يوميات في زمن الانهيار
سمير سكيني

تمارين في الابتعاد عن العلاقات

23 تموز 2022

لا تلفظ الكلمة الأخيرة، لا تقل الكلمة الأخيرة التي في آخر الطريق. قد يسمعها أحد في أوّل الطريق ولا يعود يمشي.
وإذ تطوي الطريق وتضعها في جيبك، تَيَقّن أن لا أحد ماشٍ عليها. هكذا يخفُّ حملُكَ.
وهكذا لا تزعج الماشِين.
وإن أردتَ رفيقاً، فأيُّ رفيق أعزُّ من وحدَتِك؟
وديع سعادة، الطريق، من «قل للعابر أن يعود نسيَ هنا ظلّه»

بدَأَتْ، العام الفائت، تمارين الحفاظ على العلاقات.

تطلّب الأمر عاماً كاملاً لإدراك بلاهة هذه التمارين، عاماً واحداً وتجارب عديدة، للاقتناع بأنّ خيار الابتعاد عن العلاقات وتأجيلها جميعها إلى ما بعد الانهيار هو الخيار الأصوَب. «الابتعاد عن»، لا «الحفاظ على». الابتعاد عن العلاقات كلفظةٍ مخفّفة لـ«قطع العلاقات»، والانزواء وحيداً إلّا من صحبة الظلال.

كظلّكَ أيضاً، تطاردك فكرةُ أنّه كان يمكن لكل العلاقات أن تسيرَ بأشكالٍ أخرى، بشكلٍ ألطف. لكنّ بعضها انطحن تحت ثقل الأخبار المُحيطة والطحبشة النفسية الجماعية، وبعضها سار بعفوية وانتهى بعكسها، وبعضها بدأ سريعاً وانتهى سريعاً، وقليلُها انتهى برضا الفريقَين وكثيرُها بخلاف أحدهما.

كان يمكن أن تختلف كل هذه الأشكال فقط لو كنّا في زمنٍ عادي، فقط لو لم نكن في زمن الانهيار.

تمارين قطع العلاقات تتطلّب إذاً قدرة على حسم واتّخاذ القرارات، وجهداً يبدو عبثياً ومتناقضاً للوهلة الأولى. يملؤكَ التردّد: هل هذا حقّاً ما أريده؟ تتردّد أكثر: معظم تبِعات هذه التمارين غير قابلة للعكس. هل سأندم؟ هل سأرتاح؟ هل أنجح؟ هل أفشل؟ هل كذا؟ هل كذا…؟ هل هذه هي طريق أقلّ الأضرار الممكنة؟ هاك، هذا سؤالٌ مشروع: سؤال أقل الأضرار الممكنة. معناه أنّك تعلم سلفاً أنّ الضرر آتٍ لا محالة.


1. «تمارين قطع العلاقات» مفهوم واسع

توقّفتُ عن مسايرة قطّي منذ فترة. بِلا أي حرج أو تردّد، ركلتُ القطّ عن التخت. شتمته. وعاودت بهدوء تقلّبات الليل. نهاراً، أستقصدُ التأخّر في موعد وجباته. بغضتُه كثيراً وتمنّيت في سرّي موته القريب. وطمأنته بالمقابل أنّي سأرسمه وشماً على كتفي حين يموت.

2. «تمارين قطع العلاقات» مفهوم أوسع

على سيرة الموت، ماتت 7 من شتلاتي الـ21. بينها ما نسيتُه في الشمس واحترق، وبينها ما نسيتُ دوره من جدول الرَي: بعضها جفّ وبعضها اهترأ، وبينها الغاردينيا التي تذكّرني بجدّي، وبينها الخُزامى. الخُزامى لم تمت كليّاً، عرقها أخضر لكن زهرتها انكسرت. فما الفائدة؟ إنّ الزهرة انكسرت، وقالت طفلةٌ: إنّ السماء اليوم ناقصةٌ لأن الزهرة انكسرت.

3. «تمارين قطع العلاقات» مفهوم أوسع بعد

مفهومٌ يطال الجماد. لم أجلس على «كرسيَّ الأحمر» منذ أشهر. هو كرسي هزّاز كبير لونه أحمر، ابتعته كهديّةٍ لنفسي. كان أشبه بسرير المعالج النفسي وصار خزانة ألقي عليها ما أخلعه عنّي فور دخولي المنزل. المنزل مُهمَل. ما عدت أرغب بترتيبه. أصلاً لن يأتي أحد ليراه. مؤخّراً ظهر ما يشبه البراغيت قرب المجلى لتأجيلي جلي الملاعق. وظهر ما لا يشبه البراغيت في مرطبان الزعتر لأنّي نسيته مفتوحاً. ونبتَ دودٌ في تراب القطّ، والعتُّ يتجوّل بين الكتب، والكثير من البرغش في الحمّام، وأربع فراشات رمادية حول لمبة الصالون وعنكبوتان في زوايا غرفة النوم. 

