الأسامي كلام. شو خص الكلام. عينينا هنّي أسامينا
جوزيف حرب، أغنية لفيروز
لكلّ امرىء من اسمه نصيب
الأعراب
جاء اسمي من حقبة أخرى. تلك التي كلّما سألني أحدهم عن قصّتها، أتبرّم مدركًا في الأصل أنها حكاية من حكايا الحرب. تلك التي ولدتُ على طرفها الأخير. في المسافة الزمنية التي شنّ فيها ميشال عون حربه على الجيش السوري، وقبيل إعلان اتفاق الطائف. أي أنّي ولدت في لحظة جنون مطلق، لا تزال آثاره حاضرة في ذاكرتنا اللبنانية وواقعنا إلى اليوم.
ولأنّ الحكايات جميعها لا تبدأ بلا أصل، فإنّي نسخةٌ لاسم ابن أمير حركة التوحيد الإسلاميّة، صهيب سعيد شعبان. ومَن لا يعرف من هو سعيد شعبان، فهو أوّل أمير إسلاميّ سنّي مقرّب من الخميني. أسّس إمارة التوحيد المسلّحة، وبويِع في مسجد التوبة في آب 1982 على طريقة مبايعة خليفة المسلمين. ومنذ تلك اللحظة، دخلت المدينة نفقاً لم تخرج منه. وما بقي منها كثير وعميق. نتحسّسه كطرابلسيّين في يوميّاتنا.
وكلمة الله القابعة في مدخل طرابلس ليس سوى إرثٍ بصريّ حاضر لتلك الإمارة، وجزء من ترسيخها صوراً نمطية عن أهل المدينة. فشعار طرابلس قلعة المسلمين كان واحداً من التركة الأخيرة لهذه الحركة ومشايخها العامّيين وأسمالها السوداء، وليس قراراً من أهل طرابلس ولا ناسها.
ومَن يعرف سكان طرابلس وتاريخهم في التعايش الأهلي، يدرك أنّ هذا الشعار المسخ ابن لحظة الحرب الأهليّة ولغتها. ثمّ تمدّد. وصار اللغة الخبيئة لسكان المدينة عن أنفسهم. وتحوّل أحياناً إلى حلم بعض صبيانها ممّن تعاركوا مع الفقر والمظلومية. وكان هذا الشعار بعبعاً خلّف وراءه رعباً وهمياً. فلم يعد أهل زغرتا إلى طرابلس، ولا سكان إهدن إلى حارة البحصة، حيث كانت مساكنهم الشتوية. ولم يعد ابن الكورة ينزل إلا لقضاء حاجته ومعاملاته ويسرع للعودة إلى بلداته.
منذ أن أزيل تمثال عبدالحميد كرامي ورُفِعت مكانه كلمة الله، تسرّب الله إلى حياتنا بظلاله كلّها. خسرت المدينة صالاتها السينمائية ومسارحها وباراتها وملامح مرحها. وعاشت كالمدن المغتالة في فائض من الحداد. كأنّ حزناً قديماً أخرجه الله من تلك الأرض. فعاش البؤس شديداً والفقر أشدّ إفراطاً.
تلك الحقبة يعرفها الطرابلسيّون جيّداً. حقبة سوداء أرخت ظلالها حتّى هذه اللحظة على النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وقد مارس بعض أمراء تلك الحركة جرائم إنسانية بحق الشيوعيّين الذين أُعدِموا بلا رحمة في الميناء، وفُرض الحجاب على النساء في بعض أحياء المدينة، كما الخوّات على ما بقي من تجارها. ورثت المدينة وجوهاً وملامح ليست لها من تلك الحقبة. كما ورثتُ أنا وغيري شيئاً منها، ولا تزال هذه الآثار خبيئةً ومُعلنةً تقتات من دم المدينة.
كان هواء ذاك الربيع من عام 1989 ممزوجًا برائحة زهر الليمون، حين كانت طرابلس لا تزال محاطةً ببساتينها التي اغتيلت شيئا فشيئاً وتراكمت فوقها وحوش الإسمنت. ولدتني أمّي في المستشفى الحكومي في القبة، وأعطاني أبي اسمًا من حركته الإسلامية التي عرفها وعرف شيخها وابنه.
ورثتُ اسماً كنت لا أعرف شيئاً عنه سوى أنّه لابن الشيخ سعيد شعبان الذي كانت صوره معلّقةً في بيتنا وخطبه المسجّلة على كاسيتات محفوظةً على رفّ أبي المفضّل، إلى جانب كاسيتات الشيخ عبد الحميد كشك وقراءات الشيخ صلاح الدين كبارة. خليط من تيّارات فكريّة سنّية هي أيضًا انعكاس لمراحل تديُّن أبي وكثيرٍ من مجايليه.
انتهت حركة التوحيد على يد ميليشيات الأسد، ونبتت مكانها جمعيات إسلامية ومدارس وهيئات ومساجد ومصلّيات ومعاهد وهابية وإخوانية وسلفية وحلقات آنسات عملت على تحويل الطرابلسيات إلى محجّبات.
انتهت حركة التوحيد، لكنّ أشباحها أكبر منها. والله الذي تركتْه منصوباً وسط الساحة، ما زال يحفر في باطن المدينة إلى اليوم الذي سيبتلعها.