تحليل «نوّاب التغيير»
إلهام برجس

ما بعد المستحيل: أقحوان تشريني ومسار للصمود

24 أيار 2022

يوم فجّر الحكام بيروت، شعرت أن المستحيل لم يعد سقفاً. منذ 4 آب، وبعدها «زخ» الخردق والقنابل على المشاركين في تشييع الضحايا في 8 آب، منذ ذلك الوقت ونحن نعيش في ما بعد المستحيل. أنبت سقوط المستحيلات في قلبي احباطاً، وابتلعت سوادية الاستسلام عقلي. لم يتبادر إلى بالي أن ما بعد المستحيل في جانب منه يكون مثل نبوت الأقحوان حيث أردي عشتار قتيلاً.

أحب زهرة الأقحوان لأنها ترمز إلى القيامة، لأنها زهرة فلسطين ولأن اسمها الآخر «زهرة النساء».

في 17 أيار أزهرت انتفاضة 17 تشرين أقحواناً: لم تعد ساحة النجمة مستحيلة، لم يعد البرلمان بعيداً، سقطت زعامة طائفية أساسية، سقط العديد من أركان النظام، وها نحن نحكي ونقترح ونتخيل البديل عن «برّي». 
فيما بعد المستحيل، يشاهد برّي (أطال الله عمره) جلسات البرلمان من شاشة تلفزيون.

يتشابه تخطي المستحيل مع الوهم، ويتشابه أيضاً مع الخيال. في «ما بعد المستحيل»، يصبح خيالنا هو عدّونا الأول إن لم ننقِّه من الأوهام، ويكون الخيال بوصلتنا الأسلم كلّما تغذى من الواقع وراكم عليه، كلّما كان مسيّساً، هادفاً، ومدفوعاً بالمعرفة التي اكتسبناها بالتجربة. 

فيما بعد المستحيل تراقص الأقحوانة عاصفة شعواء، وتخرج من الحفلة كما دخلتها؛ هذا خيال. وخيال أيضاً أن أدعو لحبس العاصفة في قارورة ورميها في المحيط. 

أكتب اليوم دعوة لتبني الخيال الثاني، حيث نستبدل التعويل على «قوة عود الأقحوان» في مواجهة العواصف، ونستبدلها بالمبادرة، وبرسم مسار واضح وصريح، يعرف حاضرنا، ويراكم على المكتسبات. 


ما بين الود، والمعركة

إضافة «أل التعريف» إلى كلمة معارضة في لبنان، إن لم يكن خبثاً، فهو على أرجح القول؛ خطًأ لغوياً. نحن، الآتين من حراك 2015، و2019، لا بل وحتى الآتين من «اسقاط النظام الطائفي»، لا نعارض نفس الأمور. لن يتفق الليبرالي مع الاشتراكي في الاقتصاد، هذه حقيقة علمية. وبالتبعية، لن يطالب رجل الأعمال بضرائب مرتفعة على أرباحه. ربما يرضخ لو وجد أكثرية قبالته، لكنه لن يقترح ولن يبادر. وسيصعب على من ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، أن يتخيل معنى الفقر، ودرجاته، وأن يأخذ ذلك في عين الاعتبار. ثمّ ألسنا على معرفة وإدراك بأن مناهج الاقتصاد وخطط المنظمات المالية، لا تراعي هؤلاء؟

اليوم، ان التّمسك بسردية «توحّد المعارضة» ليس إلا اختصاراً للقضايا، وطمساً لحقوق الأكثر ضعفاً، وانتصاراً جديداً لمن هم «أقوى» وأوزن وأكثر ثراءً. لا أريد لمن اختبر الفقر، أو عايشه أو عرفه بالتجربة، أن يضطر إلى السكوت بحجة الحاجة إلى التوحّد. 

اليوم، دخل المجلس النيابي معارضون تتراوح حصّتهم من «الثورة» بين القليل والكلّ. إن الاستمرار بمطالبة هؤلاء بالتوحّد ليس إلا ضربة لإمكانية المراكمة على النصر الذي تحقّق في الانتخابات. بالطبع هذه ليست دعوى للتشرذم والتوزّع على الكتل المشكلة من أحزاب السلطة. على العكس من ذلك، إنها دعوة لإتاحة المجال أمام الشفافية والوضوح.

على النواب المنتخبين من لوائح «التغيير»، أن يتمتعوا بمساحة لينة للاختلاف... نحتاج أن نتفق على الحد الأدنى الذي يمكن أن ننحدر إليه لجهة عدم التوافق. أميل إلى تسميته بحدّ «الود»، حيث لا يفسد الاختلاف في الود قضية. أما الحد الأقصى بيننا، فهو المعركة المشتركة، القضايا التي نتوحد عليها، والتي يجب أن تكون موضوعاً  لخوض معركة «كسر عظم» مع المنظومة العتيقة، والانتصار فيها. 

على النواب، وعلينا نحن المشاركين في الحملات والماكينات الانتخابية، أن نضع الأوراق على الطاولة، نحدد الأولويات، والخطوط الحمراء، والمساحات القابلة للنقاش. بعد أن ينتهي الجميع من فرد أوراقه، تصبح شبكة التقاطعات واضحة. بعدها ننطلق لنلعب بين الود والمعركة. في مجلس النواب نترك القضايا التي نختلف عليها لآليات الديمقراطية، والتحالفات الجانبية. أما في القضايا التي نتفق عليها، فنكون تكتّلاً واحداً موحّداً، يجذب الراغبين في التحالف لأجل المسألة نفسها، وضمن شروطنا.

لنتوزّع العناوين بمودة، ونعترف، ونحدّد تحالفاتنا فيما بيننا، ومن خارجنا سلفاً. لنتفق عند الاختلاف على التواطؤ؛ التواطؤ لتثبيت هزائم المجرمين وعقابهم. فلنراقب! علينا أن نراقب بعضنا، علينا أن نتخلى عن عبثية التسليم بالتوافق والتوحد.


التنظيم وحشد القوى

استفقنا بعد انتخابات 2018 على حقيقة أن تجربتنا السياسية مفرّغة من عنصرها الأساسي، وهو الانتظام الجماعي.

العديد من المجموعات أنشئت، بهيكليات وآليات عمل متباينة. لم تتمكن المجموعات الناشئة من تلقّف 17 تشرين، رغم أنها كانت محركاً أساسياً لانطلاقها. لكن التجربة الممتدة منذ 2018، بما فيها تنامي قدرة الشباب على اكتساب الخبرة والمعرفة السياسية بسبب توفّر المساحات التي قدّمتها المجموعات الناشئة، أدّى إلى نتائج انتخابات 2022.

هذه المكتسبات/المجموعات قد أنتجت أقصى ما تتيحه قدراتها. فاليوم نحتاج إلى تجربة تليق باقتسام السلطة وتوليها، نحتاج إلى حزب سياسي ممتدّ على صعيد الوطن، لا يعيد إنتاج صورة الأب السياسي، ولا يتزمت بالدفاع عن آليات وهيكليات غير قابلة للادارة (أغتنم هنا الفرصة من أجل نقدٍ ذاتي لتجربتي أيضاً). 

هل سيكون حزباً واحداً؟ كلا. لكنه لا يجدر به أن يكون أكثر من حزبين. سوف تحدّد عملية «الود-المعركة» التقاطعات. والنواب/الحملات التي تتقاطع أكثر، وبعدد أكبر من الممثلين، هي الجديرة بتأسيس الحزب الذي يخوض معركة المعارضة في المستقبل. ونعم، هنا تصحّ أل التعريف. ينضم هؤلاء النواب إلى الحزب كأعضاء، أما الباقون فهم أحرار، اما بتشكيل «حزب/أحزاب» أخرى، واما البقاء ضمن ما يسمى «مستقلون»، بينهم وبين الحزب المعارض اتفاق ثابت: ودّ ومعركة.

لهذا الحزب السياسي دور أساسي في بناء كادرات سياسية تنخرط في الانتخابات القادمة. اليوم لسنا ننتظر موقف النائب الواحد الذي يندد بالفساد حيناً، ويذكّر بعلمانيته حيناً آخر، اليوم لدينا مواد كافية لبناء أرضية صلبة لمعركة طويلة المدى، فلنؤسّس لهذه المعركة حزبها. 


الآليّة والمسار

يقف خلف النواب الجدد حملات انتخابية وماكينات شعبية. وهناك أيضاً مرشّحون لم يسعفهم القانون الانتخابي للفوز. جميع هؤلاء، يجتمعون في مؤتمر مفتوح. أوّل أدواره إتمام رسم شبكة التقاطعات، وإدارتها طيلة السنوات الأربعة القادمة.

المؤتمر هو أيضاً الجمعية العامة التي تناقش تأسيس الحزب السياسي الذي يسعى لتثبيت موقعه في البرلمان والتأثير على التوازنات السياسية لجهة الحكومة ورئاسة الجمهورية. اليوم، سقوط زعامة طائفية بقرار من أهل العاصمة بيروت، والاقتراع لمصلحة نائب علماني في نفس العاصمة التي اجتهدت زعاماتها السابقة لاظهارها كمدينة من لون طائفي واحد، هذا منعطف لا يمكن المرور بجانبه من دون التفكير بأن لا نترك بيروت وحيدة، متخلية عن طائفيتها، في دولة طائفية. يرسم المؤتمر مساراً نحو تذليل الحكم الطائفي. 

