عالم «حرب تمّوز»
اشتهرت عبارة «لو كنت أعلم» لأمين عام حزب الله حسن نصرالله بعد حرب تموز كدليل على اعترافه بخطأ أسر الجندييّن الإسرائيليين والحرب المدمّرة التي تلتها. لكنّ هذا الاعتراف بقي يتيمًا، فسرعان ما تمّ تسويق هذه الحرب كـ«نصر إلهي» أسّس لصعود حزب الله داخليًا وكوّن صورته كطرف مقاوم قادر على التصدي لماكينة القتل الإسرائيلية. لكنّ «حرب تموز» كانت أكثر من ميدان ومعارك وتصدٍّ. فالحرب أسّست لمرحلة سياسية في لبنان، بدأت بالتلاشي مع إطلاق «جبهة الإسناد»، قبل أن تنهار مع العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان.
كان لهذه المرحلة ثلاثة مكوّنات تقاطعت حول حزب الله. المكوّن الأول هو نتائج هذه الحرب، من قواعد اشتباك ومعادلة ردع والقرار 1701، والتي ضبطت الجبهة الجنوبية على مدار أكثر من 15 سنة. لكنّ الجبهة الجنوبية كانت بحاجة لسيطرة في الداخل لإتمام نتائجها، ما تحقّق بعد سنتين باجتياح بيروت في 7 أيار 2008. وأخيرًا، كان المكوّن الثالث صعود إيران كلاعب إقليمي، مع خفوت المحور المقابل، ليكتمل عالم «حرب تموز» الذي بقي ساري المفعول حتى الثامن من أكتوبر 2023.
ربّما لم تكن عبارة «لو كنت أعلم» دقيقةً تماماً آنذاك، لكنّها قد تصلح اليوم كملخّص لموقف حزب الله الحالي، بعدما اكتشف انتهاء صلاحية هذا العالم.
الزيارة الأخيرة
من أولى الإشارات إلى انتهاء هذا العالم فشلُ المفاوضات التي أخذت شكل «الزيارة الأخيرة» للمبعوث الأميركي أموس هوكستين. في الشكل، حافظت المفاوضات على لغة «حرب تموز»، من القرار 1701 إلى إرسال الجيش إلى الجنوب، كمدخل لوقف إطلاق نار. لكن في المضمون، بات التفاوض، على الأقل من الجانب الإسرائيلي، في مكان آخر: سيطرة على المجال الجوي، مراقبة المعابر الحدودية، الحق في استهداف حزب الله، منطقة منزوعة السلاح... وهذا، إن تحقّق، يضع لبنان تحت «وصاية» من نوع جديد، وصاية قام عالم «حرب تموز» على رفضها، قبل أن تعيدها «جبهة الإسناد».
لا 7 أيار بعد اليوم
يأتي هذا التحوّل على الجبهة الجنوبية في ظل توترات طائفية تنذر بعنف داخلي، تمركزت حول أزمة النازحين. فحزب الله الذي دخل «حرب تموز» مع انقسام سياسي من ورائه، دخل هذه الحرب مع انهيار اجتماعي، يتحمّل جزءًا كبيرًا من مسؤوليته، في ظل أزمة اقتصادية تجعل إعادة الإعمار، هذه المرة، أقرب إلى استحالة اقتصادية. وبدأ يُترجَم هذا الضعف الاجتماعي بالتوترات بين حزب الله وحلفائه الذين باتوا، واحداً تلو الآخر، يحاولون الابتعاد عن الحزب في لحظة ضعفه، من تصريحات وئام وهاب «النقدية» إلى «التواضع الرئاسي» عند مرشح الحزب وصولًا إلى «اعترافات» جبران باسيل على شاشة «العربية». عزلة حزب الله المتزايدة تعني أنّه ما من إمكانية بعد اليوم لمحاولة سيطرة كالتي فعلها الحزب بعد «حرب تموز»، وإن كان إغراء الحلول العنفية ما زال قائمًا عند البعض من المتحدّثين بإسمه أو أبواقه الإعلاميين.
تلاشي الدور الإيراني
أمّا المكوّن الثالث لتركيبة ما بعد «حرب تموز»، أي إيران ودورها في المنطقة، فبدأ هذا الدور بالتلاشي أيضاً مع تصاعد العدوان الإسرائيلي والردود المتواضعة للمحور عليه. ورغم أن إيران ما زالت تحاول لعب دور «الوصي» على الساحة اللبنانية، واضعة شروطًا حول التفاوض أو عارضة خدماتها كمفاوض بإسم اللبنانيين، بات واضحًا أنّ لا قابلية عند أكثرية الطبقة السياسية لدور كهذا، كما تشير تصريحات رئيس الوزراء وغيره من السياسيين، أو بعض الانتقادات لدور إيران من بيئة حزب الله نفسها. فدور إيران في لبنان بات على المحّك، ما ينذر بطيّ صفحة بدأت منذ أكثر من 15 سنة.
أسئلة العالم الجديد
لم تعاكس الحرب الحالية نتائج «حرب تموز» العسكرية وحسب، بل قضت أيضاً على التسوية التي بُنيت عليها. ورغم أنّ هناك الكثير من المتحمسين إلى استغلال هذه الحرب لإعادة تقوية الطرف الذي خسر جراء تلك التسوية السابقة، بات هناك أسئلة جديدة علينا مواجهتها على مشارف التسوية الجديدة المطروحة على البلاد:
- من الأسئلة التي نحملها من المرحلة السابقة: أيّ أفق لمقاومةٍ بعد اليوم، أو حتى أيّ معارضة للمطالب الإسرائيلية في ظل انكسار معادلة الردع السابقة والانهيار الاجتماعي الحالي؟ الاستمرار بالمنظومة المقاومة ذاتها أقرب اليوم إلى إعلان حالة من انتحار اجتماعي أو تحويل البلاد إلى ساحة حرب دائمة.
- الجواب على هذا السؤال، والذي شكّل الطرف الآخر من الاستقطاب السابق، بات اليوم أقرب إلى سؤال: ماذا تبقّى من معنى كلمة «السيادة» في ظل المحاور والتدخلات، بالإضافة إلى الشروط الإسرائيلية وانهيار بنيان الاقتصاد والدولة؟ الكلام عن «هدنة» أو «سيادة» يبدو اليوم طوباويًّا وأقرب إلى تمنيات ساذجة ممّا هو إلى موقف واقعيّ.
- إلى جانب هذين السؤالين، ينطرح تحدّي شكل الصيغة السياسية، والتي بات عليها التعاطي مع الأزمة الاقتصادية ومسألة حزب الله وإعادة الإعمار. فأي شكل يؤمّن الشرعية المطلوبة للقيام بالخطوات الصعبة الملحّة، من دون الوقوع بخطأ «نظام الطائف»، أي توزيع المكاسب لتأمين الولاء، وهو الأمر الذي بات مستحيلًا أصلًا في ظل الانهيار الاقتصادي؟
- مع انهيار التوازن الداخلي، كيف نتجنّب الانزلاق إلى عنف داخلي، يقضي على ما تبقى من مقتضيات الحياة في هذه البلاد؟ والأمثلة كثيرة في تاريخنا عن انزلاقات تلت لحظات تخلخل هذا التوازن، وتحوّل العنف إلى أداة لتثبيت التوازن الجديد.