مرّت الذكرى السنوية الثانية للانتفاضة من دون أيّ حدث استثنائي إلا إصرار الأوليغارشية على جرّ البلاد باتجاه حرب أهلية، أو بأقل الأحوال التلويح بها.
نظام مهترئ، بلاد تنهار، في ظل التحضير لانتخابات نيابية تعيد تمثيل مختلف القوى في دولة طائفية… فلا بدّ أن تذهب الامور نحو تسخين استثنائي، نحو تسعير الخلافات الطائفية لمحاولة ترجمتها لاحقًا على شكل أصواتٍ في صناديق.
بالتزامن مع ذلك، ظهرت مجموعة في عكار تحاول أن تعيد الأمور إلى نصابها، إلى نقطة الصفر، إلى العودة إلى البداية بكلام لينين، حيث تنشط هذه المجموعة في شوارع وأحياء عكار الفقيرة، المنسية، التي لا ينشط فيها ولا يذكرها أحد. هي جماعة تنتمي إلى الناس، ويومياتهم، ولا تحصر اهتمامها في انتخابات نيابية ساقطة سلفًا ومعروفة النتائج. مجموعة تعيد العمل والمواجهة السياسية إلى الميدان الأساس، إلى الشارع، للتحريض على كل ما ما تقوم به الدولة نحو عكار، أو بالأحرى ما لا تقوم به، وما لم تقم به يومًأ.
ثورة بالمقلوب، هذا هو الشعار الأصل الذي تنشط هذه الجماعة تحته. هو شعار يضرب، وبشكل جذري ومباشر، كل ما تمثّله مفاهيم المركزية في العمل السياسي، خصوصًا المركزية البيروتية التي لطالما ظلت المشهد المسيطر على كافة المواجهات. لذلك عادت هذه المجموعة إلى تأسيس مختلف ووجهة نظر أخرى، إلى النشاط ضمن واحدة من أفقر البقع الجغرافية على الأراضي اللبنانية، وعلى شواطئ المتوسط، لتردّد: عكار بدا الدولة، الدولة ما بدا عكار.
الدلالة هنا لا تنحصر على مستوى الشعارات، بل في مجموعة غير معروفة المعالم ولا الأشخاص، مجموعة تحمل شعارات تمسّ المواطن العكاري ووعيه مباشرة، وتضرب في قلب الصراع الذي يعيشونه في عكار بشكل يومي ومستمر. دولة غائبة، ليس منذ بداية الانهيار، بل منذ القدم. دولة لا تذكر العكاريّ إلا بضبط للسرعة من هنا، أو بتحرير مخالفة من هناك. علمًا أن عكّار هي خزان الجيش كحرس للدولة، وفيها من الكفاءات والإمكانات ما لا يمكن حصره.
هذا ما تنتفض مجموعة «ثورة بالمقلوب» ضده على وجه التحديد. هذا ما تحاول قوله، لسنا ولا نريد أن نكون خارج الدولة، ولا نريد أن نجير ولاءاتنا لمن يريد أن يتزّعم. بل عكّار هي تلك التي لم يتعدَّ أي مواطن منها، في يوم من الأيام، على سكة التران، ﻷنه يعيش على وعد بأنه سيعود ويربطها بمحيطها وبمختلف القرى والمدن اللبنانية. بل إن الأزمة هي أن القوى المهيمنة، مناطقيًا وطائفيًا، لا تلتفت لعكار إلا في المناسبات الانتخابية، وصولًا إلى أنها بالكاد ذكرتها بفرع للجامعة اللبنانية كانت قد طالبت به، كرشوة للقبول بمطمر للنفايات كانت قد ذكرتها به.
لن ننسى كان أيضًا من شعاراتها، وهي تقوله لتعبّر عن عدم نسيانها ما قامت به الدولة، ليس من تهميش بحقّ عكار فحسب، بل ما قامت به في كل لبنان، وفي مختلف بقاعه، خصوصًا في عكار:
- لن ننسى إذلال الناس في الطوابير على أبواب المصارف، على محطات الوقود، المستشفيات، الصيدليات، وصولًا إلى أفران الخبز.
- لن ننسى تشريع السوق السوداء، والاستفادة منه، ولن ننسى سرقة أموال المودعين.
- لن ننسى الضحايا في طوابير المحطات: 7 في كل لبنان، 3 منهم من عكار.
- لن ننسى انفجار القرن في المرفأ.
- لن ننسى انفجار خزان الوقود في عكار، الانفجار الذي أوصل للعالم كيف تحرق الأوليغارشية وعصاباتها اللبنانيين عمومًا والعكاريين على وجه الخصوص.