4. «تمارين قطع العلاقات» مفهوم بالغ الاتّساع

بعد أن تتخطّى المراحل المذكورة تصل إلى مرحلة القطع الأخيرة- مرحلة الوحش: أنت. «العلاقات» صلة بين طرفين، ويحدث أحياناً أن تكون أنت أنت الطرفَيْن. مؤخّراً صار فِصامُك أشدّ واقعيّةً. دماغك بطيء. بارانويا دائمة. تنظر في كل الاتّجاهات. بسرعة. فجأة تصفن، تنسى، نظراتك فارغة. لحيتُكَ ممتلئة. شعرٌ في فمك. تتلعثم كلّما حاولت تركيب جملة مفيدة، فتفضّل الصمت- أو الكتابة.


لكنّ تمارين الحفاظ على العلاقات كانت تمرّ بالكتابة. وعليه، يجب أن تمرّ تمارين قطع العلاقات بالمحو. على سبيل المثال، كتبتُ مراراً «اشتقتلّك» على الواتساب. ثم محوتها قبل أن أرسلها. للأمانة، رسالةٌ واحدة محوتها بعدما أرسلتها، وكانت عن الـ… مش مهم، لا شيء يُذكَر.

لا شيء يُذكَر، حقّاً.

لكن يُذكَر أن سألتِني مرّة، بعد غيابٍ، إن كنتُ قد زعلتُ أم لا. لم يكن سؤالاً سؤالاً، بل أقرب إلى الطلب، أقرب إلى التمنّي، تمنٍّ بأن لا تزعل، فاكتفيتُ بالإشارة إلى أنّه رواق. مش أزمة. المهم انتِ تكوني منيحة.

في تمارين الحفاظ على العلاقات، عليكَ أن تردّد هذه العبارة دائماً: المهم انتِ تكوني منيحة. أمّا في التمارين المُعاكسة فعليك أن تفكّر بالجزء الثاني من العبارة، الجزء الذي لم تذكره يوماً إلّا بينك وبين نفسك: المهم انت تكوني منيحة، بس الأهم تنيناتنا نكون مناح.

في هذه التمارين تغيب لفظة «تنيناتنا»، وتحضر لفظة الواحد، وحدي، وحدك. على سبيل المثال، وحدي قصدتُ السينما منذ أيّام، لمشاهدة فيلمٍ اتّفق «تنيناتنا» على مشاهدته. انتهى الفيلم وخرجتُ من القاعة وكان البحر أمامي، وصفنتُ وحدي. وفكّرتُ أنَّ هذا بحر. وقلتُ في عطلة العيد أعرض أن نذهب «تنيناتنا» إلى البحر. قلتُ أزرق وقلتُ شاطئ وقلتُ موجاً لطيفاً وقلتُ نخرج من زحمة المدينة. ثم ذهبتُ وحدي. واليوم نشر مترو المدينة إعلان حفل نعيم الأسمر في 30 الشهر: عوّدت عيني على رؤياك. أمّا الآن وقد اختفت هذه العادة، فالأصوَب ألّا أقترح الموضوع على «تنيناتنا»، من الأساس، وأن أشتري تذكرةً واحدة فقط، تذكرة واحدة لي وحدي. وحدي سأشرب كثيراً قبل أن أذهب، ووحدي سأشرب أكثر بعد أن أذهب، وسأقف في طريق العودة عند محلّ البوظة، لا لشيء، سوى لأؤكّد على نظريّتي القائلة بأنّه «يوجد ما يكفي من البوظة لتخطي المآسي 🍦».

وإن أقنعتَ أحداً بهذه النظرية، فهذا جيّد. شاركه قرن البوظة.

وإن لم يقنع أحد، فهذا أفضل. لكَ البوظة جميعها، لا لشيء، سوى لتتخطّى تمارين الابتعاد عن العلاقات، كلفظةٍ مخفّفة لـ«قطع العلاقات»، والانزواء وحيداً، وبعد ذلك، فإنّ الدنيا سيجارة وكاس.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد