مساء 18 و19 شباط 2023، نظّمت لارا مروّة عرضاً مسرحياً في «زُقاق»، بعنوان «إذا أردت السلام… Si vis Pacem»، عن جدّها الشهيد حسين مروّة، المفكّر اللبناني وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني، الذي اغتيلَ بكاتم الصَّوت في 17 شباط 1987.
المكان: بناية البلاكين المدوّرة
صادفنا جميعنا هذا المبنى.
إن لم يكن أثناء تجوّلنا في الرملة البيضا، فبالتأكيد على مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات النوستالجيا الداعية إلى تشجيع السياحة في البلد، أو في صفوف العمارة حول موجة الحداثة التي اجتاحت تصاميم الستينات. هو مبنى عاديّ للغاية، مع شرفات متشابهة ومتكرّرة، تمكّن المعماريّ من كسر رتابتها بتشييد واجهة من الدوائر المتلاصقة.
تفتتح لارا مروّة عرضها بوصف المبنى وأنسَنته. في طفولتها، كانت تُشبّه المبنى، ببراديه الملوّنة المتحرّكة، بامرأةٍ تُقلّب ألوان تنّورتها. أحمر. أصفر. أزرق. مقلّم بالطول. مقلّم بالعرض. سادة… لكل دائرة ذائقة مختلفة، وخلف الدائرة الثالثة عن اليمين، الصف الرابع من تحت، يجلس آل مروّة. حسين الجدّ، وزوجته. أبو نزار وأمّ نزار.
نصعد بضعة صفوفٍ دائرية نحو الأعلى، الطابق السادس، منزل العائلة الأصغر، ابنة حسين وزوجها، وأولادهما. وعلى رأس الشارع، مبنى الشاطئ الذهبي، الطابق التاسع، شقّة لفرعٍ آخر من العائلة، أهل لارا القيّمة على العرض.
عائلة كبيرة مجموعة في أمتارٍ مربّعة قليلة.
بعد حين، تخبرنا لارا، لاحظَت اختفاء شخصٍ من هذه الدوائر: صرت شوف بس ستّي عالبلكون.
الزمان: قبل أربعين عاماً، لكن أيضاً اليوم
سكن حسين مروّة (أبو نزار) هذه الشقّة منذ العام 1980، حتّى العام 1987. ثم بقيت أمّ نزار تحرسها حتّى وفاتها، عام 1999. فانتقل أحد الورثة إليها، وبقيَ فيها حتّى قرار إخلاء الشقّة عام 2020. مع هذا القرار، جاءت فكرة «العرض»، أثناء توضيب المكتبة ومقتنيات مروّة الخاصة. أثناء نبش طبقات من الغبار لم يمسّها أحد منذ ظهيرة 17 شباط 1987.
في 24 و25 تشرين الأوّل 2020، نظّمت لارا جولةً في الشقّة للأصدقاء، أشبه بعرضٍ مُصغَّر، كوداعٍ لذاكرة طويلة احتضنتها هذه الحيطان. عمّمت العائلة هذه الذاكرة على عددٍ قليل من الحاضرين؛ تعميم الذاكرة الخاصة كوسيلة إضافية لكسر وقاحة الزمن والنسيان.
في نهاية الجولة، كشفت لنا لارا عثورها (مع رانيا وكريم ووليد)، أثناء التوضيب، على الرصاصة.
الـ رصاصة، مع أل التعريف، كانت في غرفة النوم خلف ألواحٍ خشبية تكسو الحائط.
الـ رصاصة، مع أل التعريف، قبل أن تبلغ الحائط وتركن إليه، مرّت، بسرعة وجيزة للغاية، في ذهن حسين مروّة.
الجريمة/ العرض: «استلَقّيه»
قبل هذه الزيارة المُصغّرة، كانت لارا تعدّ رسالتها لنيل الدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسية، منذ عام 2016، بعنوان: «الجسد كوثيقة: تحقيق في حدث من الحرب الأهلية».
من أسئلة عام 2016 الأوّلية، وصولاً إلى عرض «إذا أردتَ السلام…» الشهر الماضي، تروي لارا رحلتها:
بلّشت أعمل أبحاث وشفت مقالات بـ«أُمَم» عن الاغتيال، لقيت قصص من الأرشيف كلن. صرت وسّع شغلي ع باقي الفنّانين اللي اشتغلوا ع الاغتيالات. صرت قرّب أكتر وأكتر، وانا كنت محضّرة نص عن ذكرياتي بالبيت. بعدين إجا دور وثائق وأسئلة العيلة ورحلة الصمت الطويل. بلّشت لاقي نتاتيف أجوبة.
بعد 4 سنين كان باقيلي سنة ت قدّم الرسالة. قرّرنا نخلي الشقة، واكتشفت انه وليد وكريم ورانيا كمان كانوا عم يفكروا بهالقصص هنّي وعم يرتبوا المكتبة ت ينقلوها. فحكينا وجمعنا شغلنا. قبل، ما كنّا نحكي مع بعض عن اغتيال جدو. ما كان ينحكى بالموضوع، وأنا كنت عم بعمل «تحقيق سري». كنت روح وصوّر البناية واسأل الجيران… ف خبّرتن، وحكينا بالموضوع.
وقرّرنا نعمل زيارة الوداع بالشقّة، بـ25 تشرين الأوّل 2020. قبل بنهار من الزيارة، لقينا الرصاصة.
أمّا الرصاصة، فلا تزال العائلة تتعاطى معها على أنّها الشاهد الأقرب على الجريمة، الدليل والدالّ على القاتل. ليست مجرّد رصاصة. نقلتها لارا إلى فرنسا، وأجرت عليها التحليلات اللازمة. أمّا لمعرفة نتائج هذا التحليل، فعلينا أن نشاهد العرض.
تتكثّف خلاصة رسالة لارا وسيرة حياة الشهيد مروة في القسم الأخير من العرض. تُروى شهادات الجريمة، مُزخِّمةً الجوّ بشكلٍ تصاعدي. لا يخفى على أحد «الانزعاج»/ الغضب الذي تملّك الحاضرين أثناء سرد الشهادات، فهي تغوص بالتفاصيل لدرجةِ إعادة خلق المشهد في المخيّلة. من غداء الملفوف المحشي، إلى لعب الأولاد ما بين الطوابق، وقيلولة الجدّ والجدّة، وتفضيل الحفيد (كريم) العودة إلى منزله قبل لحظات من الاغتيال كي لا يزعج جدّه باستخدام الحمّام عنده. ثم تلطّي القتلة خلف الناطور لدخول المنزل؛ أناقتهم وبزّاتهم العسكرية المرتّبة؛ ادّعاؤهم أنّهم من الحزب ويحملون رسالةً بالغة الأهمية إلى الرفيق حسين؛ أمّ نزار المحتاطة التي طلبت منهم ترك بنادقهم على الباب؛ أبو نزار الممدّد في تخته وحركته البطيئة بعمر الـ79؛ القاتل إذ حضن حسين مروّة؛ الوشوشة؛ المسدّس الخفي؛ كاتم الصوت؛ الرصاصة؛ والعبارة الأخيرة: «استلقّيه»، قبل أن يدفع القاتل جسد حسين مروة على زوجته التي وقعت أرضاً، «ومسّحت الدم عن جبينه وغنّت له لينام مطمئنّاً».
وإذ دامت الجريمة لحظات، إلّا أنّ تفاصيلها تنطوي على فترةٍ لا متناهية من الزمن:
- الأولى، من الأزل وحتّى لحظة الاغتيال:
على الدرج، يقول الجيران «الدكتور حسين انصاب». تجمهرت العائلة بعد سماع الضجيج. كانت أمّ نزار تتأمّل وجه حسين، شاردة. أفكّر، بمَ كانت تفكّر؟ ربّما في هذه اللحظات القليلة، قبل الضوضاء، استطاعت أن تستعيد زمناً بكامله: ماضيها منذ أن رأت هذا الوجه في المرّة الأولى، إلى رؤية هذا الوجه مضرّجاً بالأحمر الدافئ. - الثانية، من لحظة الاغتيال وإلى الأبد:
بين الضجيج، طلبت والدة كريم ووليد من ابنَيها دخول غرفة النوم لرؤية جدّهما. كانت تعلم، بطبيعة الحال، أنّ مثل هذه المشاهد «غير مناسبة» للأطفال. لكن حقاً، ما قيمة هذه الـ«غير مناسبة» في زمن الحرب والاغتيالات السياسية؟ رؤية هذا المشهد كان من شأنه أن يفتح لحظة الجريمة إلى الأبد. أن ينقلها إلى جيلٍ كان سوف يكبر، كان سوف يحفظ إرث هذا الجدّ. كان سوف يعيد، عبر هذا العرض، نبش الذاكرة.
الذاكرة كأداةٍ لمواجهة القاتل
تُريد الجريمة نفسها، بتفاصيلها وما تلاها من تعاطٍ معها، أن تكون خاضعة لقوانين الزمن. أن تختفي بعد حين. أن تُنسى. لكنّ المجهود العائلي (الذي كان العرض خلاصته فقط)، كسر هذا القانون، واستطاع، ولو بعد حين، إعادة إحياء المقتول عبر التدليل على القاتل والجريمة.
