الـ«DATA» باللغة الانجليزية هي «بيانات» أو «حقائق» أو «معلومات» أو «مستندات».
حين تم اغتيال سمير قصير في 2 حزيران 2005 بعبوة ناسفة تحت سيارته، كنت أبلغ من العمر 12 سنة.
أذكر جيداً كيف تكون الحياة حين تستيقظ لتبحث عن قنبلة في سيارتك قبل الذهاب إلى العمل. كنا أنا وأبي نمشّط السيارة قبل أن يذهب إلى عمله في جريدة «المستقبل» منذ اغتيال رفيق الحريري وصولاً إلى 7 أيار 2008. كان واجبنا الأول في عائلتنا الصغيرة النزول تحت السيارة للتأكد من عدم وجود قنبلة، ثم نتفحص تحت المقاعد ونفتح غطاء المحرك ونتفحصه أيضاً. كانت البارانويا رياضتنا الصباحية أنا وأبي وكروشنا. ما زالت ترعبني حتى اليوم فكرة أنني تأقلمت حينها مع التهديدات والملاحقات وتلك الحياة المليئة بالإنذارات عبر الاتصالات والإيميلات والرسائل النصية والأرقام الخلوية السرّية وغيرها من مكونات الحياة التي عاشها معظم من عارضوا «قتلة العصر» حينها من ميليشيات وأحزاب ومخابرات وغيرها من الأجهزة المحلية والإقليمية.
لكن «تخطّينا» الموضوع.
أصلاً في بيتنا عمّ الصمت منذ أكثر من عشر سنوات. و اليوم يتأكد أبي طوال الوقت أنني لا أكتب خارج «المنطقة الآمنة» الفايسبوكية تحسّباً من أي مكروه قد يصيبني.
أعتقد أنكم ستجدونني مقتولاً في سيارة أبي يوماً ما.
الـ«Nissan Sunny 2001» نفسها التي كنّا نفتشها عام 2005، وهو الشيء الوحيد الذي أورثني إيّاه أبي مع الخوف والقلق والرعب نفسه. وكأن كُتِب علينا من جيل إلى جيل لغة الإغتيال.
لا أعلم إن كنت سأكون ذا أهمية عالية بالنسبة لقتلتي، ولكن بعد موتي، قوموا بعدّ الرصاصات وتفحّصوا مكانها جيداً. لا أطلب منكم سوى البحث عن حقيقة واحدة وهي إن قمت بمقاومة القاتلين. عادةً يقوم الطبيب الشرعي أيضاً بالتأكد إن قامت الضحية بمقاومة القاتل. لا أعرف ما هي الأساليب المتّبعة في تلك الحالات الخاصة بعلم الجريمة، ولكن بعد متابعتي المئات من قضايا القتل حول العالم، كانت دائماً تتكرر جملة «حاول مقاومة القاتل».
لذلك، لا يهمّني شيء سوى أن تعلموا إن كنت سأقوم أنا بمحاولة مقاومة قاتلي قبل الموت.
هواجسي تتمحور حول القلق.
هل سيصدف أن يكون القاتل وأنا قد شربنا الماء نفسه في طفولتنا؟ ولعبنا كرة القدم في الزواريب نفسها ذات يوم؟ ولمّا كبرنا، لعلّي أنا وقاتلي كنّا لنكون «كوبلاً» جميلاً لو تمحورت حياتنا حول الحب أكثر من الحرب؟ هل كنا سنفتح دكاكينَ ومحلات الفاكهة والخضار وسنحاول الدخول بكل ما يبغى الربح السريع؟ هل كنا سنشاهد الأفلام على «الكاسيت» ثم «السي دي» ثم «الدي. في. دي» ثم «اليو. أس. بي»، وهل كنا سنستخدم «البلحة» للحصول على قنوات البورنو على التلفزيون؟ وحين نكبر في العمر، هل كنّا سنتشارك حساب النتفليكس في الحجر الصحّي؟ هل كنّا سنحاول تحويل ليراتنا إلى دولارات بطريقة أو بأخرى؟ أو هل كنا سنكون أشقياء فحسب، نتعلم الحياة من الشوارع، دون أن يعلّمنا أحد قيمة الشارع الحقيقية؟
لكن أنا وقاتلي نعيش بالإيجار اليوم في شقق «نص مفروشة». ومرّ علينا الزمن ولم نتكلم كثيراً، ليتحوّل «هو» بعد عقود إلى قاتلي و«أنا» سأحاول المقاومة أينما واجهته.
