باتت فرنسا لاعباً فاعلاً على خط تشكيل الحكومة الجديدة، وإعادة رسم المشهد السياسي والاقتصادي في المرحلة المقبلة. أما السؤال الفعلي اليوم، فبات عن أولويّات الرئيس الفرنسي، ومدى إنسجامها فعلاً مع الشارع اللبناني المنتفض.
حين تجوّل الرئيس الفرنسي في شوارع الجميزة، لقي استقبالاً يحلم به اليوم أي سياسي لبناني من أولئك الذين لا يتجرّأون على دخول المناطق المنكوبة خوفاً من الغضب الشعبي، أو أولئك الذين تجرّأوا على النزول وسمعوا ما لم يعجبهم. فاليأس من السلطة وأقطابها دفع كثيرين إلى استقبال الرجل كفاتح أو منقذ، يمكن أن يحمل معه ما يخلّصهم من الواقع البائس. وقد يكون ذلك مدفوعاً أيضاً بصورة فرنسا التاريخيّة لدى جزء واسع من اللبنانيين كأمّ حنون. هذا المشهد، دفع الكثير من الناقمين على السلطة إلى الإشارة إلى الحفاوة التي لقيها الرئيس الفرنسي في مقابل السخط على الزعماء اللبنانيين، كإشارة إلى فقدان هؤلاء الزعماء إلى المشروعيّة الشعبيّة.
لكنّ حساب الحقل ليس كحساب البيدر. بعد ساعات من جولة ماكرون الثوريّة في الجميزة، كان الرجل على طاولة جمعته بجميع أقطاب النظام الذين يندّد بهم الشارع اليوم، متحدّثاً عن أهميّة تشكيل «حكومة طوارئ وطنيّة تساندها جميع القوى السياسيّة». وحكومة الطوارئ هذه، يمكن أن تكون مجرّد اسم حركيّ لحكومة الوحدة الوطنيّة التي طلبها نصر الله لاحقاً، أو يمكن أن تكون تكنوقراط على طريقة حكومة دياب إنّما بغطاء سياسي أوسع، أي بدعم القوى السياسيّة التي لم تبارك حكومة دياب سابقاً.
منذ ذلك الوقت، اتّضحت الأولويات الفرنسيّة، وأصبح بالإمكان رصد أثر الدور الفرنسي في كل ما يتعلّق بالحكومة الجديدة: ثمّة من يراهن على الفرنسيّين لحلحلة العقد التي لم تتمّ معالجتها بين العهد والحريري، لتسهيل عمليّة تكليف الأخير. وهناك من يتحدّث عن مؤشّرات تدلّ على وجود تفاهم فرنسي مع الولايات المتحدة وروسيا على توفير الدعم لحكومة «أكفّاء» متفاهم عليها من الجميع برئاسة الحريري. وأخيراً، يبدو أن الجهد الفرنسي هو ما ينتظره الحريري لتذليل العقبة الأبرز التي يمكن أن تعيق عودته إلى رئاسة الحكومة، والمتمثّلة بالموقف السعودي من هذه المسألة.
باختصار، لم تكن كلّ الجموع الغاضبة التي التقاها ماكرون في الجميزة بعد الانفجار سوى أداته للضغط على أقطاب السلطة الذين التقاهم لاحقاً، والذي ذكّرهم بالشارع الغاضب قبل أن ينتقل إلى البحث معهم في تفاصيل المرحلة المقبلة وما يريده من مصالح لدولته في هذه المرحلة، وقبل أن يسعى لإعادة تعويمهم عبر توفير أوسع غطاء إقليمي ودولي لفكرة حكومة الإجماع الوطني التي تحدّث عنها.
أمّا المصالح التي تبحث عنها فرنسا فعلاً في حكومة المرحلة القادمة، فباتت واضحة: امتيازات الشركات الفرنسيّة بعد تشكيل «الصندوق السيادي» الذي يُفترض أن ينظّم عمليّة خصخصة واستثمار أصول عامة تتجاوز قيمتها الـ42 مليار دولار، والذي بدأ الحديث عنه يتفاعل قبل إنفجار المرفأ بأيام. كما بات من الواضح أن فرنسا مهتمّة بالحصول على امتياز إعادة إعمار المرفأ واستثماره، خصوصاً في الظل التنافس الذي تخوضه مع روسيا والصين وتركيا على مساحات النفوذ الاقتصادي في شرق المتوسّط، والذي يشكّل السباق على الموانئ جزءاً أساسيّاً منه.
ببساطة، يلبس ماكرون في كلّ هذه اللعبة ثوب الاستعمار بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى: الدولة المتسلّطة التي توظّف نفوذها لإعادة تعويم رموز الفساد في بلد من بلدان العالم الثالث، مع ابتزاز هذه الرموز بكلّ ما تلطّخت أيديهم به للحصول على ما يكمن تحصيله من مكاسب سياسيّة واقتصاديّة.
في هذه المعادلة، لا يوجد أمّهات حنونات، بل مصالح إقليميّة ودوليّة، ونقاط نفوذ تتناتشها الدول الكبرى.