عزلة إسرائيل في وجه إجماع حول وقف إطلاق النار
بعد ستة أشهر على الإبادة، بدأ العالم يستوعب استحالة الاستمرار في إشاحة النظر عمّا يحدث في غزّة.
للمرّة الأولى منذ 7 أكتوبر، نجح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتمرير قرارٍ يقضي بإيقافٍ فوريّ لإطلاق النار في قطاع غزّة خلال شهر رمضان، تمهيداً لوقفٍ دائم ومستدام، والإفراج غير المشروط عن الأسرى الإسرائيليين. كما شدّد القرار 2728 على ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية اللازمة وإزالة الحواجز والعوائق التي تحول دون توزيعها، مشخِّصاً الحالة الإنسانية في القطاع بالكارثة.
لم تستخدم السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد حقّ النقض، علماً أنّ الولايات المتحدة استخدمت الفيتو ثلاث مرّات سابقاً في شباط وكانون الأوّل وتشرين الأوّل لتعرقل التصويت على قرارات وقف إطلاق النار في غزّة.
امتنعت السفيرة عن التصويت، لكنّها سارعت لتبرير موقف الولايات المتحدّة. في تعليقها على التصويت، أفتَت السفيرة بأنَّ قرار مجلس الأمن غير ملزِم لإسرائيل، وأعفت الاحتلال أمام العالم من تنفيذه. كان للبيت الأبيض الموقف ذاته، إذ اعتبر المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي أنَّ في هذا القرار إدانة لحماس، إذ يربط وقف إطلاق النار بالإفراج عن الأسرى. وفي تعليقٍ مشابه، أيّدت الخارجية الأميركية هذا القرار واعتبرت أنَّ لغته تتماشى مع الموقف الأميركي. أصرّ الجانب الأميركي على أنَّ القرار غير ملزِم، كما أنَّ المتحدث باسم الخارجية ماثيو ميلر أكّد أنَّ أي خطوةٍ بشأن الحرب ستأتي عبر المفاوضات وليس عبر الأمم المتحدة.
أمّا إسرائيل، فكان لها رأيٌ معاكس، إذ ألغى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو زيارة وفدٍ إسرائيلي كان من المقرّر انطلاقه إلى واشنطن في اليوم ذاته للبحث في مستجدّات الحرب على غزّة. ادّعى نتنياهو أنَّ عدم استخدام الولايات المتحدة الأميركية لحقّ النقض يعرقل جهود الحرب واسترجاع الأسرى، الأمر الذي نفته الخارجية الأميركية رسمياً، مؤكّدةً أنَّ القرار لم يعرقل المفاوضات مع حماس.
تطلب الأمر أكثر من 30 ألف شهيد وقطاعاً مدمّراً أصبح على حافّة المجاعة الشاملة لكي يصدر مجلس الأمن قراره الذي يدّل، بغضّ النظر عن مفاعيله، على إجماع عالميّ حول مطلب وقف إطلاق النار.
عزلة إسرائيل في وجه إجماع حول «الإبادة»
العالم يرى الآن الثمرة المرّة للسماح لإسرائيل بالإفلات من العقاب.
هذا ما قالته مقرّرة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيزي، خلال تقديمها تقريرها الرابع حول حقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة في 26 آذار. اختارت ألبانيزي عنواناً واضحاً لتقريرها: «تشريح إبادة جماعية». وعرضت الانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال في قطاع غزّة منذ بدء الإبادة، كما أكدت عن «نيّة بيّنة وواضحة» لدى إسرائيل في ارتكاب الإبادة والتطهير العرقي.
