نظرة المفقودون
سمير سكيني

عالمٌ موازٍ يسكنه المفقودون

25 آذار 2023

نُنظّم بدءاً من 17 آذار، على مدى أسبوعَيْن، معرضاً في مبنى جريدة السفير عن تاريخ لجنة المفقودين التي تتمّم اليوم 40 عاماً. معرضٌ بعنوان «خط زمني»، وفيه مسار عمل اللجنة منذ النداء الأوّل حتّى اليوم. خلال الأسبوع الثاني ننظّم ندوة، اختَر أنتَ الزاوية التي تناسبك.

هكذا بدأت القصّة.
التقيتُ بالصديق العزيز بول أشقر، للبحث في هذه «الزاوية». سألته عن صحّته، أجاب أنّه يفضّل أن نبدأ حديثنا عن المعرض والندوة. نُدردش في شؤوننا الخاصة لاحقاً. بول لا يُضيّع وقتاً. كذلك وداد.  وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين.لا يُضيّعان وقتاً. حركة دائمة، حملة هنا حملة هناك، عرائض، بحثٌ في الثغرات، تشبيك…

- … وأنا بصفتي شو بدّي احكي؟
- بصفتك حدا من هالشباب، «الشباب اللبناني».

ومع أنّه قالها بجدّية، إلّا أنّي ضحكتُ تلقائياً: في هذه العلاقة، بيني وبين بول ووداد، لستُ أنا الشاب!

وضحكت.
وبعدَ الضَحكِ عبَسْت: أنا متشائم بهيدا الموضوع. تحديداً في ما يتعلّق بموضوع الشباب والأجيال. فالنضالات قامت حتّى الآن بهمّة الجيل المَعني مباشرةً. أمّا جيلي، فتربطه علاقة قربى بعيدة بالمفقودين. والجيل الأجدد لا علاقة له أبداً (جزءٌ من الأمر سببه البيولوجيا وشجرة العائلة وصُدَف الحرب، لكنّ جزءاً آخر سببه جهود السلطة في التنسية وتشويه التاريخ). ماذا نفعل إذاً، بعد الجيل المرتبط مباشرةً بالمفقودين؟

لا أعلم. إنّي متشائم بعض الشيء. لا يُفترض لهذه الجهود أن تبقى محصورة بيننا. على الأقلّ فلتُنظَّم المدارس زيارات إلى هذا المعرض، لا؟ غسّان (حلواني) يُلخّص الهمّ الذي أتكلّم عنه بعبارةٍ أنيقة: «كيف ننتقل من الإرث البيولوجي إلى الإرث السياسي» أي، ألّا نتعاطى مع هذه القضية كمسألة محصورة بالمعنيّين بيولوجيّاً بالمفقودين، بل النظر إليها كمسألة سياسية تعني كافّة المجتمع. حقّ المعرفة كحقّ يطال كل المجتمع، بل كواجب على المجتمع أيضاً. على الأقلّ لأنَّ المجتمع كلّه لمّا يمشي في بيروت، والمناطق، فإنّه يمشي على رميم العظام. على مقبرةٍ جماعية لا نهاية لها، تُشبه، إلى حدٍّ ما، المقبرة الجماعية لأحياء اليوم، نحن.

وقلت،
هذا شؤمٌ بالفعل. 
ثم قلت لا،
لستُ أنا المتشائم، الواقع هو التعيس.
ولو وددتُ الاحتيال على شؤمي، فعلَيّ أن أتحرّر من الواقع.

تزامَنَت هذه الجلسة مع بحثٍ اطَّلعتُ خلاله على أرقامٍ كثيرة. أعرف، غالباً ما نقول أنّهم «ليسوا أرقاماً». هم أشخاص. لكلّ شخصٍ قصّة. سِمات/ شكل/ صوت/ رائحة/ طَبع/ انطباعنا عن الطبع. أعلم. لكن ماذا لو تَمَعَّنَّا فقط بالأرقام؟ أقصد أوف… الأرقام كبيرة!

وحَسَبت،
لدينا مثلاً آلاف المفقودين، في بلدٍ تعداده 4 مليون (؟) نسمة. تقول أرقام الأمن اللبناني: 17 ألف مفقود؛ وتقول لجنة أهالي المفقودين أنّها سجّلت قُرابة 3 آلاف استمارة. فلنقل 10 آلاف مفقود كمعدّلٍ وسطي بين التقديرَين؟ وذلك في بلدٍ مساحته 10,542 كلم2.

وتذكّرت.
تذكّرتُ دروس الجغرافيا. وتذكّرتُ الأستاذ إدغار تحديداً، الطويل جداً، الذي علّمنا حسبة الكثافة السكّانية. علّمونا في المدرسة الكثافة السكّانية، وتساءلت، لِمَ لَم يُعَلِّمونا السالبَ من هذه الحسبة؟ عكسها. نقيض كثافةِ السكّان. لِنُسَمِّها اصطلاحاً «كثافة الفقدان». بتزبط؟ وإذ طبّقنا هذه الحسبة، فإنّ في لبنان 1 مفقود/ كلم2!

وتساءَلت،
ماذا يعني هذا الرقم؟ قلتُ لعلّ المُقارنة تنفع، وقصدتُ غوغل. وتبيّن أنّ بلد الكثافة السكانية الأدنى في العالم هو غرينلاند: 0.14/ كلم2. في أستراليا مثلاً 3.35/ كلم2… أمّا الـ«1/ كلم2»، فيبدو رقماً «منطقياً» بالمقارنة. كثافة الفقدان عندنا تُنافس كثافة السكّان في بلدانٍ أخرى. هذا في خانة البلدان. أمّا في البلدات والمقاطعات، نجد أرقاماً أدنى بكثير.

ولاحظت،
أنّ كثافة السكّان/ الفقدان من سِمات الجغرافيا. إذاً يُشكّل مفقودونا نوعاً من الجغرافيا المأهولة. «جغرافيا الفقدان» مثلاً. وأنّهم، كما يُردّد بول ووداد، «طائفة الطوائف»، أي أنّهم يشكّلون فريقاً عابراً للطوائف.
وبالتالي، فهم ينتجون جغرافيا عابرة للطوائف، جغرافيا لا- طائفية، بعكس الجغرافيا الطائفية التي أنتجتها أحزاب السلطة. بعكس جغرافيا الحرب التي غَرَّبَتهم.

وفكّرت،
هذه جغرافيا. هذا مكان. والمُفترض أن يأتي بصحبته زمن. تاريخ. ودورةٌ تتطوّر بموجبها الحَيواتُ هناك. فلكٌ متكامل لا نعلم عنه إلّا انطباعاتنا الأخيرة عن المفقود، قبل الفقد. وفكّرتُ أنّ المكان والزمان يصنعان عالَماً، بشكلٍ من الأشكال. «عالمٌ موازٍ يسكنه المفقودون».

وتحَزَّرت:
كيف يسير الزمن هناك؟ ماذا عن خطّهم الزمني؟ ماذا فعلوا آخر 40 سنة؟ كيف استكملوا الحرب؟ هل استكملوا الحرب أصلاً؟ ما داعي الحرب هناك؟ لا داعي. ما جدوى الحرب هناك؟ لا جدوى. إعادة الإعمار؟ عملوا إعادة إعمار؟ عملوها متل ما عملناها هون؟ هدَّموا بيروت؟ عَمَّروا فوق المقابر؟ في عجقة؟ جايي الكهربا؟ انقطع الخبز؟ انهارت الليرة هونيك؟ أو بعدها عالـ1,500؟ حتّى قبل الـ1,500. ما بعرف. طب عندن مرفأ؟ عندن عنبر جوّا المرفأ؟

