كلّ شيء سيعود إلى هدوئه. إلى طبيعته. إلى الروتين. كأنّ الانفجار لم يحصل. بل من دون «كأنّ»: هو لم يحصل. ذاك لأنّه حصل مرّات كثيرة وسيحصل مرّات أكثر بعدُ.
صدِّقوني، مع أنّكم لا تزالون تحت وقع الصدمة غير مُصدِّقين لما حصل، صدِّقوني: هذا الانفجار في منتهى العاديّة. صداه المُتناسل نحو الماضي والمستقبل معاً وفي آنٍ، هو حياتنا جميعنا، حياتنا التي عشناها ونعيشها وسوف نعيشها، نحن وكثر لم يولدوا بعد.
خلال الأسبوع الكابوسيّ المنصرم، لم تتصدَّع نفسونا ولم تكد تتفتّت جرّاء هول الفاجعة فحسب، بل كذلك- وأساساً على ما أعتقد- لأن الفاجعةَ هذه ذكرى ونبوءة في آن. أجل، هذا الانفجار سمع الجميعُ دويَّه منذ سنوات صارت بعيدة، وسمعناه نحن في 4 آب 2020، وقد يسمعه أحفادنا إن لم نَفْنَ قبل ذلك. الانفجار، أو الأحرى التهديد المُستمرّ، العلنّي تارةً والمبطَّن تارةً أخرى، بالانفجار، هو نظام الحكم الأوحد في لبنان.
سأُنَحِّي جانباً ترّهات مِن قبيل ديموقراطية توافقية، أو عشائريّة طوائف: هم يحكموننا عن طريق إجلاسنا على قنبلة قد تنفجر في أيّ لحظة، مع أنها كانت قد انفجرت مرّات ومرّات ولن تكفّ عن الانفجار مرّات ومرّات. نحن أَو الانفجار: هكذا يحكموننا. بكل بساطة. ولو صارحونا ذات يوم، لكانوا قالوا لنا: نريد أن نتسيَّدَ وننهب ونقتل ونتمتَّع ونتقاتل، وإذا أردتم تغيير ذلك، فسوف نُفجِّر البلد بالرغم من أنه سبق له وانفجر وبالكاد بقي منه شيئاً.
جميعنا نعلم ذلك كلّه، ونادراً ما ننساه، لكنّنا لا نحسُّه كلّ يوم رعباً صريحاً متموِّجاً في أبداننا. عقلنا لا يكف عن تذكُّر الحقيقة، لكن أبداننا تنسى. أو تَكْبِت. فلا قدرة لها على تحمّل ما تتحمَّله العقول. وها قد أتى هذا الانفجارُ الأحدثُ ليوقظ ذاكرة الأبدان، فراحت أبداننا تتذكّر، تتذكّر طبيعةَ نظامِ الحكم التي لم تَنْسَها العقول. ليس نظام الحكم في لبنان إلّا هذا الرعب الذي يلتهم أمعاءَنا الآن. ما لا يُعقل في انفجار 4 آب هو أنه عادّي للغاية. كان في أبداننا قبل وقوعه، وسيبقى ماكثاً فيها بعدَ تعافينا: هذا ما أشْعُرُه الآن. وأشعر أيضاً أنّ الأمور ستعود قريباً إلى سابق عهدها، أي أنّ الأبدان ستنسى الحقيقةَ هذه لأنها مُرهِقةٌ موجِعةٌ لا تُحتمل.
عندما وقع انفجار 4 آب، تكثَّف الزمن ثم انفجر. تكثَّف نظامُ الحكم كما لم يحصل له مِن قبل، تكثَّف حتّى أصبح جوهراً بلّوريّاً، ثم انفجر فتطايرت شظاياه إلى المستقبل والماضي. لا حاجة لأن أبيِّن هنا أنّ انفجار نظام الحكم هذا لا يعني موته، فالانفجار والنظام متطابقان. لذلك هو مرنٌ لا يكفّ عن التأقلم. ليس نحن مَن يتأقلم ويتكيَّف. نظام الحكم هو الذي يفعل ذلك. مُستخدِماً إيّانا باروداً لانفجاراته وتفجيراته.
ما رأيناه وجهاً لوجه لحظة الانفجار هو نظام الحكم مُحدِّقاً في أعماق عيوننا، فتذكّرنا توّاً أنه كان مُعشعِشاً في أبداننا. تذكّرنا أنه كان هنا، في جوفنا، هذا الرعب، قبل الانفجار، وأدركنا أنه لن يَتزحزح من موضعه حتّى لو عادت أبداننا إلى نسيانه. وعندما يعود كل شيء إلى هدوئه، إلى طبيعته، إلى الروتين، ستستمرّ القنبلةُ تنفجر وتنفجر، حتّى لو لم تَشعر أبداننا بذلك.