في منتصف سبعينيات القرن الماضي، أخرج الأميركي سيدني لوميت «بعد ظهر حارّ». استنادًا إلى حادثة وقعت في آب عام 1972، روى الفيلم إقدام سوني (آل پاتشينو) وصديقه سال (جون كازال) على احتلال أحد فروع المصارف في بروكلين.
فاشلان، خاسران، متعثران، متعطلان، من مخلّفات حرب ڤيتنام. عند انتهاء الدوام، دخلا برشاشين. طلبا من مدير البنك إفراغ الخزنة. وجداها شبه خاوية. وليس فيها إلّا ما يزيد قليلًا عن الألف دولار. على جاري العادة اليوميّة في العمل، أُفرغ محتواها وشُحن إلى المركز الرئيسي قبل وصولهما. والمبلغ الموجود حصيلة ما تراكم بعد الشحن. حاولا جمع ما تيسّر من صندوق الصرف. تعقدت الأمور. حضرت الشرطة. انتشر المئات من رجالها حول المكان، تمترس القناصة على السطوح والشرفات المجاورة. قُطع التيار الكهربائي. عُطلت خطوط الهاتف. توقفت مكيّفات الهواء. اكتظ الشارع بالناس والكاميرات. نقلت الوقائع حيّة على شاشات التلفزيون. احتُجِز الموظفون رهائن وقاد سوني المفاوضات. حيال خيبته من قلّة المال وتصميمه على عدم الاستسلام، تخلّى عن المطالبة بفدية وفاوض على تأمين طيارة تقله وصديقه سال ومَنْ رغب من الموظفين إلى بلد أكثر دفئًا من أميركا. اختار الجزائر. طمأن رهائنه إلى أنه كاثوليكي لا يضمر الشرّ مؤكّدًا. وألمح صديقه إلى أن تديّنه يلزمه احترام الحياة والنهي عن أذية الجسد لأن «الجسد معبد الرب». ما كان هدف الرجلين السطو. أرادا تأمين 2,700 دولار لمساعدة حبيبب سوني وزوجه الترانس ليون في إجراء عمليّة تحويله جنسيًا.
أُنتج الفيلم بعد الحادثة بثلاثة أعوام. وعُرِض في ربيع 1975، عام خروج الولايات المتحدة من ڤيتنام وبدء الحر(و)ب اللبنانية. البارحة، شاهدته مجددًا. لفتني في دقائقه الأولى ومقدمة عناوينه شَبَهٌ وثائقي بين نيويورك الربع الأخير من القرن العشرين وبيروت اليوم. فقر، تسكّع، بطالة، قاذورات، شوارع نتنة، براميل نفايات وحارس بنك ينزل العلم الأميركي عن ساريته لحظة إغلاق الأبواب.
من «سال» بروكلين إلى «سالي» بيروت، أعاد المشهد نفسه في الاقتحامات المتلاحقة للمصارف. تسلّح سال ورفيقه برشاشين حربيين. وتنوعت أسلحة سالي ومَن سبقها وتلاها. تارة مسدس بلاستيكي، وتارة أخرى بندقيّة صيد، وأخيرًا حصانة نيابيّة على ما بدر في غزوة سينثيا زرازير.
على هدْي الفيلم الهوليوودي وواقع لبنان، بُرِّر اقتحام معظم المصارف بحاجة مريض إلى العلاج. وفيما أظهر الفيلم محاولة استيلاء بطلَيْه على أموال المودعين، كان مقتحمو المصارف اللبنانية هم المودعين أنفسهم. عملًا بالمثل العربي، «إن جانِبٌ أعياك فالْحَق بجانِب»، أقدموا على ما أقدموا عليه. وباستثناء إلقاء القبض في شتورة على عاثر الحظ علي الساحلي، آل احتلال البنوك إلى خواتيم ظُنَّ أنها سعيدة. وفي ظنّي أن أبطالها قيّدوا أنفسهم بتسلسل مشهدي مكرّر تخطيطًا وتنفيذًا ووفق سيناريو من ثلاثة فصول، أولها الاقتحام في وضح النهار. ثانيها التفاوض مع إدارة البنك. وثالثها موافقة المُقتحِم(ة) على استرداد نسبة من أمواله(ا) المحتجزة.
طغى العذر على الحقّ في تبرير الاقتحام بضرورات المرض والعلاج، وسُوِّفَ الحق وسُوّيَ في تسوية كلّه بقسط منه. كأن ما جرى تنفيذ معجّل لقانون «الكاپيتال كونترول»، وفي ذلك ما يشبه ذهاب المرء إلى حتفه قبل موته.
لا ينتظر صاحب الحق نزول داهمة صحيّة عليه كي يطالب بملكه. واقتطاع 13 أو 25 ألف دولار من القيمة الأصليّة لأي وديعة خطوة موقتة وغير كافية قياسًا إلى انهيار شبكات الأمان، وتهريب الدواء في السوق السوداء، والكلفة الفلكيّة للاستشفاء، والنفقات الباهظة والمفتوحة في علاج السرطان والأمراض المستعصية. تعيّن، والحال هذه، استكمال الحملة على المصارف باستهداف مؤسسات الضمان الاجتماعي وتعاونيّة موظفي الدولة وشركات التأمين ومستودعات الأدوية ووزارات الوصاية وفوقها جميعًا مصرف لبنان. الأموال المعتقلة حقّ عام، يتجاوز الطارئ الصحّي ويطاول التعليم والسكن وشؤونًا معيشيّة عدّة، لا يحتمل خفض قيمته وخصخصته بتسويات شخصيّة إن حققت نصرًا متلفزًا خاطفًا فهو لفرد، محكوم بأنانيّة بلغت حدًّا مفرطًا في تمييز سينثيا زرازير أسبابها متحدثة بالأصالة عن نفسها وليس بالإنابة عن ناخبيها. ما حدث ليس استنهاضًا لثورة. منذ 14 آذار 2005 واللبنانيون يختبرون ثورات وانتفاضات ناقصة. لا يوجد نصف ثورة أو ربع انتفاضة أو تمرّد باليوم والساعة والمساحة. إما تكون شاملة، منسّقة، مستمرّة وإمّا لا تكون. شاهدتُ لبنان في فيلم سيدني لوميت أكثر مما شاهدته في اقتحامات المصارف المحليّة. في الفيلم ما يشبه لبنان. وفي لبنان ما لا يشبه السينما إلّا بخيال مستعار من فئة B-Movie ، بل Z-Movie، أو Zaraziri-Movie.