تُعدّ حالة اللجوء الفلسطينية الأطول بين حالات اللجوء في العالم منذ تطوّر النظام الدولي للاجئين في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وتُعنى ثلاث هيئات دولية بحماية اللاجئين الفلسطينيين، وهم كالتالي: لجنة التوفيق التابعة للأمم المتّحدة الخاصّة بفلسطين (UNCCP) والمفوّضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) والأونروا، أي وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA).
تاريخ الأونروا بقدم تاريخ النكبة. فتلك الهيئة أُنشئت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتّحدة رقم 302 في عام 1949 لتقوم بالتعاون مع الحكومات المحلية بالإغاثة المباشرة وبرامج التشغيل بحسب توصيات بعثة جوردون كلاب. وتلعب الأونروا دورًا هائلًا في تأمين قدر من الحياة وتخفيف التراجيديا الفلسطينية. فوفقًا للأرقام المُعلنة على موقع الوكالة التابعة للأمم المتحدة والمُسجّل بها 6 مليون لاجئ فلسطيني، ينتظم 543 ألف طالب في مدارس الأونروا، وما يقارب مليونَي شخص يستفيدون من خدماتها الصحية، وبالإضافة إلى ذلك، تنخرط الوكالة في العديد من المشاريع الأخرى، كالإقراض ومشاريع البنية التحتية وبرامج أخرى تتعلّق بشبكات الأمان الاجتماعي والمرأة والإغاثة.
أمّنت الأونروا حماية إغاثية للاجئين الفلسطينيين على مدار العقود، وبالتالي مقوّمات صمودهم. لذلك كانت الوكالة هدفًا دائمًا للسياسة الإسرائيلية من أجل إضعافها أو الإجهاز عليها.
محاولات مبكرة
لقد جرت محاولات ناعمة عام 2000 لتقويض عمل الأونروا، كما يذكر الباحث سهيل الناطور في كتاب «قراءات في المشروع الوطني الفلسطيني» حين حاول الرئيس كلينتون أن يقوّض ظروف عمل المؤسّسة من خلال طرح مفهوم جديد لحق العودة يعيد تعريف دورها كالتالي: لمّ شمل بعض العائلات/ عودة قسم من اللاجئين إلى الضفة والقطاع/ الانتقال إلى التوطين في بلد ثالث من أي بلد يرفض توطين اللاجئين المقيمين فيه/ إقامة صندوق تعويضات مالي عن الأملاك والمعاناة لأجيال من الفلسطينيين. وبذلك يتحوّل دور الأونروا من تقديم الخدمات كمسؤولية دولية عن النكبة إلى صندوق تعويضات يُلغى بعد دفعها.
بدأت حملات الكونغرس الأميركي لاستهداف الأونروا في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 حيث قدّم أحد الأعضاء الجمهوريين مشروع قانون عام 2002 يحظر استخدام الأموال الفيدرالية المخصّصة للسنة المالية 2003 لدعم السلطة الفلسطينية في انتظار وقف الأنشطة الإرهابية التي تقوم بها (والمقصود هنا اتّهام السلطة الفلسطينية في إشعال انتفاضة الأقصى). ونصّ مشروع القانون على أن الحظر المفروض يشمل الأموال المُقدّمة إلى الأونروا.
لم يُمرّر القانون، ولكن على مرّ السنوات التالية، لم تنقطع محاولات الاستهداف والتي وصلت إلى حد اتّهام الوكالة بأنها عقبة أمام السلام وبأنها تعمل على إدامة الصراع العربي الإسرائيلي وتطبّق معايير مزدوجة عندما لا تعيد توطين اللاجئين الفلسطينيين وتُورث مفهوم اللجوء، وبأنّ مجرد تخصيص منظّمة من منظّمات الأمم المتحدة كي تُعنى بالفلسطينيين من دون غيرهم من لاجئي العالم يُعدّ انحيازًا ممنهجًا من نظام الأمم المتّحدة ضد إسرائيل.
الأونروا في مشاريع فريق ترامب
كان صعود دونالد ترامب للسلطة عام 2016، بمثابة مصباح الجنّي الذي ما كان على المساعي الصهيونية سوى أن تفركه لتتحقّق الأماني. في السنة الثانية من ولايته، قرّر ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس في 2017، وهو القرار الذي كان مرميًا في أدراج مكاتب رؤساء البيت الأبيض منذ عام 1995 في عهد كلينتون. وقد ناهضت الجمعية العامّة للأمم المتّحدة القرار حيث اعتبرت الجهود الرامية لتغيير وضع القدس باطلة ولاغية.
كان إغلاق الأونروا على جدول أعمال العديد من مستشاري ترامب بالفعل، علّقت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي على قرار مناهضة نقل عاصمة الولايات المتحدة إلى القدس بأن إدارة الرئيس ترامب لا تنوي الاستمرار في دعم الأونروا حتّى يوافق الفلسطينيون على العودة إلى طاولة المفاوضات. وظلّت هايلي تخوض معركتها الخاصّة في وجه المؤسّسات الأميركية للإقناع بقرار وقف دعم الأونروا. أمّا في الأمم المتّحدة، فقالت هايلي في خطاب في العام 2018، وبإشارةٍ إلى منظّمة التعاون الإسلامي، لا توجد مجموعة من الدول أكثر سخاءًا، بالكلام فقط، سوى جيران الفلسطينيين، ولكن كل الكلام الذي سيقال هنا في نيويورك، لن يلبس طفلًا واحدًا أو يطعمه. وتفخر هايلي في النهاية بأنّها سحبت دعم دافعي الضرائب الأميركيين من الأونروا، وعوّضته بأموال العرب.
استمرّت هايلي بدورها في أعقاب عملية «طوفان الأقصى»، حيث قادت حملة شرسة ضد الرئيس جو بايدن بسبب إعادته تمويل الأونروا، واتّهمت الأونروا بكونها واحدة من الروافد الهامّة التي تمدّ حماس بالإرهابيين، حيث أن مناهجها التعليمية قادرة على تفريخ الإرهابيين باستمرار لما تحتويه من معاداة للسامية وكراهية لإسرائيل واليهود.
وكذلك صهر الرئيس جاريد كوشنر، المُوكل بمسألة الشرق الأوسط، كان يريد إنهاء عمل الأونروا. وقد أظهرت مراسلات له في كانون الثاني من عام 2018 سعيه الحثيث للقضاء على الأونروا، حيث جاء في إحدى رسائله إلى جيسون غرينبلات، مستشار الرئيس ومساعد كوشنر في الشرق الأوسط، من المهم أن نبذل جهدًا مخلصًا وصادقًا لإنهاء وجود الأونروا، فهذه الوكالة التي تُديم حالة الوضع الراهن فاسدة وغير كفوءة، ولا تساعد على تحقيق السلام.
حصار ترامب، ومحنة الأونروا
في الثالث من كانون الثاني 2018، غرّد ترامب على تويتر: سنويًا ندفع للفلسطينيين مئات الملايين من الدولارات، ولا نحصل منهم في المقابل على أي تقدير أو احترام. إنهم لا يريدون مباحثات السلام، فلماذا يتوجّب علينا أن ندفع لهم كل هذه المبالغ الطائلة في المستقبل.
في أعقاب ذلك، خفضت إدارة ترامب بالفعل تمويل الأونروا في مطلع عام 2018. فبعد أن كانت الولايات المتّحدة الممُوّل الأضخم من بين 100 جهة مانحة في عام 2016، بمبلغ وصل إلى 369 مليون دولار من إجمالي ميزانية 1.25 مليار دولار، خفّض ترامب التمويل ليصل إلى 60 مليون دولار. وبعد شهور من المواجهات الساخنة بين نيكي هايلي وجاريد كوشنر ضدّ وزارة الخارجية والبنتاغون ووكالات الاستخبارات التي خشيت من عواقب القرار على استقرار المنطقة في الشرق الأوسط، قرّرت إدارة ترامب في 31 آب 2018 وقف التمويل نهائيًا، مسحوبًا بقرار آخر بحجب 200 مليون دولار من المساعدات الإغاثية والطبّية والتنموية، كان من المقرّر أن تُصرَف في الضفّة الغربية وقطاع غزة.
استند موقف إدارة ترامب ضدّ الأونروا على عدد من الأسباب كما ذكر تقرير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بواشنطن. أوّل سبب الادّعاء بأن الأونروا تتعمّد إدامة الوضع الكارثي للفلسطينيين الذي يعيق عملية السلام. أمّا الثاني، فيتّفق مع تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو حين ادّعى أنّ الأونروا تُزَيّف عدد اللاجئين حيث لا يمكن إعتبار أحفاد اللاجئين لاجئين، وأنّ ذلك يُعرقل عملية السلام، ويجعل من الأونروا جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل.
كانت الأونروا قد غيّرت بالفعل قانون شروط الأهلية لصفة اللاجئ عامَي 1965 و 1982 لمنح حق اللجوء لأحفاد الفلسطينيين. وهو كما يذكر سهيل الناطور، يتعارض مع تعريف الكونغرس الأميركي للاجئ الفلسطيني، بأنّه اللاجئ الذي غادر فلسطين في حرب 1948، ولا تشمل هذه الصفة أحفادهم أو أولادهم، وهو ما يعني أن عدد اللاجئين ليس كما تذكره سجلات الأونروا، بل فقط 60 ألف نسمة. وبالتالي يمكن ترتيب حلول التوطين والتعويض لهم وإسقاط حق العودة عن بقية اللاجئين وإلغاء القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتّحدة.
كان هدف إدارة ترامب من الضغط على الأونروا أن تفرض أمرًا واقعًا جديدًا للضغط في مسار السلام الذي تتصوّره، وإعادة تعريف معنى اللجوء. فكما يذكر جابر سليمان في كتاب «قراءات في المشروع الوطني الفلسطيني»، خلال زيارة للأردن في حزيران 2018، مارس جاريد كوشنر ضغوطًا من أجل دفع الأردن إلى تجريد مليوني لاجئ مسجّلين لدى الأونروا من وضعهم القانوني كلاجئين، كي لا يعود هناك حاجة في الأردن إلى وجود الأونروا، وكي تسعى الأردن في مسعى توطين اللاجئين في الدول المضيفة لهم.
وقد تمّ تأكيد ذلك المسعى في خطاب لمستشار الرئيس ترامب ومساعد كوشنر في الشرق الأوسط، جيسون جرينبلات في خطاب أمام مجلس الأمن في أيار 2019، حيث دعا إلى توطين اللاجئين في الدول المضيفة قائلًا نحتاج إلى التواصل مع الحكومات المضيفة لبدء المحادثات بشأن التخطيط لنقل خدمات الأونروا إلى الحكومات المضيفة، أو إلى منظمات غير حكومية دولية أو محلية أخرى بحسب الاقتضاء، وقد حاولنا أن نبدأ هذه المحادثات قبل قطع مساعداتنا، لكن لم يُرد أحد حينها الدخول في تلك المحادثات.
الساعات الحالكة والولاية الثانية
رغم كل المصاعب استطاعت الأونروا الصمود ثلاث سنوات أخرى حتى عام 2021، حيث استأنفت إدارة الرئيس جو بايدن تمويل الوكالة، وأفرجت عن 150 مليون دولار لتبدأ منها في إعادة تمويلها إلى الوكالة الذي لم يطل كثيرًا. ففي أعقاب طوفان الأقصى، تسارعت الأحداث لتجعل من ظروف عمل الأونروا كارثية من جديد. فمن جهة أعلنت إسرائيل في تشرين الثاني 2024 أنّها في حُلّ من التزامها باتفاقية التعاون التي وقّعتها عام 1967، والتي تشكّل الإطار القانوني لأساس عمل الوكالة وعلاقاتها مع الكيان المحتل. وقد جاء هذا القرار في أعقاب سلسلة من الاتّهامات لاحقت بها إسرائيل موظّفي الوكالة الذين اتّهمت العشرات منهم بالعمل والتواطؤ مع حركة حماس في هجومها يوم السابع من أكتوبر.
لقد تسبّبت الاتّهامات الإسرائيلية على مدار عام كامل بإعاقة عمل الأونروا، حيث قطع 16 من الدول المانحة مساعدات بقيمة 440 مليون دولار، وفي شهر آذار 2024، كان الرئيس الأميركي جو بايدن، قد صدّق على قرار بوقف تمويل وكالة «الأونروا» لمدّة عامٍ واحد، وبدلًا من ذلك خصّص 175 مليون دولار للجهود الإنسانية في غزة والضفة الغربية.
في السادس من تشرين الثاني 2024، أُعلن دونالد ترامب فائزًا بالانتخابات الرئاسية الأميركية. وللمفارقة التاريخية في نفس اليوم، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال فيليب لازاريني رئيس الأونروا، أن الوكالة تعيش أحلك ساعاتها. إن ذلك التصريح الذي كان يُعبّر عن واقع صعب تعيشه الوكالة يحمل في مفارقته نبوءة تشاؤمية بشأن ما يمكن أن يفعله دونالد ترامب في ولايته الثانية بالأونروا، في الوقت الذي يتّخذ فيه صديقه نتنياهو قرارات أعاقت عمل الوكالة الطبيعي، بالإضافة إلى اعتزامه أن يقوم بإغلاق الوكالة بشكل كامل، كما صرّح في العديد من المرات في أعقاب طوفان الأقصى.