وبدأتُ أتشاءَم قليلاً.
ترَيّثتُ بالقصّة وتساءلتُ من جديد، ماذا فعلوا آخر 40 سنة؟ ماذا عن خطّهم الزمني؟ هل نظّموا انتخابات؟ هل يحتكمون للطوائف؟ هل عندهم مثلاً زعيم للمفقودين؟ لا أعتقد، بل أعتقد أنّهم يديرون شؤونهم بأشكالٍ أسلس منّا. لا يعرفون العناتر في عالمهم. فكلّ عنتر فُقِد آنذاك، كان له ما يكفي من الصِلات للإفراج عنه. لا أعتقد أنّ صفة المفقود تتماشى وصفة الزعيم أو المسؤول. أمّا من لم تُسعفه الصِّلات، فهو «العادي». في أشنع الأحوال هو «المقاتل العادي» على المتراس. وفي أبسطها، هو والدٌ عادي أو زوجٌ عادي أو زوجة. أو طفلٌ ربّما… هل عرَّجَت نايفة نجّار على عالمهم الموازي لمّا تركت عالمنا؟

وعدتُ أتشاءَم قليلاً.
تريّثتُ من جديد وعدتُ أتساءَل، ماذا فعلوا آخر 40 سنة؟ هل قصد أحدهم، مثلاً، ساحة مجلس النواب في 17 تشرين الثاني 1982 بعد أن وجّه من الإذاعة النداء الأوّل لجميع المفقودين؟ هل شكّلوا بعد ذلك لجنةً؟ لجنة للبحث عن الموجودين؟ هل انبثقت هيئة عن هذه اللجنة؟ هل ينظّمون الآن ندوةً للنقاش في شؤوننا؟ شؤون الموجودين؟ ندوة بعنوان «عن الوجود كحقّ طبيعي» مثلاً. أو: «الموجودون، وينن؟». «40 عاماً وقضية الموجودين تُرفَض أن توجَد». هل كتبوا عن موقع قضية الموجودين في وجدان الناس؟ هل يتلو أحدهم قصّة؟ هذه القصّة؟

والحقُّ أنَّ تشاؤمي هَمَدْ، إذ فكّرت:
لا داعي للّجان هناك. لا داعي للمطالبة. فمَن المعني بالمطالبات، في عالمهم الموازي؟ نبيه برّي هنا، وليس هناك ليعرقل جهودهم في البحث والتحرّي. ورفيق الحريري هنا (أو كان) وليس هناك (في الحالتين) ليسأل: «قضية الموجودين قديش حقها؟». والمفتي (أو البطرك) هنا، وليس هناك ليطلب منهم «تَوفية» أقربائهم. ومسائيل الأمن هنا، وليسوا هناك ليعلنوا إقفال ملفّ الموجودين، ثم ليعلنوا أنّهم بصدد تشييد نصبٍ يخلّد وجود الموجودين. وليس عندهم أمينٌ عام يخطب كل عام في ذكرى الموجود، وليس عندهم أحد. كل العرصات هنا! عالمهم الموازي «نظيف». فالمرء لا يمكنه، منطقياً، أن يتواجد، في اللحظة ذاتها، في مكانَين مختلفَين.

والحقُّ أنّي الآن فقط تفاءَلتُ قليلاً، إذ استنتجت:
أنّهم هم، «العاديون» جداً، إن وُجِدواً سويّاً في عالمهم الموازي، لاستطاعوا إدارته بعفوية. بعدل. على الأقل، وكيفما كان، هي صيغة أشدّ عدالة من صيغةِ إدارة عالمنا. واعتقدتُ أنّني الآن أختم القصّة ببالٍ هادئ، بعدما وجدتُ جوابي على سؤال العدالة اللعين، ولو في عالمٍ لا أعرف عنه الكثير.

وابتسمت.
ابتسمتُ لأنّ هؤلاء، في عالمهم الموازي، ينعمون اليوم بشيءٍ من العدالة التي حُرِموا منها هنا، في عالمنا القبيح. ونسيتُ شؤمي.

وقلت لا،
هذا لم يكن شؤماً، بل مجرّد واقع تعيس،
وإنَّ اللجنة ما كانت لتصمد أربعين سنة لولا شيء من التفاؤل.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إصابة عناصر في اليونيفيل باستهداف سيّارة في صيدا
الكنيست الإسرائيلي يقرّ ترحيل عائلات منفّذي العمليّات لمدّة 20 عاماً
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا