خمسة أشهر كانت كافية لتنكشف بنيوية الأزمة التي يتعرّض لها نظام العيش اللبناني. الحكومة التي روِّج لها في الإعلام كفرصة أخيرة، سرعان ما ظهرت عاجزة وتابعة عندما سقطت صورتها في مفاوضات الخارج.
لكنّ الخارج في الداخل، والداخل في الخارج، ومصارين البطن اللبنانية الواحدة لا تكفّ عن المقامرة وتقاذف كرة النار وبيع الأوهام. حتى الجائحة العالمية بدت كاريكاتورية في لبنان. لقد ظهرت الجمهورية بلا مخ ترقص رقصة السيف وترمينا بشِعر مدرسي. وفي نزولها السريع للشارع، حدّثتنا الجمهورية عن تجربة اجتماعية ستقوم بها، وذرفت لنا الدمع تحت نظارة شمسية.
تقول السردية الشهيرة إنَّ هناك من انهزم في الحرب الأهلية اللبنانية وهناك من انتصر فيها. يتوقّف الأمر هنا ولا تُكمل السردية تحليلها. لا تخبرنا أن من انهزم قد عاد، وأنّ الكلّ خلال خمسين عامًا تناوبوا على السلطة، كلٌّ مع فائض قوّته. ما لا تقوله السردية أيضًا، إنَّه لم يكن هناك من مهزومين إلا أهلنا، وإنَّهم الآن في طور هزيمتهم الثانية.
لقد استطاع أهلنا التكيّف مع أسوأ الظروف وقبلوا بنظام عيش وانتفاع مالي. تعاملوا مع الحواجز والقنّاصين وطوابير الخبز والماء والملاجئ. وهم عندما قبلوا بالجمهورية الثانية، قبلوها على مضض. قبلوها بالتحديد لأنها قدّمت لهم نظام إبعاد الحرب.
كانوا في كلّ عيشهم مدفوعين بفكرة إنقاذنا من هذا كلّه وتهريبنا. لكنّ الأمور لا تجري طبعًا على هذا النحو. ورثنا، نحن الأبناء، هذه التروما. كان نظام عيشنا، انغماسًا في استقطابَيْن أو هروبًا نحو فقاعة، محكومًا دومًا بهذه العلقة. حتى في أفكارنا كنّا نتوقّع الأسوأ. لا نعرف أن نفرح. فرحنا لحظيٌّ محكوم بدهشة أنّه فرح فعلًا وأنّ السيّئ ينتظر خلف باب سيُفتَح بغتة.
ذاك كان نظام عيشنا. نظام التحفّز والأفكار الموهومة التي حكمتْنا. وعندما قمْنا بمعركتنا، وخرجنا من غرفنا المغلقة، ماديًا وفي الرؤوس، فوجئنا بأنّ نظام العيش إيّاه قد سقط.
أيّ نظام إبعاد حرب سيبقى بلا نظام عيش؟
مع سقوط شبكة الانتفاع المالي، ينكشف السلم الأهلي حربًا على أهلنا وعلينا. سقط الإبعاد، ولم يبقَ منه إلا الحياة المذلّة.
ورغم هذا كلّه، كلّ المؤشرات تقول إنَّ هناك من هو ماضٍ في مشروع تحميل الكلفة للجميع. و«للجميع» هذه تعني تحميل الكلفة للجميع إلا القلّة. ولن يكون مفاجئًا أن تعود هذه القلّة، في ظهور شرفيّ آخر، لتشتري ممتلكات الناس في الدولة كما فعلوا مع قدوم الجمهورية الثانية، وبالتدريج.
هناك مَن يختزل الأمر في حصار دوليّ، فيطرح سرديّة مقاومة الحصار في معرض الإبقاء على حيثيّته الشعبية. وهناك من لا يجد في المؤشرات الإقليمية أيّ صلة بما يجري، ويختزل الأمر في حكومة وفي أطراف اعتدت على هوية لبنان التاريخية. كلا الاختزالين حليف لرجال أعماله ولحيثية بقائه، ولشبكة علاقاته بالخارج والداخل، ولمخياله. كلا الاختزالين يتفادى في العلن القول بإنَّ هذه الجمهورية الثانية تتدحرج نحو سقوطها الأخير، وأنّ أهلنا التعبين للغاية يتّجهون معهم نحو هزيمة أخرى، وأننا نحن، من ظننّا أنّنا نجونا، بترك البلد أو بالعيش داخل فقاعاتنا، لا نملك إلا خيار المواجهة وخيار إنقاذهم من هذا كله.
جاءت الجمهورية الثانية مع نظام عيشها وستذهب مع نظام عيشها.
لن تنفع الإجراءات الأمنية ولا الاستدعاءات ولا محو التغريدات ولا تقريظ الإعلاميين لنا ومحاضراتهم عن الأخلاقيات وضرورة رؤية الإيجابيات والابتعاد عن الشعبوية. لن يُسكَت لخطاب تحميل الأفراد المسؤولية. لا. الفقراء ليسوا مسؤولين. لا. العاطلون عن العمل ليسوا عاطلين لأنهم يأنفون عن أشغالٍ بعينها. لا. نحن لسنا مفتونين بشكل عيشنا. كلّ هذا استسهال. كلّه محاولة لتحميل المهزوم الذي تحمّل هراءً سرق عمره بكامله تبعات هزيمته، وذاك أقلّ ما يقال فيه أنّه معدوم الحياء.
في روايةٍ كُتِبَت أو ستُكتب، تسوِّر المدينة ناطحات سحاب فارغة وتمنع البحر عن قاطنيها المختبئين من الوحش. النفس مكتوم، ورذاذ البحر على الوجه، ذاك الذي يرميك بأفكارٍ قمعتها، معدوم.
في روايةٍ كُتِبَت أو ستُكتَب، ينبعث الوحش من بقايا جثث مقتوليه. ثم يسقط أخيرًا، وتبقى بقايا القتلى يزحف كلٌّ منها في طريقه. لا نعرف وجهتها، لكنّنا نشعر برعب المقتولين وغضب الناجين.
في روايةٍ كُتِبَت أو ستُكتب، ينشقّ باب بيت ويخرج منه أحد الناجين.