تحليل نقابات
بول الأشقر

عارف ياسين، الرجل الذي أتى من تحت

14 تموز 2021

أيام قليلة قبل وصول جاد تابت من فرنسا، اجتمعنا في مكتب الصديق بشار عبد الصمد... أقلّ من عشرة أشخاص، ولا امراة بيننا.

أذكر أنّ عبد الحليم جبر، والابتسامة عريضة على وجهه، قال: بلى، جاد تابت آتٍ بعد يومَيْن. كان يعتبر عبد الحليم، بعد أداء «بيروت مدينتي» المميز في الإنتخابات البلدية (وكان أهم رقم تسجله المعارضة في انتخابات عامة غير مهنية، حوالي 40% من الأصوات ضد لائحة «كلن يعني كلن») أنّ جاد تابت قد يخدم لإعادة التجربة في انتخابات نقابة المهندسين. وذهب إلى باريس لإقناعه. شرح عبد الحليم أنّ تبنّي ترشيح جاد تابت سيكون من ثلاثة مكوّنات: «بقايا» «الخيار المهني» الذي كان قد أنجحَ عاصم سلام قبل 15 سنة ضد لائحة الحريري الأب، والذي تحوّل إلى ماكينة هرمة لا تتحرّك إلّا وقت الإنتخابات، مطعّمة بماكينة «بيروت مدينتي» الديناميكية، خصوصاً مهندساتها ومهندسيها. أما المكوّن الثالث، فكان جاد تابت الشخص.

بعد أيام، وصل جاد وعقدنا اجتماعاً ثانياً في المكان نفسه.

هذه المرّة، كان جاد يترأس الطاولة، ومن وراء نظّارتيه الخشنتين، يتكلّم عن البرنامج وعن ضرورة الإسراع به، وعن أقسامه الثلاثة. تمّ تعييني منسّقاً للبرنامج باعتباري صديقاً لجاد وصحافياً مخضرماً، او هكذا قيل. توزّعت مهمة صياغة البرنامج على الموجودين، أخذ كل ثلاثة أو أربعة جزءاً... على أن يراجع جاد النتيجة. بالرغم من اغترابي عن عالم المهندسين، أو بسبب هذا الاغتراب، لاحظت فوراً أن الجزء الثاني وعنوانه «نقابتي للمهندسة والمهندس مبادرة في تنظيم مهنة الهندسة وأطر مزاولتها» لم يثر اهتمام كثيرين... فقط رجل واحد طويل القامة اقترب منّي وقال لي بصوت خافت: أنا وإياك نكتبه. هكذا تعرّفت على عارف ياسين.

كنت أسكن في شقة في بدارو قريبة من مكتب بشار، وصرنا نتقاسم الإجتماعات بين مكتب بشار ومنزلي. جاد يرتاح في منزلي حيث يعطي مواعيده قبل الاجتماعات العامة وبعدها. في اليوم التالي، أتى عارف مع برنامج الجزء الثاني الذي أُقِرّ دون الكثير من النقاشات. اللافت فيه كان «تفعيل هيئة المندوبين التي تشكل قاعدة الهرم النقابي لتعزيز الأداء الديموقراطي في النقابة». أما في القسمين الأول والثالث، فالنقاشات مستمرة وصاخبة ولا تنتهي. والأوراق تتراكم عندي، وجاد يراجعها، يشطب كلمة ويضيف أخرى. وقتها، ما يسمّى اليوم الديموقراطية القاعدية لم تكن رائجة.

بدأ عارف، وكنّا قد خلّصنا شغلنا قبل الباقين، يخبرني عن شؤون النقابة وأنا أقول له سأبتعد بعد الإنتخابات كوني مش مهندس، وهو ينشد العكس. أتذكر أن «بيروت مدينتي» كانت تريد أن تسمي الحملة «نقابتي» على وزن «مدينتي»… هيك حاف، لإعادة إستعمالها في مناسبات أخرى. وعارف يصرّ أنّ هذا مستحيل، وأنّ العمل النقابي لا يسير على هذا النحو… أخيراً، صار إسمها «نقابتي للمهندسة والمهندس». ووضعنا المهندسة قبل المهندس لئلا يفهم أننا من «حزب شربل نحاس».

أتت انتخابات نقابة المهندسين في نيسان 2017، وكانت أوّل انتخابات مهنية بعد انتخاب ميشال عون. فاعتبر العهد الجديد أنّ موقع النقيب يعود له تحصيل حاصل. وهذا ما لم يحصل.

الساعة الثانية بعد الظهر، قلت لجاد أني ذاهب إلى البيت لكتابة نسختين من خطابه: الأولى إذا خسرنا، وهو الأرجح، والثانية إذا ربحنا، مين بيعرف. وعندما عدت حوالي الساعة الرابعة، قلت له: لا تغلط بين الخطابين، فابتسم جاد ووضع كل ورقة في جيب. الباقي معروف.

