صورة الراعي المهترئة
بين مقبرة «الدحداح» الأشهر في العاصمة دمشق، وسوق (الخجا) الأثري المخصص اليوم لبيع حقائب السفر، كانت توجد واحدة من أكبر صور رأس النظام السوري بشار الأسد، وسط بناء حكومي مكون من عشرة طوابق تقريباً، ينظر فيها نحو الشرق، وتحتها جملة واحدة دون أي رمز: «راعي الوطن».
يعتبر مصطلح «الراعي» من المصطلحات الأساسية لدى النظام السوري، منذ الأسد الأب، راعي مصالح الوطن والمواطن، راعي الثقافة والفنون، راعي الرياضة والرياضيين، ليكمل التعبير جملة الرموز والصور التي يحرص النظام السوري للظهور فيها بعد «المناضل»، «الحامي»، «الحكيم»، «القائد»...
ومهما بدت المفارقة اليوم أقرب لنكتة قديمة مكررة عشرات المرات، كون صورة «الزعيم» بين أكثر احتمالات السوريين قسوة، بين الموت والهجرة، إلا أن «الزعيم» منذ انحسار العمليات العسكرية، والتطبيع العربي، وما يوازيهما من واقع معيشي واقتصادي صعب يعيشه السوريين، ما زال يصر على تقديم العروض وتصديقها، مجبراً السوريات والسوريين أولاً على تطويع مواهبهم لخدمة الدعاية الرسمية، والحضور ثانياً في كنفه كراعٍ ووصيّ لما يتم تصديره من نجاحات.
المطاوعة كفعل دعائي
لم يكن مشهد لقاء بشار الأسد مع نجوم الدراما السورية، من ممثلين ومخرجين خارج هذا الإطار، خاصة قبل انطلاق الموسم الرمضاني بأيام. يبدأ الفيديو بتصدر بشار الأسد القاعة ومن حوله الفنانون وهو يتحدث إليهم بثقة، بينما موسيقى ملحمية تحجب الحوار. الفنانون يظهرون ويختفون بلقطات متقطعة، وهم يهزون رؤوسهم بموافقة غامضة مكررة لا ندرك تفاصيلها، وتعابير أجسادهم أقرب للخضوع، وكأنهم يؤدون ما هو مطلوب منهم من متطلبات مظاهر التمجيد. لا نسمع كلمة واحدة ضمن اللقاء طوال الفيديو، ليكون الفيديو الدعائي الذي تمت فيه إدارة نظام المعاني بشكل واضح، عرضاً كاملاً للامتثال والسيطرة، ودليلاً لاستمرار منطق الهيمنة على جميع نواحي الحياة، حتى الإبداعي والفني منها، والأهم هو أن يظهر هؤلاء النجوم والفنانون على أنهم يقدسون قائدهم.
على الرغم من أن صور نجوم الدراما السورية في كنف النظام السوري تكررت سابقاً، إلا أن مشهد «نجوم الدراما» حول رئيس النظام السوري، أقرب إلى مشهد استقباله للاعبي المنتخب السوري بعد هزيمتهم في تصفيات كأس العالم لكرة القدم عام 2017، والتي ضمت عمر السومة وفراس الخطيب، المعروفين بمواقفهم المعارضة للنظام السوري. كانت محاولة للترويج لسياسة العفو خاصة عن المعارضين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء، ليواجه بعدها اللاجئون السوريون العائدون إلى سوريا انتهاكات جسيمة، بينها حالات احتجاز تعسفي وتعذيب واختفاء قسري.
الإمساك بقطاع الدراما
في أشهر الثورة السورية الأولى، حاول نجوم الدراما السوريين اتخاذ موقف من النظام. فدفع مشهد الدبابات العسكرية وهي تدخل مدينة درعا 160 فناناً للتوقيع على بيان يدعو لفتح معبراً للمواد الغذائية للمدنيين. دفع «بيان الحليب»- كما سماه الفنانون الموالون لأنه كان يطالب بإدخال حليب الأطفال- بالنظام السوري لتكثيف الظهور الإعلامي للفنانين، ليؤكدوا على مدى خطورة «الحرب الكونية» ضدّ النظام، ومدى أهمية تأييد الخيارات العسكرية في مواجهة «المخطط» الذي يحاك ضد سوريا.
توالت بعدها قوانين تشديد الرقابة على القطاع الدراما والإنتاج التلفزيوني والسينمائي، والتي يقرر فيها الرقباء الحكوميون مصير التوزيع والعرض. هذا ما أثّر بشكل سلبي واضح على قطاع الإنتاج، خاصة أن الأعمال الدرامية تخضع للجنتَيْ رقابة، الأولى هي لجنة رقابة النصوص، المنفصلة عن لجنة المشاهدة. وبهذا يكون العمل الدرامي محاصراً بالرقابة قبل عملية التصوير وبعدها. وما يزيد الإرباك حقاً بالنسبة للعاملين في قطاع الإنتاج، هو انفصال لجنتي الرقابة كلياً في عمل كلّ منهما، خاصة أنّه عندما توافق لجنة القراءة على مسودة المشروع، قد ترفض لجنة المشاهدة عرض المسلسل، بعد إنتاجه والانتهاء من تصويره. هذا ما دفع عدداً من المنتجين والفنانين للإشارة إلى هذه الأزمة في أكثر من مناسبة، كان أكثرها مباشرة تصريح الممثل فراس إبراهيم في عام 2022 بعد رفض الرقابة لأكثر من عشرة نصوص. وصف ابراهيم الرقابة بالقاسية جداً، وحمّلها مسؤولية تدهور القطاع بسبب القواعد الصارمة، ضمن لقاء إذاعي مع راديو «ميلودي» المقربة من النظام. وهذا ما دفع بعض صناع القطاع لإنتاج نصوصهم خارج سوريا، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على الدراما المحلية.
عن الصمت الذي لا يكفي احياناً
المشهد يتكرر باستمرار، قاعة واسعة بكاميرات جاهزة لتصوير الراعي والمرياع. «المرياع» هو الخروف كثير الصوف، جميل الصوت، الذي يستخدمه الراعي لقيادة قطيع الغنم، يربيه الراعي منذ صغره بالتهديد والركل، ليكون بجانبه حوله وأمامه، وفي أولى مراحل بلوغه، يقوم بإخصائه وتقليم مقدمة قرونه، كي لا ينشغل عن مهمته الأساسية، باتباع الأوامر وتنفيذها.
مهما بدا التشبية قاسياً، إلا أنه عندما تقرأ مديح المخرجة رشا شربتجي بالأسد بعد اللقاء، تدرك معنى المطاوعة النفعية، بانفصالها عن الواقع، حيث كلما زادت سذاجة الكلام المكتوب، كلما زاد الأسد قوة لأنه قادر على تطويع من لهم دور بطرح الأسئلة.
أخيراً، مهما كانت مواقف «نجوم الدراما» متباينة برأيها السياسي، مثل باسم ياخور المباشر بتأييده للنظام، أو الرماديين المحتجبين مثل قصي خولي وتيم حسن وسامر اسماعيل، وسواء كانت تلك الآراء مبنية على مطاوعة نفعية أو بالإكراه، فإنّها تؤكد لنا أن جميع الفنانين الذين تجنبوا اتخاذ موقف واضح من النظام السوري، يدفعون الثمن الآن.
انكسرت محاولة تجنب مظاهر تأييد النظام لسنوات بلحظة واحدة، عندما قرر النظام تطويع حتى من لم يعارضه ليخدم صورته. حضر مثلًا الفنان بسام كوسا الذي راكم تقديراً فنياً لافتاً، وموقفاً واضحاً بتجنّب كلّ أشكال تطويع السلطة له، بالإقلال من ظهوره الإعلامي، وتصريحاته الخالية من الرياء للنظام، ليظهر ضاحكاً في الفيديو الذي انتشر مؤخّراً. كأن النظام يقول، مهما راكم الفنان والمثقف والرياضي من تقدير، فإنّه سوف يعود في النهاية إلى مشهد الولاء، حيث يجلس الجميع حول الأسد بخشوع كما لو أنّه أبوهم الذي يعدهم بالأمل، يملي عليهم ويذكرهم، يسمعهم، ويسمعونه، ليكونوا فارغين من مضمونهم، مجردين من نظرتهم لأنفسهم، ونظرة العالم لهم، وخاضعين ضمن مشهد سوف يعاد استخدامه باستمرار لتبجيل الراعي وتعظيمه.