لذلك توصّلت لقناعة أنني أنا «المقاوم» وهو«القاتل».
كيف لا أكون مُقاوماً؟ أحاول نشر فكرتي بدون عدّ المعارضين لها. أحاول يومياً أنّ انشر هنا وهناك لأبقى قيدَ الحياة. فهي الفكرة التي تنتج مقالاً يطعمني طعاماً أحياناً وراحة بال و«فشّة خلق» في أوقات أخرى. وهو فيلمي الذي يدفع إيجار بيتي والصورة التي تشحن سيارتي بالوقود.
ولكن لا… ليس بالقلم أو الكاميرا سأحارب كما يصف بعض المثقفين برومانسية حالة «مقاومتنا الثقافية».
إن اضطررت للمحاربة الفعلية، سأتّجه طبعاً إلى السلاح كأيّ حيوانٍ ناطق يشعر بالتهديد من قبل حيوان ناطق آخر مدجّج بالصواريخ والشبّيحة. في داخلي كميّة من الحقد موازية للحقد داخل قاتلي.
لكن ثمة ميزة تفرّق بيننا تمنعني من القتل من جهة، وتجعل منه قاتلاً، من جهة أخرى. فأنا أحاربه بكل ما أمتلك من صوت وهو ينفخ بوجهي بكاتم الصوت… ويفتخر، ويعلّق أوراقاً على منزل «لقمان سليم» يمجّد فيها كاتم الصوت قبل قتله بسنة.
الكاتم نفسه الذي قتل ناجي العلي الفلسطيني في لندن الذي رسم «حنظلة».
قاتلي يُحبّ «حنظلة»، ولكنه لا يعلم من رسمه.
قاتلي يقتل ولا يتكتّم، بل يُغرّد على تويتر ويسأل باستهزاء هل كنتم تعلمون مَن هو لقمان سليم قبل اغتياله؟. قاتلي ينتظرني لكي أسبح عكس تياره ليطلق النار في ظهري غدراً. قاتلي لا يريد رؤية وجهي وأنا أموت.
ابحثوا في «داتا المقاومة» تجدوا كل ما تريدون معرفته. لا وقت للإسقاطات أو للتفكير حتى. ابحثوا، اتصلوا، اسألوا، وثقوا، صوّروا، اعملوا مقابلات، جمّعوا، أرشفوا!
الداتا هي خلاصنا، ولقمان سليم كان أحد ملوك الداتا والأرشفة، وهذا كان سلاحه. فجاء كاتم الصوت وأسكته.
لكنّ الداتا موجودة، الوثائق، المستندات، المعلومات كلها موجودة، لا تحتاج سوى الصبر والتعاون في أرشفتها وكشفها في كل ساعة من النهار. ابحثوا عن تجاربكم مع قتلتكم قبل الموت، فليس لدينا ما نحارب به سوى البقاء في الأرشيف.
مات الكثيرون أيضاً بالطريقة نفسها، وذكرناهم كلهم يوم تمّ اغتيال لقمان سليم. ومنذ ذاك اليوم، تضجّ وسائل الإعلام بمواضيع كالاغتيال السياسي، الانفلات الأمني، الدويلة داخل الدولة، الميليشيات، كمّ الأفواه، الخوف والبارانويا، هل هو حزب الله؟ هل هو الله؟ هل يريد أن يُدفن أو أن يُحرق؟ هل سيُسمح بالدفن؟ هل سيُسمح بالحرق؟
ابحثوا أيضاً في المرفأ. ففي اليوم نفسه، مُنِع الصحافيون والمصوِّرون من الدخول إلى المرفأ مع أهالي الضحايا في ذكرى ستة أشهر على انفجار المرفأ. وفي اليوم نفسه، كان أهالي الضحايا ينظرون إلى عدستي بالوجه نفسه، منذ الرابع من آب 2020.
وجه يقول تبّاً لك وللتصوير وللتحقيق ولمن انتظر التحقيق.