سباتٌ عميق يأتي على مشارف اليقظة. برغشة تلسعني. تتملّكني حاجةٌ عنيدة للحكاك، توقظني. أفتح عينَيّ وأصفن ثوانٍ بسقف غرفتي العالي.
معلومة الوعي الأولى
طلع الضو.
أنزلق في النوم من جديد. أحلام مبهمة تراودني. أشخاصٌ مَمحيّو الوجه، رجال ونساء، قطط، أطفال رُضّع، مشاهد مبهمة وداكنة الألوان. يرنّ المنبّه. أفتح عينَيّ على وسعهما، وأحدّق بالسقف العالي.
معلومة الوعي الثانية
الموت. وقلقي من الموت.
تشبقني موجة القلق، تصعد من دون إنذارٍ من معدتي إلى حلقي إلى أعلى رأسي وتغمر حواسي معها. الموت. يا ربّي. نفسٌ عميق. ألجأ إلى المنطق. الفصّ الأيمَن من الدماغ. شَغّلي اليمين. لماذا هذه الفكرة؟ ما الذي استدعاها اليوم؟ ماذا تفعل بي؟ أين أحسّها في جسمي؟ نفس عميق. أنفاس عميقة تتتالى. يتسلّل الهدوء. يخفت النبض. ويستكين النَفس. يللا، ليبدأ النهار العامّ.
في طريقي الطويل إلى العمل، أكمل التحليل، ملاذي من الأحاسيس المُهَيمنة. فأتَصوّر سيناريو أردّ فيه على أسئلة طبيبٍ نفسي، أو صديقي الذي يلعب دور الأخصّائي النفسي جيداً. «ما الذي يخيفك في الموت؟»، «أرتعب من اليوم الذي سوف يموت فيه أبي وأمي». «ولكن هل تَستقوين على الحتمية في دورة الحياة؟»، «لا، أكيد لا». «إذاً، رواق...».
مهضومة كلمة «رواق». ألعب بها، أستخدمها تذكيراً أحياناً، وغالباً تخديراً. تخديراً لئلّا يَشطّ ذهني وأنزلق في الحلقة المفرغة من المقارنة السامّة التي تقول بأنّ آخر ثلاثة أعوام، تراكم الموت أكثر من الحياة. مَن ماتوا، كان عددهم أكثر ممّن وُلِدوا. ومن كان قريباً لي وغادرني، أكثر ممّن زارني وبقيَ. أميرة، روان، حبّة البازيلا، البيسة الشقّورة الفصفوصة، أقارب، أصحاب لوالدَيّ، الشاب الأشقر الذي عرفه صديقي في أميركا والذي اكتشف أنّه مات فجأةً، أسماء، وجوهٌ مبهمة، وذكريات بألوانٍ داكنة...
في السيارة. ومن المرّات القليلة التي لا أتنبّه خلالها لزحمة السير، يُبطىء السير قُرب الدورة، أشرد قليلاً نحو اليمين، وإذ بي أرى قطّةً صغيرة ما بين الأوتوسترادَين تمشي بهلعٍ على حفّة الأوتوستراد، لا تعرف أين تتلطّى، ولا تفقه من خطر السيارات شيئاً. أُوقف السيارة، صوتٌ صارخ في رأسي «انزلي وخديها، خلّصيها من الموت الحتمي!!!». يمشي السَير والسيارة خلفي تزمّر عالياً وبقلّةِ صبرٍ سامّة. فأُقلع من جديد. وجعٌ في معدتي يتربّص بي. يُصاب الفصّ الأيمن بالشلل التام، ويستقوي عليه الفصّ الأيسر. ستموت هذه البيسة. ستدهسها سيارة في أيّ وقتٍ الآن. ولم أخلّصها. تتغبّش رؤيتي. بكاء متدحرج على الفور.
معلومة الوعي الثالثة
أنا هشّة. ضعيفة.
منذ متى كنت كذلك؟ كيف أصبحت رهينة الإحساس المُفرط هكذا؟ متى كانت حاجتي لإنقاذ العالم والقطط والحيوانات والنباتات وكلّ ما هو متحرّك أو ثابت أليمة لهذه الدرجة؟ ما الذي فعل بي هذا؟
أقطع الأمتار بالسيارة، وإذ بأهراءات مرفأ بيروت تظهر أمامي فجأة.
معلومة الوعي الرابعة
الانفجار. هذا ما فعله بي. وهذا ما أصبحت عليه بفعله. وما بعد الانفجار. آخر ثلاثة أعوام. الموت المُفاجئ. الفوري. ومن بعده البطيء وما قبله الوهن والانحلال والضحول والاهتراء. وحاجتي الأليمة لإنقاذ مَن وما وُجد، ولم يعُد.
معلومة الوعي الخامسة
إنّها ذكرى انفجار بيروت.