إن الإنسانية خيبة أمل جسدية، تحصل بسبب ضرورة طبيعية. لأنّ الليبرالية تضع دوماً نورها تحت جرس زجاجي، ظنّاً منها أنه سيشتعل حيث لا هواء. إنّها تشتعل بشكل أفضل بكثير في عاصفة الحياة. النور ينطفئ عندما ينفد الأكسجين. لكن لحسن الحظ، إن الجرس موجود في مياه الجمل المجوّفة، ويرتفع مستوى الماء عندما تنطفئ الشمعة. عندما نرفع الجرس، نشتم خصائص الليبرالية الحقيقية. تفوح رائحة أكسيد الكربون المنتنة.
كارل كراوس
يبدو أنه ما من ضربة قاضية نهائية، وأن أي ضربة تُضاف فقط إلى الضربات السابقة بانتظار الضربة التالية. ضربة تطرد أخرى. يُؤجَّل الانهيار الكامل، النهائي، باستمرار إلى أجل غير مسمّى. أفترض أنه سيفاجئنا على بغتة، وعندئذ سيكون قد فات الأوان. يجب أن نعتاد على فكرة أن ما من شيء سابق لأوانه أبداً. إن مؤشرات الانهيار كثيرة جداً، وهي من كل الأنواع ومن كل الجوانب، ما يحول دون أن نفهم «الوضع» من دون أن نكرّر أنفسنا بلا كلل، ومن دون أن نخدع أنفسنا بلا كلل.
إذاً وصلنا إلى هذا الحدّ، واقفين نوعاً ما، منغمسين في مهامنا اليومية، نسدّ الشقوق، ونكشط قعر الأشياء، ونتوسّل إلى الفجر، إلى التيارات البحرية، إلى الطيور المهاجرة، إلى سعر الصرف والأطياف. ألم، غضب، غضب، جميعها مكبوتة. ما عدنا نجرؤ على الحلم بأي شيء، وحتى برؤوسهم المعلّقة على الأعمدة الكهربائية المنتصبة بلا جدوى في كل أنحاء البلاد، من شمالها إلى جنوبها، من شرقها إلى غربها، أو على العكس برمي وجوههم في خزّانات الصرف الصحي وتركها تتعفن هناك، فلا نراها مجدداً. بصراحة، سيكون الخيار الثاني مثالياً.
ما زلنا حاقدين عليهم حتى الموت. لكننا ما زلنا حاقدين أيضاً على أنفسنا، وحتى أكثر بكثير. لقد عرفنا، لطالما عرفنا، لم يكن بوسعنا إلّا أن نعرف. لم نستطع في عجزنا التخلّص من شعاراتنا القديمة وردود فعلنا العتيقة، المتجمّدة في الزمن والتاريخ. كما لم نستطع الاستسلام لسراب رديء، سراب وطن نشأ أخيراً. باختصار، لم نستطع إعادة النظر بأنفسنا جذرياً. على كافة المستويات، بدءاً بهذا الكيان الشهير، «نحن»، وما يشكّله، واقعه، صيرورته. واليوم، في هذه المرحلة المذرية التي تلت الانتخابات التشريعية، بات هذا الفشل صارخاً أكثر من أي وقت مضى. الخضوع المتوقّع لأكثر من فرد وأكثر من مجموعة لصفارات صناديق الاقتراع يثير التعجّب. إلامَ نحتاج بعد كي نُدرك هذا الغشّ المتكرّر- من دون الحاجة إلى التذكير إلى أي حدّ تبدو القوانين معيبة واللعبة مغشوشة؟
لعبة الإطاحة السياسية جُرِّبت أكثر من مرّة، على أكثر من قارّة، على مدى قرون، والنتيجة ذاتها تقريباً في كلّ مرّة: الواصلون الجُدد، أصحاب الأكثرية، من خلال صناديق الاقتراع، يفسّرون قواعد اللعبة بطريقة مختلفة نسبياً. لكنّ اللعبة تبقى ذاتها، كما هي، بإصرار، ومن المستحيل أن ندّعي أننا لا نعرف أنّ هذه اللعبة مشفّرة ومرمّزة خارج كل مجلس أو غيره من المؤسسات العامة. أنّها تتمّ بشكل أساسي على مستويات مغلقة جداً حيث يمارسون ألاعيب بهلوانية مالية لا سابق لها؛ أو أنها انقلاب حديدي، خارج الانتخابات، دمويّ نسبياً، ويفرض أيديولوجيةً أو محوراً سياسياً، يلغي بطريقة أو بأخرى أي احتجاج ممكن، يلغي كل «المُعادين للثورة»، «الخونة»، وأمثالهم. إنها «ضربة» أخرى باختصار، لا تأخذ في الاعتبار تحذير روزا لوكسمبورغ الذي كتبته بعد عام بالكاد من الثورة الروسية في أكتوبر 1917، في كتابها الذي يحمل العنوان ذاته، «الثورة الروسية»، والذي نُشر قبل أشهر من اغتيالها بأمر من وزير الدفاع وعضو الحزب الديمقراطي الاشتراكي.
من دون انتخابات عامة، من دون حرية لا متناهية للصحافة ومن دون حرية التجمع، من دون صراع حرّ بين الآراء، تموت الحياة في كل المؤسسات العامة، تصبح حياةً ظاهرية، حيث تبقى البيروقراطية هي العنصر الوحيد الناشط. إنه قانون لا يستطيع أحد الخضوع له. الحياة العامة تدخل حالة النوم تدريجياً. بضع عشرات القادة، ذوو طاقة لا تملّ، مثالية لا حدود لها، يديرون الحكومة، والذين يحكمون بالفعل هم حوالي عشرة أشخاص بارزين، فيما يتمّ استدعاء نخبة من الطبقة العمالية بين حين وآخر إلى اجتماعات، للتصفيق لخطابات القادة والتصويت بالإجماع على القرارات التي يتمّ عرضها عليهم، وبالتالي، إنها بالواقع حكومة الحاشية، دكتاتورية...
كتبت عن إدراك. «طبقة عمّالية» بالماضي، «مواطنون فخريون» أو «قدوة» اليوم. الحرية فقط لمناصري الحكومة، لأعضاء حزب، مهما كان عددهم، هذه ليست الحرية. الحرية، هي دوماً حرية الذي يفكر بطريقة مختلفة، هذا ما أصرّت روزا لوكسمبورغ على قوله في سعيها إلى إبراز التنظيم الذاتي للجماهير، لمحاولة التوفيق بين المساواة والحرية. يجب أن نعترف بأن الثورات الوحيدة التي لم تتحوّل إلى كارثة ورعب، والتي غالباً ما تخطّت وتفوّقت على الأنظمة الطغيانية والاستبدادية التي أطيح بها، هي التي لم يتسنَّ لها الوقت كي تكتمل.
الحقيقة هي أنه ما عاد بوسعنا التفكير في السلطة في حالتها الصلبة، فقد انتقلت منذ فترة طويلة إلى حالة سائلة وحتى غازية، فهي تذوب باستمرار وتلوّث أي جسم، اجتماعياً وعضوياً. ما عاد بوسعنا أن نستنفد كامل قوانا ضد زمراتهم وعملاء سلطتهم الآخرين، ضدّ كلّ هذه الجدران المُشيَّدة، جبروتهم وأفخاخها الكاملة. ما عاد بوسعنا أن نخوض معارك خاسرة سلفاً، لأنها تُخاض دوماً على مستوى لم نجد باب الوصول إليه بعد (مقتطف آخر من الـ«اللجنة غير المرئية» (Le comité invisible)).
مسألة السلطة، المركزية خاصة، هي أكثر من أي وقت مضى السؤال الذي لا مفرّ منه. وبالطبع، ليس الهدف أن نطرح بوجهها الفدرالية الضبابية التي ليست إلا شكلاً آخر من أشكال المركزية، المَركَزَة، وهي باختصار تكاثر للسلطات الرسمية. بل أكثر من ذلك، إنّه سؤال الاستيلاء على السلطة، الحوكمة، الذي يفرض نفسه.
من أين نستمدّ القوة إذن، ليس لمواجهتهم عبثاً، بل لمحاولة التخلّص من هذه الحلقة الجهنمية التي لا تنفك تقيّدنا؟ من أين نستمدّ القوة، إن لم يكن ممّا لا نعرف كيف نتخيّله ونشعر به ونعيشه إلّا على نطاق محدود (في أشكال مختلفة من التجمعات البديلة، الريفية او المدنية) أو في مجتمعات متجانسة بالأحرى (كما في تشياباس)؟ في اكتفاء ذاتي حقيقي أو إدارة ذاتية تتجاهل بصراحة عمودية السلطات الرسمية وغير الرسمية، وآلياتها العديدة، التي ما عادت تسعى إلى التفاوض (بكل معنى الكلمة) معهم. بتعبير أدقّ: اكتفاء ذاتي لن يطلق على نفسه إسماً، مؤلَّف من عدّة إدارات ذاتية أو تجمعات بديلة مختلفة، ذات حجم متغيّر، أينما كان في هذه الأراضي الوعرة. وسيتمّ كلّ شيء في التحالف بين هذه التجمعات المختلفة، في تكاملها، في تناقل حاجات بعضها بعضاً، سواء كانت حاجات غذائية أو طبية أو تقنية أو بيئية أو تتعلق بالطاقة أو غيرها، أم حاجات تتعلّق بالمتعة، نعم، المتعة والفرح، بصيغة المفرد والجمع، المتعة والفرح بالتخلص من كل هذه القيود والعقبات المتراكمة، وأن نفعل، أن نحاول أن نكون، أن نعيش، بطريقة مختلفة في هذا العالم اللعين. توضيح للعقول الحزينة أو المرتبكة: التجمعات التي أذكرها هنا ليست خضوع الفرد للجماعة، لكنه الفرد الذي يأخذ في الاعتبار الجماعة والعكس بالعكس، لا يستطيع الواحد من دون الآخر. ليست الجماعية، بل الفرد والجماعة، «و» ليس «أو». الهدف هو الانتهاء من هذا «الاختيار» المأسوي الذي يفرضه علينا العالم منذ البدء. هل هذه استحالة، أو وَهْم؟ لربما، بالتأكيد، بالأخصّ أنه حتى خلال أشهر الانتفاضة عام 2019 و2020، لم نستطع ولم نعرف أن نحققه ولا أن ننظر فيه حقاً. وأشك بأن تكون هذه العدوى الشهيرة هي التي منعتنا. لكن ماذا غيّر في وجه هذه الوقاحة والاستهزاء اللذين لا يزعزعهما أي شيء؟
دولة القانون التي يلوّح بها البعض بوجه هذه العصابة، الدولة المدنية، العلمانية، المجرّدة من الطوائف، مع رئيس فوق مصالح حزبية، حكومة حقيقية، برلمان حسب الأصول، نظام قضائي مستقل، وكل جلبة وخداع التمثيل الديمقراطي المذكور، سيكون بنظرهم الجواب الوحيد. أي المطالبة بـ«ديمقراطية عصرية» التي ستغضّ النظر عمّا يجب غضّ النظر عنه. لكن كيف يمكننا أن نستمرّ حتى الآن، وعلى عكس أكثر من دولة قومية يُفترض بها أن تكون نموذجية، بتجاهل أنه من المستحيل بالنسبة إلينا أن نبني ركيزة، أسطورة مشتركة، يمكن انطلاقاً منها أن تُحكى الأمة المذكورة، فتتمدّد أو تنكمش، بخوف أو بحذر، وفقاً للأحداث وسوء أحوال الطقس، «في السرّاء والضرّاء»؟ على الأغلب، في الضرّاء، نحن نعرف ذلك. الواضح أنه يستحيل علينا في هذه البقعة من المتوسط أن نندمج في قاسم مشترك، وأن نظل نتظاهر بأننا نتطلع إلى تاريخ يجمع مجتمعاتنا المختلفة حول سرد تأسيسي واحد. حبكاتنا شديدة التشابك وما من ضربة سيف عجائبية تبتر هذه العقدة.
بسبب إخفاقها في إقناع العديدين، يكمن جوهر السلطات، والأنظمة السياسية المختلفة، «عندنا»، كما في كل مكان، في جعلنا نتقبّل أنه ما من حلّ آخر، وأن لا فائدة من الرغبة في بناء عالم آخر، أو طريقة عيش أخرى، أو حتى تخيّلها، التفكير فيها، أو أنه من الحماقة أن ننتظم. كل جهاز دولة- صدّقوني، جهازنا لا يزال يعمل، حتى ولو على طريقته الركيكة جداً- هو عصابة قد نجحت. بصيغة الجمع «عندنا» بالطبع، عصابات، زمرات إن كنا نفضّل هذا التعبير، تتفق وكأنها أعز الأصدقاء في نهاية المطاف، بغض النظر عن الخطابات اللاذعة التي لا تنفك تتراشق بها. «الفوضى أو نحن» هو، أكثر من أي وقت مضى، شعارهم الوحيد ، حتى اليوم، في خضم الإفلاس العام. «أوروبوروس» فتاكة ومثيرة للشفقة، مؤلفة من عدة أفاعٍ مختلفة الأحجام لا تنفك تعضّ ذيلها.
مجموعة بعيدة الاحتمال، لم تستطع ولم تعرف قط أن تتشكل، ولا حتى على شكل خدعة بصرية. أرض ضيّقة حيث أننا نتحمّل بعضنا بعضاً في أفضل الأحوال. استحالة على أن نكون متعددين، بمعنى التعددية. عدم قدرة أي مجموعة أو عشيرة، مهما كانت قوية، على التغلب بشكل ساحق على الآخرين، وعلى تثبيطهم، وعلى فرض شروطها وبالتالي فرض سرديّتها. لكن كيف نستوعب استحالة تأسيس سردية مشتركة، كيف نتقبّل هذا الواقع ونكفّ عن الوقوع أو عن التظاهر بالوقوع مراراً وتكراراً في هذه البئر التي لا قاع لها، في هذه المياه التي تزداد ملوحةً؟ كيف نكفّ عن الدوران من حولها كما نتقن فعل ذلك، بل ونقوم بفرد كل القصص، الفردية والجماعية، بما فيها التي لا تستطيع، التي تعجز عن القول، التي ما عاد لديها صوت «ناطق باسمها»، التي لم يكن لديها ناطق باسمها قط، التي لربما لا تريد ناطقاً باسمها؟ كيف نعترف بهذه الطرقات المسدودة؟
نحن لا نعيش أزمة الرأسمالية، بل على العكس رأسمالية الأزمات، هذا ما كتبته عن حق الـ«اللجنة غير المرئية». مهما كان شكل الرأسمالية هذه، كلاسيكية، ليبرالية، ليبرالية جديدة، رأسمالية الدولة، همجية. إنه شأن محلّي بقدر ما هو شأن دولي.