأعداء في الخارج والداخل وتسوّغ الحرب (الأهليّة، الإقليميّة، العالميّة) كالظلّ الملازم للحياة.
ثالثاً،
يحوّل أساسيّات الحياة الكريمة وكلّ عنوان آخر إلى مطلب ثانويّ، تافه أو مشبوه. فيساهم بإهماله أو إرجائه إلى أجل غير معروف. فإن تجرّأ أحدهم وأشار إلى الخراب المحيط بنا بعدما خسرنا ثروتنا البحريّة وتلوّثت مياهنا واجتُثّت غاباتنا وانهارت ليرتنا وطمّتنا النفايات التي يرفعها عمّال مهاجرون يعملون بظروف أشبه برقّ محدَث حتّى أنّ رئيس الحكومة ناشد الولايات المتحدّة إلى التدخّل السريع لتفادي المجاعة، يذكّرنا الأمين العام بأننا اليوم أقرب ما نكون إلى تحرير القدس... فيعاد تبويب الإشارة إلى الخراب تحت عنوان وهْن نفسيّة الأمّة، وقد يوصم صاحبها بالمستسلم أو المطبِّع.
رابعاً،
يُفقِر المخيّلة السياسيّة التي بموازاتها بين تحقيق العدالة للفلسطينيين والنصر العسكري على الإسرائيليين تفتقر لأي رؤية مستقبليّة حول أسس فلسطين المستقبل. فبعد أكثر من قرن على بداية الاستيطان اليهودي لفلسطين، يقول السيّد نصر الله بخفّة: لا نطلب إلقاء أحد في البحر، ولكن نطالب الذين جاؤوا من بلدان العالم واحتلّوا فلسطين بالعودة إلى بلدانهم، ناكراً ارتباط تحقيق العدالة للفلسطينيّين بحلّ المسألة اليهوديّة في الشرق. ويشكّل ذلك ارتكاساً سياسيًّا وأخلاقيًّا لبعض أدبيّات المقاومة الفلسطينيّة ومفكّريها كإدوارد سعيد (طرح الدولة الواحدة لمواطنيها المسلمين والمسيحيين واليهود) وبعض اليسار اللبناني.
يأتي العيد العشرون للتحرير والعيد الأوّل له بعد 17 تشرين ليذكّرنا مجدّداً بالهوّة العميقة التي تفصل ما بين التحرير وممارسات الحريّة، وبأنّ غياب الثانية يجعل العنف، عفواً الحوادث الفرديّة، والعمليّات الجراحيّة (7 أيّار)، أفقاً ملازماً لحياتنا.