المؤتمر هو لاعب سياسي يحمل مبادئ غير مساوِمة، يتبنى نواباً يعبّرون عن توجهه.

يحدد المؤتمر آليات العمل ضمنه، آليات التصويت واكتساب الحق به.
يتحول المؤتمر إلى مساحة عامة لمناقشة مشاريع القوانين والتأثير على اختيارات النواب وتكتلاتهم/ن.
يبقى المؤتمر مساحة ضامنة للقدرة على مراقبة النواب ومحاسبتهم.

اليوم نحتاج إلى مؤتمر تأسيسي، من رحم هذه المرحلة، لإنشاء الحزب السياسي الذي يضمن ألا تضيع جهودنا هباءً.

يتمايز هذا المؤتمر عن أي طرح آخر يرمي إلى إطلاق استفتاءات شعبية، أو أي دعوة لعقد طاولة مغلقة بين النواب تجمع «النواب التغييريين» مع مرشحين سابقين، تنتهي ببيان لا تشارك به الحملات والماكينات الانتخابية. يرمي هذا المؤتمر، بصورة حصرية إلى حماية المكسب الانتخابي، والبناء عليه بصورة ديمقراطية بين النواب المنتخبين والمرشحين على لوائحهم، والماكينات والحملات الشريكة في هذا الانتصار. 


نسوياً

فيما بعد المستحيل، خيالنا هو عدّونا الأول. ولو اعتقدنا أن المعركة الحالية قادرة أن تحمل النسوية كجزء عضوي منها، فإننا على درجة عالية من الخيال. وقبل المسار، أبدأ بمراجعة مختصرة أودّ أن أتوسع بها بصورة منفصلة. والاختصار أفضل من فصل النسوي، عن المسار السياسي.

وبالعودة إلى مرحلة المجموعات والهيكليات السياسية الناشئة منذ 2018، سأعترف أنني توصلت إلى حائط مسدود فيما يتعلق باحتمال أن تكون المجموعات السياسية نسوية أو أن تتّسع للنسويات، حتى لو نشأت بصورة تشاركية، ولكن في ظل نظام متشبّع بالأبوية والذكورية.

بالمقابل، فان إنشاء حزب سياسي من قبل نسويات في ظل نفس المجتمع المشبع أبويةً وذكورية، يرجّح تحوّله إلى مجموعة نسوية جديدة منعزلة تميل الى الغوص في التحليل أكثر من التأثير المباشر بالسياسات والحياة السياسية.

أمّا عمل «اللجان النسوية» أو لجان «المرأة» ضمن حزب مؤسس على شاكلة معارفنا وارثنا الاجتماعي الذكوري، فسيؤدي إلى عزل النسويات ضمن مجموعاتهن ووضعهن تحت وطأة معركتين: داخلية لأجل قضاياهن، وخارجية لأجل حماية المجموعة حتى على حساب مصالحهن. يعيد النشاط النسوي داخل تنظيماتنا إنتاج صورة نمطية تشبه دور المرأة في المنزل. فهي في الداخل ترعاه وتعمل على تطويره، بينما يستثمر الرجل الأمر في الخارج ليبدو «رباً» لأسرة ناجحة.

على الرغم مما تقدّم، فإن امانيّ بأن التغيير الجذري وإسقاط النظام وبناء بديل، لن يكون الّا على يد وتحت عدسات نسوية. والحال لا بد للانتظام النسوي أن يتخذ شكل جبهة سياسية عابرة للأحزاب والتنظيمات والأفراد، تهدف الى الضغط على هذه الجهات، وعلى النواب الذين يمثلونها، من أجل توسيع مساحات مشاركة جميع الأفراد المدفوعين نحو الهامش السياسي باتخاذ القرارات واجراء تعديلات جذرية تحدّ من سطوة الأبوية في النظام السياسي.

النضال النسوي لا بد أن يكون العين الساهرة على حقوقنا كأولوية. بعد التجربة لا بد من الاعتراف أن المراهنة على أنه في الوقت الذي لا يوجد مرجع يحدّد نموذج العمل السياسي الّا نموذج الزعيم موزع الخدمات، سوف يأتي حزب سياسي ويحمل معاركنا، هي مراهنة خاسرة.

ان جبهة نسوية عابرة للأحزاب والتنظيمات، تتيح لنا المساحة الكاملة ضمنها للتخطيط ووضع الاستراتيجية والضغط لتعديل الأولويات من عدسة نسوية. بالمقابل، لا تتعارض مع انخراطنا وتوسيع مساحة حضورنا ضمن الأحزاب التي تخوض معركة تولي السلطة والحكم. وجودنا في هذه الجبهة ما فوق الأحزاب، يؤدي إلى الحد من تطاولهم على قضايا النساء والفئات المهمشة، من دون عرقلة سير العمل لانتزاع السلطة من الحكام الحاليين.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر