في وقت «يتوزّع العطف والحنان على المقتول حسب الجنسية» وتصبح إبادة شعب مبرّرة، وفي الوقت الذي تخرج فيه تصريحات رسمية فرنسية تميّز بين ضحايا الإرهاب وضحايا الحرب، وأخرى تهدّد بسحب التمويل عن جمعيات نسوية حسب موقفها مما يجري في فلسطين، امتلأت صالة سينما في الضاحية الشمالية لباريس بأصوات وضحكات ووجوه ودموع وصور وقصص نساء من فلسطين.
أُطلق فيلم «باي باي طبريا» للمخرجة الفرنسية الفلسطينية الجزائرية لينا سويلم في الصالات الفرنسية في 21 شباط/فبراير وفي 51 صالة سينما، وهو يحقّق إقبالا كبيراً وتغطية واسعة في الصحافة الفرنسية.
أربعة أجيال من النساء
الفيلم وثائقي، صُوّر بين باريس والجليل، ويعرض سِيَر نساء عائلة المخرجة ومن خلالهنّ، تاريخ فلسطين ونكبتها.
حكايا تمتد على أربعة أجيال، مروية بعذوبة وعفوية وبساطة وعمق، عن قوّة وصلابة وجمال وشجاعة وأحلام وأوجاع وأحزان وأفراح وغراميات نساء، انتُزعت منهنّ حياتهن السابقة واضطررن للعيش مع الفقدان، تحت الإحتلال، معزولات عن محيطهنّ، على وقع أصوات الطيران وهنّ محاطات بمستعمرات منتشرة على الجبال. وبالرغم من هذا كلّه، استمرّين بالعمل والدرس والرقص والفرح.
لينا سويلم، ولدت في فرنسا من أمّ فلسطينية، أخذت منها بعضاً من لغتها، كما قالت. هي إبنة الجيل الرابع من نساء العائلة، والأولى التي وُلدت خارج فلسطين، وهي لا تُشبه أيّاً منهنّ، كما قالت لها أمّها ضاحكة عندما سألتها عمّن تُشبه من نساء العائلة. وكأنها برحلتها مع أمّها الى الجليل، وأسئلتها لها، والغوص في قصص جدّاتها، والعودة إلى أرشيف ذكريات طفولتها في القرية التي وُلدت فيها أمّها، وأرشيف النكبة والتهجير وما حلّ بعائلتها، كأنها تفتّش عن جزء منها في هذه الشجرة العائلية المغروسة هناك، والباقية، بالرغم من كل محاولات اقتلاعها ومحو جذورها.
أمّها، الممثلة هيام عبّاس (شاهدها الجمهور مؤخّراً في مسلسل «سكسيشن»)، ولدت في الناصرة في فلسطين، كبرت في قرية إسمها دير حنّا ودرست المسرح في القدس الشرقية. عاشت في فلسطين حتى منتصف عشريناتها، لكنها اختنقت هناك، كانت بحاجة أن تتنفس، أن تتخطّى الحدود الجغرافية والاجتماعية والعائلية، كما باحت لابنتها، فتركت البلد لتبدأ مسيرتها مع التمثيل الذي تجلّت فيه. هذه المسيرة التي لم يُحكَ عنها في الفيلم إلاّ عرضاً، إذ أن قصّة عباس وعلاقتها مع أهلها وبلدها وتاريخه وجغرافيته هي الموضوع. وفي هذه العلاقة، لا كلام بينها وبين عائلتها عن التمثيل والأفلام، وإن حصل، فهو يمرّ سريعاً أو من خلال الهتّ والمزاح: ذهبتِ إلى هوليوود ولم تأخذينا معك، تقول لها أختها. غادرت هيام عباس ولم يكن في نيّتها العودة. لكنها صارت تعود في العُطل الصيفية بعد أن أصبحت أمّاً، مصطحبة ابنتها، لينا سويلم، وكأن ابنتها صالحتها مع البلد والعائلة وأعادت لها أنفاسها فيه.
ستّها نعمت وأمّ ستّها أم علي، عاشتا النكبة والمشي لأيام من دون وجهة، حتى وصلتا من طبريا في الجليل التي هجّرتا منها، إلى قرية إسمها دير حنّا. ربّت أم علي أولادها بمفردها بعدما مات زوجها قهراً.
