إلى فائق المير، أبو علي، في «غيبته الكبرى»
انقضت عشر سنوات منذ ذلك اليوم الذي خرجت فيه أجساد وأصوات وآمال إلى ما صار مطحنةً لعظامها ومقتلةً بلا قبور لمئات آلاف البشر وابتساماتهم في أرض حكمها الموت والاختناق وبسالة مقاومتهما لعقود طويلة.
انقضت عشر سنوات من عمر مذبحةٍ متواصلة غيّرت عالماً وعلاقاتٍ وأطباعاً وبدّلت صلةً بالوقت والبديهيات، وفعلت فعلها في تظهير وقائع حول أفرادٍ وجماعات ومؤسسات وتيارات سياسية وفكرية، وجعلت كثراً منّا يجهدون لإكمال أيّام «عادية» استهلّتها صباحاً صورُ برميل يسحق طفلاً أو جروح جثّة حفرت فيها سكّين سجّان أو طلقات قنّاص.
انقضت عشر سنوات إذاً، يمكن إيجاز بعض ملامحها وملاحمها بثنائيات بصريّة متدافعة أو متنابذة، على مذهب جان لوك غودار إذ يقيم المقارنة بين المشهد الظاهر والمشهد المحجوب، وكأن الواحد هو «نيغاتيف» الآخر ومكمّله ولو من باب التضاد أو الطرد من مسرح المرئيّ.
ولعلّ في تتبّع رحلة الأجساد السورية بين مشاهد الحياة والموت، أو الموت والحياة، طيلة السنوات العشر المنقضية، ما يوفّر للمقارنة الغودارية هذه أقصى مدلولاتها.
المشهد الأول: الأجساد المتمايلة والمتراصة وغناؤها
قبضات مرفوعة وأصوات ضحكات وأكتاف متقاربة وأجساد تتحرّك بانسياب في حيّ البيّاضة في حمص على وقع غناء جماعي يصدح بنشيد «يلعن روحك يا حافظ»، المتعدّد الألحان التراثية والحديثة، في ما يُشبه الردّ على «أبدية الأسدية» ومزاعم «خلود» مؤسسها المستحضَرة روحُه لتشهد على زمانية الحدث واللعن والهزء والمحاكمة النهائية بعد طول انتظار. وبوحٌ راقص وثاقب في أن الثورة هي في جوهرها ضدّ حافظ، الذي ابتلى سوريا في جملة ما ابتلاها بخلفته «الخسيسة» على ما يُكمل النشيد إياه، بحيث لا يستحقّ بشار حتى أن يُذكر بالإسم في متن الكلام.
المشهد الآخر: الشبيحة والعسكر المحتشدون للانقضاض
أسلحة وسكاكين وقضبان حديدية، على مدخل حيّ البيّاضة، تحملها أيادٍ التَوَت أصابعُها لكثرة ما ضغطت على زناد أو صفعت أو ضربت وجوهاً وحطّمت أسنان أفواهٍ صدحت بلعن روح «الأب القائد» أو ضحكت له. هتافاتٌ لبشار وتوعّد بحريق البلد الرهيب المرافق أو الشارط لسقوط الأسدية الموعود.
المشهد الثاني: وثيقة الوفاة في يد أمّ الفقيد
ورقة إدارية صغيرة كُتب عليها بخط دميم أن فلاناً فارق الحياة بسبب ذبحة قلبية. الورقة في يد أمّ تبحث عن ابنها منذ سنوات. كان في مقهى أو في جامعة أو في تظاهرة أو في شارع أو في غرفة نوم أو في زيارة لقريب، وأوقفته دورية للمخابرات الجوية أو مجموعة شبيحة. دفعت مالاً لضبّاط ومتعهّدين لتقفّي أثره. دفعت لمن ادّعى إيصالَ مأكل وملبس له وسلطةً تقيه فنون التعذيب. قيل لها إنه نُقل الى صيدنايا وإن الإفراج عنه قريب. ثم أتتها الورقة بعد سنوات. الدموع تتدحرج من عينيها المنهكتين الى الوجنتين فالذراعين وتبلّل طرف الورقة. لا تريدها أن تهترئ، ففيها رغم كل شيء من رائحة الفقيد عبق، ذكرى، وجع ختامي أو سلام.
المشهد الآخر: الاقتصاص من الجسد تنكيلاً وسطواً
أوراقٌ يختمها معقّب المعاملات في مكتب السجن. بعثوا له لائحة أسماء. دفعة على الحساب وأسباب موحّدة للتبرير. الأجساد الشاهدة على الضرب والتجويع والحرق وقلع الأظافر انتقاماً من حركتها وقبضاتها التي رُفعت يوماً، لن تُشيّع إلى مثواها. لا طقوسَ جماعية وعزاء وإشهارَ تضامنٍ ونظرات حبّ وتحدّ جديد. لا تكبيرات سترافق تطواف الجثامين نحو المقبرة ولا عهد بالثأر لعذاباتها إذ يلفّها الكفن لتسكن باطن الأرض. مجرّد أوراق وأختام وبريد يُرسل إلى ذوي القتلى، وسجينٌ لم يلقَ حتفه بعد يراقب المشهد ويدفن دمعة في جوف عينه اليسرى.
المشهد الثالث: الباصات الخضراء والترحال الجديد
في مقاعد الباصات الخضراء في مخيم اليرموك نساء ورجال وأطفال يحملون أكياس نايلون صغيرة وضعوا فيها ما تيسّر من خبز وحليب وثياب داخلية وخواتم وعقدٍ ذهبي كان هدية زواج أو بدل حساب مصرفي، ووضعوا معها فرشاة أسنان وصابونةً وحفنة من الشاي الأسود. يلوّحون بأيديهم بصمت تاركين أرضاً وحصاراً وخراباً وطرقات وشواهد قبور قرأوا عليها الفاتحة للمرة الأخيرة تحت سماء رمادية وقوافل طيور سبقتهم في هجراتها السنوية.
المشهد الآخر: التعفيش والتدمير ونهش الذكريات
شاحنات للجيش السوري مليئة بالبرّادات والغسّالات وأجهزة التلفزة تدخل اليرموك، وخشب أسِرّة جرى تفكيكها وبلاط وحنفيّات ومقابض أبواب خُلعت وألبومات صوَر عائلية، وجنود يضحكون ويحتفلون بالتعفيش وبما قد يجنونه من بيع الغنائم في «سوق السُنّة»، بعد أن سمعوا أن رفاق سلاحهم كسبوا أضعاف معاشاتهم إذ فعلوا الشيء نفسه وأفرغوا بقايا بيوت داريّا من ذكريات أهلها وما تركوه من مقتنيات كانت عرق جبينهم على مدى عمرهم وجناه القليل.
المشهد الرابع: طفلة تضحك في حضن والدها
طفلة أقنعها والدها في ريف إدلب أن القصف لعبة، ينبغي لكسبها أن تضحك كلّما دوّى انفجار، وأن تُضاعف الضحك كلّما كان الانفجار قوياً وقريباً. هل ألهمه فيلم «الحياة جميلة» في مخيّم الاعتقال النازي حيث يتحايل الوالد على الوقت والتعذيب والقتل لإقناع ابنه أن ما يجري لعبة وأن الدبابات والمشي العسكري تهريج وأن الاختباء والصبر هما مفتاح الفوز النهائي؟ ليس السؤال بالكثير الأهمية. فالأب السوري كتب فيلمه وزيّنه بضحكات ابنته الجميلة وبتواطئهما البديع مع الحياة وأسرارها.
المشهد الآخر: انفجارات وسقوط جدران
كل انفجار سمعته البنت الجميلة فضحكت لإبعاد رعبه، كان يحطّم بيوتاً متهالكة وألعاباً بلاستيكية متروكة قرب أسرّة صغيرة لبنات وصبيان رحلوا. بات معظمهم في مخيّمات لجوء على الحدود التركية. يغزو وحل الأمطار خيمهم الهشّة، وتغزو غواية البحر وعبوره نحو أرض الخلاص، أرض الميعاد، مخيّلات أهلهم المدّخرين ما تبقّى من نقودٍ لشراء أحزمة نجاةٍ وتسديد بدل التسلّل البرّي ثم المائي لمهرّب يُذكر بالخير لمعرفته بعلوّ السياج الشائك وسرعة الأمواج وسُبل تجنّب الغرق.
... وفي السنة الحادية عشرة
عشر سنوات انقضت على انطلاق الثورة السورية من درعا وعلى تلاوتنا لترنيمة «من حوران هلّت البشاير».
وعشر سنوات انقضت على سقوط حسام عياش ومحمود جوابرة وأيهم الحريري، ثم رائد كراد ورأفت كراد والطفل مؤمن المسالمة ثم الطفلة ابتسام المسالمة، طليعة شهداء الثورة اليتيمة، الثورة المستحيلة، الثورة المغدورة…
وفي السنة الحادية عشرة، كبر غياث مطر الصغير المولود بعد أشهر من مصرع والده، وكبر أطفال وفتيان وفتيات كثر داخل سوريا وفي المنافي، وكبر معهم كفاحٌ لتعقّب القتَلة وتحطيم حصاناتهم والانتصار للمَشاهد المتتابعة التي صنعها الأهل والصحب.
وكبر كذلك جهادٌ وعملٌ لحفظ الذاكرة، فتكون يوماً كتاباً من كتب تاريخ سوريا وسِيَر ناسها الأبرار الذين صارعوا التنين وانتزعوا هواءَهم من صدره.