في كلّ مرّةٍ ننجو. أو نعيد اختراع النجاة، كهوية من هوياتنا القومية. تصبح معرفتنا الهامشية لبعضنا بعضاً، كلبنانيين، تستند إلى النجاة. فنسأل بعضنا، بعد فراق: شو بعدك ما متت؟ وفي حين كان هذا السؤال محض تهكّم، في وقت ليس ببعيد، أمسى نوعاً من سؤال يفكّك وجودية الفرد اللبناني، داخل بيئة مهيّئة لشتى أنواع الموت، الجسدي والنفسي والمعنوي.
يأتي هذا السؤال الناجي من أسئلة الطائفة والأصل والعائلة والمنطقة التي يكرّرها اللبنانيون في تجاذبهم أطراف الحديث، ليؤسّس لحكاية التغريبة اللبنانية بين منافيها الداخلية والخارجية والبلاد التي يتحكّم بها الموت وأشباحه في شوارع المدن الفارغة إلا من عسس الأمن والمخابرات. وهم حراس الموت وآلته. ونجاتنا منهم هي واحدة من سِيَر النجاة اللبنانية التي لا بد أن واحدنا عاشها ولو لمرة.
ومن هذا السؤال التأسيسي، تتجدّد بنية العلاقات التي ننتهجها على خطّين متوازيين: موت ونجاة. وكأن فعل الحياة الذي تحبّ أبواق الإعلام التقليدي وبعض فنّاني السلطة ومهرّجيها الإيحاء به، ليس سوى تزييناً للموت القادم أو المخبّأ، أو ذاك الذي ينتظرنا عند أول مفرق، أو ورشة تلحيم، أو تركيب قنينة غاز. نحن الذين لم نعد نملك سوى نجاتنا كي نتباهى بها أمام الأغراب.
هكذا تتحوّل ثيمة النجاة إلى أعمال فنية، يستغلها بعض الفنانين اللبنانيين المعاصرين لمخاطبة التمويل الغربي. فالغرب الأوروبي تحديداً، يتعاطى مع مأساتنا على أنها نجاة، وصارت المؤسسة الثقافية الغربية تتعاطى مع ثيمة النجاة اللبنانية، فنياً، كاتجاه مستقبلي لموارد التمويل والمعارض والمهرجانات. وهذا ما بدأنا نراه في برمجة بعض المتاحف التي ألغت برامج كثيرة وبدأت تحوّل شغلها إلى «النجاة اللبنانية».
إذاً، شو بعدك ما متت؟ هو السؤال اللبناني المعاصر لتاريخ اللبنانيين في هجراتهم ومنافيهم وحروبهم. فمن استعمارات واحتلالات كثيرة إلى حرب أهلية معلنة، ثم حروب أخرى مسكوت عنها بعد الطائف، إلى مسلسل التصفيات وحروب الآخرين على أرضنا. ثم الانفجارات والقتل العمد، والمجموعات الخارجة عن القانون والمرتزقة الجوالون ومعارك الضواحي والمخيمات ومعها فرق القتل الإلهية، مروراً بجرائم الشرف والثأر وجرائم القبائل بين بعضها (آخر مشاهدها في بعلبك). كلها تدعونا الى أن نحيي هذا السؤال من سخريته إلى مقلب آخر، أكثر جدية، وبترجمة تشبه ترجمات أفلام الإنترنت: هل ما زلت على قيد الحياة؟ اللعنة.
وبالفعل، نحن مسكونون باللعنة. لهذا، فإنّ نجاتنا أشبه باستمرار لمسلسل موتنا. فمَن نجا لا يعني أنه انتصر لفعل الحياة. بل ربما يقيم في الموت. موت آخر. يشبه الموت الذي يتتبّع اللبنانيون معاشهم فيه. أشكال حيواتهم الجديدة، المبتورة، الناقصة، لا بل المعلّقة، والمحرومة والمتقشّفة. هذا موت آخر. لهذا نقرأ منذ انفجار بيروت عبارات تماثل مَن بقي على قيد الحياة بالموت. تكرر عبارات: لم ننجُ. وهي محاولة فلسفية مبسطة، لصياغة مفهوم الموت، لبنانياً، على أنه مقاربة محسوسة للتأقلم مع هذا الموت البطيء. المضمر. اليومي. وهو موت متعدّد الأشكال والأصوات والقياسات.
منذ ثلاثة أسابيع، أسمع نتف قصص من نجاة بعض اللبنانيين في باريس، بعضهم لهم امتيازاتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية، وبعضهم استطاع النجاة بجلده ويدفع الثمن غالياً، تاركاً خلفه حساباته المالية المعلّقة وشقّته وثيابه وأتى بمتع قليلة إلى عالم جديد. بعضهم يُعيد اختراع النجاة، في السفر إلى اتجاهات العالم البارد، والبدء من الصفر في حياة لم يعودوا نفسهم فيها، وبعضهم يعود ناجياً من الغرق، كما حصل من أهل المينا وطرابلس، وبعضهم ينجو من هواء بيروت وبعضهم يختنق فيها.
لكلٍّ منّا نجاة، من هذه الحياة الموقوفة. لكنّ كلّاً منّا مات حين حدث الانفجار الكبير، وحين سنسأل: شو بعدك ما متت؟ سنجيب: مبلا، بس عم جرّب عيش مرّة تانية.