كل الأسباب السابقة تعطي المشروعية الاستثنائية لهذه الحركة السرية، اللامركزية. تنظيم الدومينو العنقودي هذا الذي ينتشر ويلاقي صدى بين العكاريين، فيترجمونه في عكار، والآن بدأ يتلمّس طريقه إلى المناطق المجاورة. نشاط بلا هوية إلا مواجهة التفقير والتهميش والحرمان والإذلال، إلا الانتماء للطبقات المسحوقة يترجمه الناس في مناطقهم دون العودة إلى أصل، دون العودة إلى مجموعة مركزية، بل تحمله فتنثره على شكل شعارات منهكة ومتعبة على الحيطان، دون أي إذن مسبق.
مجرّد شباب وشابات من عكار ينشطون ليلًا لإعادة السياسة إلى المربع الأول، إلى التحريض بشعارات شعبية سريعة وخاطفة، يعرف العكاريون جيدًا مدى عمقها وحقيقتها وصدقها. شعارات يرمونها في بحر السكون الشعبي المستمر. يرمونه كـ«ستيكر» على أبواب دور العبادة، على أبواب المدارس، والمهنيات، على أبواب المقابر، على أبواب الناس العادية في الأحياء الصغيرة. إنها حركة ترمي شعاراتها وكلامها البسيط والسهل بين الناس، في احتكاك مباشر معهم، بعيدًا عن الشعارات على لوحات إعلانية ضخمة تنتشر على الأوتوسترادات بشكل مشهدي واستهلاكي لا يلامس تعب الناس وأجسادهم. شعارات يرمونها في وجه مجموعات تغييرية لم يعد في بالها إلا العمل على إنتخابات ستعيد الشرعية إلى قوى النظام بعد أن فقدتها، انتخابات بتحالفاتها الانتهازية ونتائجها المعروفة والمسبقة والمعلّبة.
هي مجموعة في عكار كان تحرّكها الأخير تحت عنوان: هيدا سعر الدولة. كان القصد منه التصويب على أن فلتان الأسعار الجديد، بالإضافة إلى الضرائب، سببه الدولة الآن كما في المستقبل وكما كان في السابق، وليس الانتفاضة كما يحلو للبعض أن يقول ويحاول أن يوحي زورًا. هي تسعيرة الدولة التي تعبّد الطريق أمام السوق السوداء في سعر صرف الدولار مقابل الليرة، أمام تسعيرة أصحاب المولدات الخاصة (الاشتراكات) أيضًا، وكذلك تسعيرة الغاز والدواء وربطة الخبز. إلا أن هذا التصويب على السعر والتسعير يصوّب على القيمة، ليس أي قيمة بالمجرد والمجمل، بل قيمة والسعر الزهيد للدولة ومؤسساتها بالنسبة للعكاريين.
ثورة بالمقلوب تضرب «النظرة النموذجية» للثورة والتمرّد، تقول يسقط النموذج، أو بالأحرى تحمل شعارًا كان قد رشّه أحدهم على جدار «الاسكوا» في أول يوم من أيام انتفاضة 17 تشرين والذي يقول: كسخت النموذج. وهذا التحطيم للمسار المتخيل والمسبق يهيّئ لثورة مقلوبة تعلن أنه لا يوجد نموذج واحد للثورة والتمرد، بل إن الناس هم النموذج، تعبهم هو النموذج، حركتهم هي حتمًا النموذج. أشكال المقاومة اليومية التي يمارسها الناس هي أبرز وأهمّ نموذج يمكن أن يتمّ تقديمه.
يمكن اختصار تجربة «ثورة بالمقلوب» بوضعها تحت عنوان «محاولة جديدة في التنظيم»، ليس التنظيم اللامركزي فحسب، بل التنظيم الأكثر أناركيّةً وسريّةً. هي محاولة تعيد النشاطية إلى مكانها الطبيعي، إلى الشارع، وإلى الحشد للمواجهة المفتوحة مع السلطة، ليس على مستوى الانتخابات، بل على مستوى استقطاب وتشجيع الأحياء والمجتمعات الضيقة على التنظيم قبل موجة المواجهات القادمة. ففي ظل الانهيار، يبقى التنظيم هو الملاذ، وهو المحاولة الوحيدة المنتجة الآن. «ثورة بالمقلوب» محاولة تنظيمية يمكن أن تكون، هي ومحاولات شبيهة لها، أكثر من ضرورية في الأيام المقبلة، خصوصًا عندما يشتدّ الانهيار وتذهب السلطة للحلول الأمنية.