هيدا العرض مسؤولية تجاه فكر جدّي، حسين مروة، بس كمان مسؤولية تجاه هالذاكرة الممحية. لإعادة فهم شو صار هالنهار وهالفترة. خصوصاً انه منا موثّقة. هيدي قصّة من أحد قصص البيوت اللبنانية كلها.
أسئلة كثيرة تُراود المتفرّج خلال التفكير بهذه القصة، خلال العرض: كيف لم يُعرَف الجاني؟ كيف «لم يُعرف» الجاني؟ كيف سُكت على الموضوع ولِمَ السكوت على الموضوع؟ كيف طويت الجريمة؟ لماذا أُهمل إرث مروّة بعد الجريمة وصار يقتصر على تكريماتٍ حزبية رتيبة؟ ولماذا، لمّا نُكش الإرث، كان بهمّة العائلة فقط؟ بهمّة أفراد يمتّون بصلة قربى لمروّة، فقط لا غير. طبعاً من العبث هنا السؤال عن دور «الدولة» في حفظ هذا الإرث.
ما كان في مبادرة بالموضوع من برا العيلة، يعلّق وليد دكروب، أحد أحفاد مروّة. اليوم مخطوطات حسين مروة وكل الملاحظات اللي بخط إيده صارت مرقمنة ومحفوظة، أخوالي وأمي اشتغلوا عالموضوع بشكل أساسي، مع بعض المساعدة. رح تنحط نسخة منها بالمعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي بأمستردام. أمّا مكتبة حسين مروة وبعض مقتنياته ف رح تصير معروضة بشكل عام قريباً، بقاعة مخصّصة إله، وتكون متاحة للزوّار والباحثين.
طبعاً بدُوَل عادية كان مفروض يجي حدا يهتم بالموضوع، وينعمل نوع من معرض أو متحف لحسين مروة.
يقدّم العرض نموذجاً لمعرضٍ مُحتمل. قاعة تملأُها صوَر العائلة، المخطوطات، دعوات المؤتمرات الحزبية، بطاقة مروّة الشخصية، أداةُ تسجيل عُثر في داخلها على كاسيت يحمل صوته… نتعرّف عبر هذه المقتنيات والصوَر إلى ما هو أبعد من «عضو اللجنة المركزية» أو «المفكّر اللبناني». نتعرّف إلى رجلٍ يرقص، رجل يقدّم زهرة لزوجته… نميّز أيضاً صوَر المشيَخة، حين قصد مروّة النجف ليدرس الفقه الإسلامي.
جولة في هذا المعرض المصغّر، ثم المحطّة الأخيرة من العرض حيث شهادات الاغتيال بالمفرّق، قبل أن تُعرَض شهادة جماعية: يُختَم العرض بجلسةٍ مصوّرة لأفراد العائلة، يبوحون فيها بالخلاصات التي توصّلوا إليها في بحثهم في الوقائع التاريخية السياسية للجريمة.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الجريمة لم تكن حالةً فردية، بل جاءت ضمن سلسلة اغتيالات طالت كوادر الحزب الشيوعي الفكرية والعسكرية في النصف الثاني من الثمانينات، أي مرحلة تصفية الحزب ورميه إلى هامش السياسة. لم يقف العنف عند الاغتيال، بل حتّى أنّ «قوى أمر الواقع» أو «الأيادي الظلامية السوداء» كما اصطلح القول، رفضت دفن مروّة في بيروت. دُفن إذاً في سوريا. وبعد أسابيع، وصلت السُبحة إلى زميل مروّة، القطب الثاني من «منظّري الحزب»، مهدي عامل، وطُويَ اغتياله كما طويَ اغتيال مروّة.
بعيداً عن العرض، وفي سياق أسئلةٍ دوريّة أرميها على مَن واكبوا تلك الفترة، تظلّ تردني إجابات على شاكلة «نحن قتلنالهم متل ما هني قتلولنا». عبثيٌّ بعض الشيء هذا الجواب. فهل تنتهي وتُختزَل مسألة حسين مروة باغتيال شخصٍ من الجهة صاحبة الاغتيال؟
ربّما لا يجيب العرض على هذا السؤال.
لا يخبرنا عمّا كان «التعاطي الأنسب مع الجريمة»، لكنّه، بالمقابل، يخبرنا أنّ ما حصل آنذاك وبقيَ يحصل حتّى اليوم، لم يكن الأنسب. ينتهي العرض. تُقفَل الأضواء. تخفت الموسيقى. وتظهر جملة واحدة على الشاشة: «سَكروا عالموضوع».