كلّما وجدت نفسي في الشوارع المدمّرة، تطاردني فكرة أنّ بيروت لم تكن يوماً أكثر صدقاً، مدينة منكوبة تعكس مجتمعها المنكوب الذي لم يستعد بعضاً من عافيته إلّا بعد 17 تشرين. قبل الانفجار، كانت بيروت مقنّعة بوهم يُعاش فقط في بعض أحيائها «النابضة» ويتجسّد بحاناتها ومقاهيها ومطاعمها، ببيوت ذات ثلاث قناطر جعل منها الأثرياء مسكناً لهم، بـمحلات «ديزاينرز» مستشرقين، وبغرافيتي لفيروز العزيزة على قلب ماكرون.
ولطالما غذّت رومنسيتنا وأحاسيسنا المفرطة هذا الوهم. فكنّا جميعاً شركاء، ولو بتفاوت، في صناعة قناع المدينة، في المحافظة عليه وتلميعه. هكذا أصبحت بعض الأحياء التي يقصدها مجتمع مغرِق في النكران كافيةً كي تنتصر الأسطورة على الواقع.
بيروت مدينة منكوبة منذ عقود قبل الإنفجار، منكوبة منذ أن خطف الزعماء الدولة أمام أعيننا، منذ أن قبلنا بعقد اجتماعي مع مجرمين مستعدّين لتفجيرنا من أجل الحفاظ على مصالحهم. فلطالما كان يعيش وراء واجهة تلك الشوارع «النابضة» مستأجرون يناضلون من أجل البقاء، «غرباء» تتفاقم معاناتهم اليومية، عمّال يخسرون وظائفهم، مستثمرون يفترسون النسيج العمراني، وأفراد ومجموعات تتلاشى أبسط حقوقهم. ولكن داخل بيروت المتوهَّمة، لم يكن هناك مكان لهذا الواقع. لم يكن هناك مكان للتهميش والعنصرية، للقمع والذلّ، للتلوّث القاتل، لانعدام العدالة الاجتماعية. الواقع الوحيد الذي كانت تعترف به بيروت المتوَهَّمة هو مجموعة من الأساطير التي جرى ترويجها لتعزيز الواجهة التي تعفّنت خلفها حياتنا. هكذا بات قناع المدينة قناعَنا، نستخدمه لنعرّف عن أنفسنا، ونرتديه لنواجه أنفسنا أمام المرآة.
جاءت مجزرة 4 آب لتكمل ما كانت قد بدأته الأزمة الإقتصادية: إسقاط هذا القناع عن بيروت وعنّا. فمع إهماد الأزمة لـ«نبض» المدينة، وإغلاق مؤسسات سياحيّة ارتكز إليها الوهم، تزعزع القناع معنوياً، وأتى 4 آب ليفجّره ماديّاً وبشكل كامل.
بعد تدفّق المتطوّعين لكنس بقايا الزجاج المحطّم، كنسوا معه ذاك الواقع. لم يعد هناك مهرب من مواجهة نَكبتنا التي باتت تتجلّى بوضوح مؤلم أينما نظرنا. واليوم، وسط جهود إعادة الإعمار، لا نسعى فقط إلى إعادة المنازل لأصحابها وترميم تلك القناطر الثلاث، بل نسارع أيضاً إلى استرجاع قناعنا. فهل سنقوم بمحاولات يائسة لترميمه كما تفعل السلطة منذ أن سقط قناعها بعد 17 تشرين؟ أم سنتقبّل قبح واقعنا وننتفض عليه وعلى المجرمين الذين جعلوه كذلك؟