طرحت ثورة 17 تشرين عناوين عريضة، لعلّ أهمّها إلغاء الطائفية السياسية كما ينصّ الدستور اللبناني.
فمنذ ثلاثة عقود والطبقة السياسية تتجذّر في الحكم من خلال التلاعب بأبناء الطوائف وإقناعهم بأنه يجب أن يبقى لهم زعماء يحمونهم ويحافظون على موقعهم في النظام السياسيّ الأوسع.
يشمل دور السياسيّين المُنتخَبين فعلًا حماية المواطنين الذين انتخبوهم عبر تأمين فرص العمل والطبابة والتعليم والخدمات الاجتماعية لهم. لكنّ تطبيق هذا المبدأ عبر السنين أخذ نهجًا طائفيًا تحاصصيًا، نمّى الزعامات وعزّز سعي السياسيين للمصالح الشخصية على حساب الوطن والمواطنين.
فعّل السياسيون في لبنان دورهم كزعماء لأحزاب وُجدت لـ«حماية الطائفة»، فتقاسموا الحصص، وبات لكلٍّ منهم عدد من التعيينات في المؤسسات العامة وبعض الشركات الخاصة والمستشفيات والجامعات والمدارس، واحتلوا عدداً من الأسرّة في المستشفيات، وحجزوا لناخبيهم أماكن في الجامعات، وما إلى ذلك من خدمات معيشية تعتبر حقوقاً طبيعية في أنظمة أخرى.
ومن هذا المبدأ، ترسّخ عمل الوسائط والمحاصصات في ثقافة العمل عامةً في لبنان، وأصبح الزعيم المتحكّمَ الأساسي بمستقبل أفراد طائفته أو حزبه. ثمّنت هذه الممارسات قِيَم التلاعب بالقوانين لتحقيق أهداف شخصية، فاستخدمت صفة «الحربوق» في معرض الإطراء، فنمت بيئة عملٍ تضع الفساد والمحاصصات والوسائط في صلب علاقة المواطنين مع مؤسسات الدولة وغيرها.
لماذا لا يزال البعض متمسّكاً بهذا النظام حتى مع وضوح خلَلِه؟
تشكّل حماية الطائفة أحد أهمّ الأسباب التي تجعل البعض متمسِّكاً بالنظام السياسي الحالي. فبينما يرى البعض في فصل الدين عن الدولة بدايةً للتغيير المدني، يرى فيه آخرون خطراً على طائفتهم وإخلالاً بمبادئهم الدينية وهويّتهم الفردية. فهل يمكن أن نفصل الدين عن الدولة، وأن نحمي ونؤمّن العدالة للجميع على تنوّع طوائفهم وانتماءاتهم الدينية في آن واحد؟
في أنظمةٍ كثيرة حول العالم، هناك نماذج تشريعات تؤكّد على مبدأ الاعتراف بالاختلاف وتَكفَل المساواة في الفرص من أجل حماية الأفراد من التمييز، على تنوّع أعراقهم وأجناسهم وقدراتهم الجسدية. ويمكننا في لبنان الثورة، الحثّ على تشريع قوانين تُمكّن الدولة من حماية الاختلاف والتعدّد بين المواطنين من دون الارتكاز إلى طبقة زعماء يعملون وسطاء بينها وبين المواطنين.
هل يمكننا أن نرى في تلك التشريعات مخرجاً لنظامنا السياسي؟
ما أودّ طرحه هو وضع مبدأ حماية الأفراد من كلّ الطوائف والأديان أساساً لتشريع قانون يضمن تكافؤ الفرص في لبنان، ووضع الانتماء الطائفي مكوِّناً رئيسيّاً في صلب قانون عدم التمييز المرجوّ. بمعنى آخر، على القوانين المشرّعة أن تنُصّ على تكافؤ الفرص والحقوق للأفراد أيّاً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية.
وعليه، تنتقل الشركات والمؤسّسات العامة والخاصّة في عملية التمثيل الطائفي من منطق «ستة وستة مكرّر» إلى منطق قائم على قوانين مشرّعة تفرض على المؤسّسات العامة والخاصة أن تثبت إعطاء الفرص بعدالةٍ للجميع بحسب الجدارة وبغضّ النظر عن الانتماء المذهبي. فبدل الاعتماد على زعيم لتأمين وظيفة أو مكان في جامعة، يصبح هناك رقابات تطبّقها الدولة لتتأكّد من أنّ التوظيف مبنيٌّ على الكفاءة والعدالة وليس على الواسطة والتبعيّة. بذلك، يقوّض التشريع الجديد نظام الزعامات القائم على المحاصصة الطائفية، ويعيد إلى الدولة الحقّ الحصري في حماية مواطنيها على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم.
لطالما كانت الطائفية شرطاً لحماية الطوائف الخائفة على مواقعها في النظام اللبناني الذي يعيد إنتاج نفسه من خلال منطق الزعامات والمحاصصة. ولكن على الطوائف أن تبحث عن حلّ بديل يساوي بين الفرص ويمنع التمييز وفقاً للانتماء المذهبي. قد يكون ذلك ممكناً لحظة انتزاع هذا الحق من يد الزعماء وإعادته للدولة.