وثّقت ألبانيزي 3 معالم للإبادة، كما يعترف بها المجتمع الدولي، وهي: إلحاق الضرر الخطير بالسلامة الجسدية أو العقلية لأفراد جماعة ما، إخضاع هذه الجماعة بشكل متعمّد لظروف معيشية تؤدي إلى تدمير جسديّ كامل أو جزئيّ، وفرض سياسات تهدف إلى منع الولادات داخل الجماعة. قالت المقرّرة الإيطالية أكثر من ذلك: إسرائيل قتلت 30 ألف فلسطيني، بمن فيهم 13 ألف طفل، أي أكثر من إجمالي الأطفال الذين قتلوا في جميع النزاعات المسلّحة في السنوات الأربع الأخيرة… صحافيون، أطباء، ممرّضون، فنّانون، أكاديميون، مهندسون، علماء، وذووهم، مجتمع بأكمله تمّ استهدافه.
جاء الرد الإسرائيلي متوقعًا ومبتذلًا. مشهد مُبتذل، أولاً، في اتهام الاحتلال ألبانيزي بأنها جزء من حملة لتقويض الدولة اليهودية. مشهد تافه، ثانياً، في سؤال صحافي ألماني لألبانيزي نفسها عمّا إذا كانت تملك وثيقة رسمية إسرائيلية تدعو للإبادة. مشهد مبتذل وتافه، ثالثاً، في ما جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، الذي اتّهم ألبانيزي علناً بمعاداة السامية بعد أن وصف عملها بـ«غير المثمر».
لم ينتظر المعترضون على الحرب هذا التقرير لوصف ما يجري بالإبادة. لكنّ أهميته ناتجة عن أنّه دلالة على اتجاه العالم ومؤسساته الدولية نحو الاعتراف الرسمي بالإبادة.
خيارات وهميّة عربيًا
إذا كان العالم يتّجه نحو الاعتراف بالإبادة والمطالبة بوقف إطلاق نار فوري، فإنّ السجالات، عربيًا، تبدو آتية من زمن آخر.
ترتفع بعض الأصوات لكي تصوّر ما يجري وكأنّه صراع بين دعاة السلام ودعاة الحرب، لكي تصوّر الفلسطينيين وكأنّهم مدمنون على القتل والدمّ لخدمة أجندة لا تريد إلّا عرقلة السلام الآتي وشرق أوسطه الجديد. ينكبّ هؤلاء على الترويج لثنائيّة ساذجة، بين الدمّ والدمار من جهة، والاستقرار والازدهار من جهة أخرى.
- يتجاهل هذا الطرح حقيقة تاريخيّة موثّقة، اسمها الانقلاب الإسرائيلي على اتفاق أوسلو رغم كلّ التنازلات التي قدّمها الفلسطينيّون. يتجاهلون أيضاً واقع غزّة وحصارها الطويل قبل 7 أكتوبر..
- يتبنى هذا الطرح رؤية مبتذلة وخطيرة عن الحداثة والتقدّم، ليست إلّا ديستوبيا جديدة قيد التكوين. فالنموذج الخليجي الذي يشيد به هؤلاء كمثالهم الأعلى للتقدم والحداثة والتطوّر التكنولوجي العربي، هو واجهة برّاقة لواقع استغلالي ودمويّ.
- أخيراً، ما يرفض الإعتراف به دعاة الحلّ البراغماتي وإنهاء القضيّة، هو أنه ما زال هناك كثيرون ممّن يرفضون المقايضة المطروحة بين الكرامة والحريّة من جهة، والاستقرار من جهة أخرى. عبّر عن ذلك الملايين عام 2011 في شوارع العواصم العربيّة وكرّروا المشهد عام 2019، رغم الثورات المضادة الدموية التي حاولت ردع الشعوب عن التمرد مجدّداً.
ليست خيارات المقاومة الفلسطينيّة صائبة دائماً. وليس خيار المقاومة، بحدّ ذاته، خياراً بديهياً دائماً. لكنّ طريق الفلسطينيّين ليس مفروشاً بالورود، أيّاً يكن خيارهم. ولعلّ خطورة طروحات طريق الازدهار ليست في عدم دقّتها وصوابيّتها وحسب، بل في محاولتها إظهار أنّ هناك خيارًا متوفّراً، خيارًا قد يوقف الحرب والمأساة الفلسطينية منذ النكبة، وما على الفلسطينيّين إلا أن يحسنوا الاختيار.