خالة أمّها ضاعت على طريق النزوح، وانتهى بها المطاف في مخيم اليرموك في دمشق. بدأت حياة أخرى هناك وانتظرت ثلاثين عاماً لتجد طريقة تمكّنها من رؤية أحبّتها وحضنهم من جديد.
ذكريات تمتد في الزمان والمكان
تقف هيام عباس أمام بحيرة طبريا، هذه البحيرة التي لها فيها مع ابنتها لحظات وُثّقت بالأبيض والأسود، تحمل فيها ابنتها، وكأنها بذلك تعمّدها بماء الحبّ والحق والتاريخ، الماء الذي يتغلغل في المسامّ ويمتدّ وينتقل من جيل الى جيل، أينما وُلد وأي لغة تكلّم؛ تقف وتُشير إلى لبنان وسوريا والأردن، البلدان المُحيطة، البعيدة رغم قربها، وتُخبر بأنها لم تتمكّن من زيارة خالتها في سوريا، إلّا عندما حصلت على الجنسية الفرنسية، ففلسطينيّو الداخل ممنوعون من الدخول إلى سوريا ولبنان.
ترافق الإبنة أمّها إلى دير حنّا بعد موت والدة الأم، فهي بعد أن صالحتها مع العائلة والبلد عندما وُلدت، تواكبها في رحلة التذكّر والتعبير عمّا كانت تتجنّب الكلام عنه لكي يصبح الحداد ممكناً. مواكبتها الحنونة لها، أحاديثهما العفوية، الحرص والحب بينهما وأصواتهما المتداخلة، كتابتهما للشعر كلّ في لغتها، صور نساء العائلة، بحيرة طبريا بأزرقها الجميل ووسعها، الفيديوهات المصوّرة لأعراس تنتهي بأغانٍ وطنية ولحظات حنونة ملتقطة خلال عطل صيفية أمضتها المخرجة وهي طفلة في دير حنّا مع عائلة أمهّا، جلسات تحضير الأكل هناك، إحياء الذكريات بحلوها ومرّها في الجلسات العائلية، مزيج الحزن والسخرية والحب النابع من عينيّ هيام عباس، علاقة الأم مع فلسطين ومع عائلتها؛ كلها بدت أليفة وحقيقية ولطيفة ومليئة بالحياة وبالطعمات والروائح. لا مبالغات فيها ولا إظهار لها بشكل مثالي. عبر هذا المزيج كله، روت الإبنة قصة أمّها وعائلتها التي هي امتداد لها، ووثّقت من خلالها قصة عائلات كثيرة ومجتمع وبلد.
استذكار النكبة في لحظة الإبادة
يُعيد الفيلم الاعتبار إلى حياة الأفراد في فلسطين. هؤلاء الأفراد المغيّبون، المُنكر حقّهم بالوجود، اللامرئيون إلاّ عندما يُقتلون، عندها، يتحوّلون الى أرقام، ولا يهمّ حجم هذه الأرقام، فالحروب تنتج أضراراً جانبية.
النكبة المُعاد إحياؤها في الفيلم، تتكرّر هذه المرة على مرأى ومسمع العالم كلّه.
يأتي «باي باي طبريا»، وسط هذا الجوّ من الإنكار والتبرير والترهيب لمن يدافع عن الحياة ويضع الأحداث في سياقها ويسمّي الأشياء بأسمائها ويذكّر بالتاريخ الكولونيالي والاستيطاني، يأتي حاملاً معه دفء أمّهات فلسطينيات وحبّهنّ، ومذكّراً بأنّه كان هناك ناس يعيشون وينجبون ويفلحون ويضحكون ويحبّون ويتعلّمون، قُتلوا وشرِّدوا وحوصروا وفقدوا أحباباً ومنازل وأحلاماً، ذنبهم الوحيد أنهم سكّان هذه الأرض. أمّا الذين نجوا، فمنهم من بقي وتعامل وأنجب وضحك وتعلّم وأحبّ، ومنهم من سافر لأفق جديد حاملاً معه كل ما حصل.
لهؤلاء الناس وجود ووجوه وأصوات وقصص وآمال وسِير وحق بالبلاد والحماية والحياة.