يدلّ التحليل الدقيق للنتائج على تقسيم الصويت. جاء أوّل الصناديق، وهي قليلة العدد وتعني شيوخ النقابة الذين زاولوا المهنة مع أنطون تابت، لتعطي الأكثرية لجاد. أمّا «محادل» صناديق المتمرّسين، وهي الاكثر عدداً، فقلبت النتيجة لصالح بول نجم، مرشح «التيار الوطني الحر». مع صناديق المهندسات والمهندسين الشباب، استعدنا المبادرة وفاز جاد تابت بفارق 21 صوتاً، 4079 صوتاً لجاد تابت مقابل 4058 لنجم.

دخل جاد نقيباً للمهندسين محاطاً بـ«14 حرامي»، أقل أو أكثر. أما ما آلت إليه ولايته، فما زالت تنتظر تقييماً دقيقاً يقول حيث أصاب وحيث أخفق، حيث عجز وحيث حمى ما كان ممكناً حمايته، إلخ…


مع ابتعاد الانتخابات، ابتعد الكثيرون ولم يبقَ في «نقابتي» إلا شلّة صغيرة من الصبايا تتقدّمهم عبير وعلي وشاب صغير شعره زنجبيلي إسمه عماد. لاحظت أن واحداً فقط كان يعمل في شؤون النقابة اليومية، وهو عارف: إنها بيته الثاني، يطلّ عليه كل يوم، كما يتفقّد الإبن والدته. في هيئة المندوبين، كان يخبرني، اختلف مع كل النقباء، «أصدقاؤنا قبل أخصامنا» لا يرتاحون له لأنه مشاكس. الصح يمرّ قبل الحلو، هكذا علّمني والدي... الكل يعرفه في النقابة، الموظفون، المهندسون كلهم يعني كلهم، وهو يعرف الكل.

كثر الكلام في الآونة الأخيرة أن عارف ياسين لا يملك «بروفيل» النقيب. هذا ربما صحيح بمعنى أنّ أحسن النقباء، بدءاً بأنطون تابت، مروراً بعاصم سلام وبهاء الدين بساط، وصولاً إلى جاد، لئلا نتكلم عن الباقين، أتوا كلهم من فوق، لثقافتهم او لقربهم من السراي النخبوي دون التقليل من مزاياهم الخاصّة. عارف آتٍ من موقع آخر، من عائلة متوسطة نجحت في تعليم أولادها بالتضحية وبالكدّ. عارف لا يشبه عاصم سلام؟ أكيد لا. و«النقابة تنتفض»، ماذا تشبه؟ وانتفاضة 17 تشرين ماذا تشبه؟

عارف يمثّل هذا الرجل الذي أمضى نصف عمره في هيئة المندوبين، مشاكساً من «تحت». عارف يمثّل عشرات الآلاف من المهندسين والمهندسات من ذوي الدخل المتوسط الذين لم يحسب لهم حساب على مدار الأيام. أياً يكن من سيستلم النقابة في ظروف الانهيار الكبير، يدري عارف - قبل الكل - أنها ليست هدية، ونحن مطوّقون بالإفلاس العام.

ندخل الأسبوع الأخير وقد أتلفت التأجيلات المتتالية أعصابنا جميعاً. دعونا فقط لا ننسى أن المعركة الراهنة هي على النقيب، وأيضاً على استعادة مجلس النقابة. وأنها مستمرة بعد الانتخابات، سواء نجح عارف أم خسر، سواء صرنا أكثرية مجلس النقابة أم أقلية وازنة داخله. المهمّ أنّه بعد 17 تشرين، ولّت تجربة الـ«14 حرامي» مع النقيب إلى غير رجعة.

دعونا نتذكر أيضاً أن الأيام القادمة ستكون قاسية:

«المستقبل» سيقول هذا الموقع يعود لنا. «الثنائي الشيعي» سيقول من هو هذا الشيعي الذي لم نسمِّه نحن؟ «القوات» ستقول: هذا شيوعي.

عند عارف ياسين وزملائه في «النقابة تنتفض»، طائفة النقابي الحقيقي الوحيدة هي مهنته، ودوره الأساسي هو الرفع من شأنها والدفاع عن مصالح المنتسبات والمنتسبين إليها.

هذا الكلام البسيط مسؤوليتنا ترجمته في الصناديق نهار الأحد.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
المصوّرة نان غولدين في برلين: عار عليكِ يا ألمانيا
من النبطية إلى صيدا: لدينا فرعٌ آخر
24-11-2024
تقرير
من النبطية إلى صيدا: لدينا فرعٌ آخر
صواريخ حزب الله تُصيب مصنعاً في الجليل
شهيد من الجيش اللبناني بقصف إسرائيلي على حاجز العامرية