بدنا دعم على ثكنة الحلو. تصلني رسائل الواتساب متتالية طوال النهار من مجموعات مختلفة. في المساء ألبّي الدعوة. ألتقي بصديقتي على شارع مار الياس ونتّجه سوياً إلى نقطة التجمُّع. الأعداد كبيرة. الجو حامي. المواجهة تحتد. وقفنا أمام مدخل الثكنة. من أمامنا مكافحة الشغب، ومن ورائنا مبانٍ سكنية ومصوِّرون افترشوا شرفة أحد المنازل. عناصر الأمن في حالة تأهّب والثوار يهتفون، مطالبين بإخلاء سبيل المتظاهرين الموقوفين داخل الثكنة، ويرشقون العسكر بالمفرقعات وقناني المياه البلاستيكية. الجميع في حالة ترقّب، في انتظار الهجوم. يا يهجموا يا يفرجوا عنن، تصرخ إحدى المتظاهرات. زهقت، تعبت.
هَجموا، تقول لي صديقتي ممسكةً بيدي. نركض في الاتجاه المعاكس، هرباً من العسكر. نصطدم بالآخرين. نتّجه نحو الحائط، ونرى المشهد في الشارع: عناصر مكافحة الشغب ينهالون بالضرب على المتظاهرين. نرى شاباً في قبضة أحد العناصر وشابة تصرخ في وجه الأخير. اتركه، حاج تضربه! نصرخ معها. نخاف. نبتعد قليلاً. ثم تهجم مجموعة من العناصر لضرب الشاب. فنقترب. نجد أنفسنا على الأرض، وأجد صديقتي ممدّدة فوق الشاب، تحميه بجسدها، وأرى آخرين حولنا يمنعون العسكر من ضربنا. وضعت يدي تحت رأس الشاب. رحت أكلّمه وأطمئنه. صراخ فوق رأسي، ثم ينتهي الهجوم. العنصر اختفى. الشاب استعاد قواه، فنهض ثم سرعان ما اختفى هو أيضاً بين الحشود. نمشي بحذر في اتجاه الثكنة. ثم نعود ونركض إلى الوراء. عناصر المخابرات بيننا، يسحبون بعض الشبان ويسحلونهم الى الثكنة. نعود أدراجنا مجددًا. نذهب إلى الرصيف المقابل. يتراجع العسكر. نشعل سيجارة، ونترقّب انهمار قنابل الغاز علينا.
نركض مجدّداً، هذه المرّة، هروباً من رائحة دخان القنابل. نسلك أحد الشوارع الفرعية ونجد أنفسنا أمام خضرجي الحيّ، يوزّع علينا البصل. نختبئ في مدخل مبنى سكني قديم. نتنشّق البصل، نفرك عيوننا بالبيبسي. صاحب المقهى المجاور يدعونا للدخول. لو كنت عارف هيك كنت جبت كمامة معي اليوم... حبيباتي والله مبسوط فيكن! نعود إلى الشارع الرئيسي. تعود الهتافات. تتجدّد الاشتباكات. فنركض من جديد إلى المبنى نفسه. الغاز يطاردنا، يحاصرنا، يحرق عيوننا. تجرّني صديقتي، وأنا مغمضة العينين، إلى زاوية المدخل الخلفية.
تقترب منّي شابة، تفتح جفنيّ بأصابعها وتقطر في عينيّ. ألمح درجاً فنسلكه. يأخذنا تحت الأرض، الى الطابق السفلي. نجلس على الأرض. لا أشعر بشيء سوى عينيّ المحترقتين. أمامي، أرى باب شقة مفتوح وأسمع صوت رجل يتكلّم على التلفون. يظهر وجهه فجأةً عند الباب: تفضّلوا! فوتوا غسلوا وجهكن! نشرح له أن البيبسي أفضل من المياه لمعالجة عوارض الغاز. لا يقتنع. يردّ علينا صديقه في التلفون، قلّن يغسلوا بميّ. فيصرّ علينا الرجل الستيني ونهمّ نحن بالدخول. نمشي نحو غرفة الجلوس حيث ترحّب بنا امرأتان جالستان أمام التلفزيون، تأكلان البزر وتشاهدان رامز القاضي في تغطية مباشرة على قناة الجديد للمطاردات الأمنية في أزقّة المنطقة. أدخل الحمّام ثم أعود وأنضمّ إلى الجلسة. نتحدّث عن الثورة وعن آخر المستجدّات في ساحة المعركة. نضحك. يقدّمون لنا البصل من غرفة المونة ويؤكّدون لنا أنّهم «عم يطلعوا لفوق كل شوي»، إلى الشارع، لمعرفة آخر التطوّرات. نتذمّر كلّنا من رائحة الغاز الذي وصل إلى الشقة. ثم نشكرهم ونودّعهم. طلّوا، صرتوا تعرفوا البيت هلّق، يقولون ضاحكين.
أتساءل عند صعودنا من الشقّة ثم خروجنا من المبنى، هل حصل ذلك فعلاً؟ أحاول أن أتذكّر وجوههم، لكن لم يبقَ إلا القليل من ملامحهم في مخيّلتي. كلّ ما تبقّى هو صورة سيلفي أخذتها في مرآة حمّامهم الزهري، صوت رامز القاضي من وراء الباب، وإحساس عارم بالأمان مع أولئك الغرباء.