ثمة نظرة لبنانية تتسيَّد خطاب معاداة الممانعة، تنبع من اعتبار طوفان الأقصى جزءًا من طوفان محور الممانعة، فتقلب سؤال «لو كنتُ أعلم» اللبناني إلى سؤال موجّه للفلسطينيين «أما زلتم لا تعلمون؟».
الرافع الأساسي لهذه النظرة هو ترابط الحركات المسلّحة في البلدَيْن وتقاطعها أمنيًا وسياسيًا حدّ كونها جسمًا واحدًا في سياق واحد هو المحور الممانع. هذه النظرة تُعدِم الخيارات، والمساقات، والهوامش، والتاريخ نفسه، لتصير كل حركة مسلحة هي الأخرى، وكل بلد هو الآخر، بأمر عمليات واحد ومبرَم.
يميِّع الخطاب المعادي للممانعة موقفه من الحدث الفلسطيني، فينظر إليه من عدسة لبنانية، أي أن هناك دولة فلسطينية ينبغي العبور إليها، لا تجمعًا من التنسيق الأمني مع الاحتلال. باختصار، يقف الخطاب العام من المسألة الفلسطينية عند دولة أوسلو ولا يتخطاها.
لكن ما هو السياق الذي واكب انهيار المشروع الوطني الفلسطيني قبل وبعد أوسلو؟ يبدو الأمر أشبه بفجوة زمنية غير قابلة للتذكر عند خطاب معاداة الممانعة، مختَصرةً فقط بدور النظام السوري القذر في نحر فرص المشاريع الوطنية الفلسطينية واللبنانية.
في النظر للتسعينيات، يحتمي الخطاب بعدم اكتمال مشروع السلام، ويرمي هذه النقيصة على شرّ الحركات الإسلامية ومن ورائها شر المحور، وكأنَّ بعض هذه الحركات صعدت من فراغ، لا من فشل المشروع الوطني الثوري الفلسطيني وصولًا إلى «دولة فلسطينية» انتهت تنسيقًا أمنيًّا كاملًا مع الاحتلال بسجونه المفتوحة واستيطانه المتوسع.
يشيح الخطاب النظر عن تجربة العيش اليومي تحت الاحتلال بعد أوسلو تحديدًا، فيحتفي بقصص نجاح دول أخرى في الحياد والتطبيع وبناء الدول (بلا حياة سياسية)، ثمَّ يُغفِل تسليم هذه الدول سيادتها وأمنها القومي لشركات تجسسية إسرائيلية وروسية سيئة السمعة.
في 2005، صنع خطاب معاداة الممانعة مع الممانعة نفسها الاستقطاب اللبناني، لكنه لم يحرفه باتجاه وطني. لم يكن مهتمًّا. كان مشغولًا بالعمل ضمن سياق دولة الطائف والممكن، محتميًا بخطاب دولة الطائف نفسها عن «منع الحرب الأهلية». هذا هو الفرق بين الشائع في هذا الخطاب، وتجربة سمير قصير المجهَضة مثلًا على قصرها. هو فرق في النظر للمسافة بين الممكن والمستحيل. فخطاب قصير كان قائمًا على تعبيد الطريق بين المساحتين، أما خطاب معاداة الممانعة، فما زال واقفًا عند عتبة الممكن غير واثق من إمكان تخطيها.
يتسلَّح هذا الخطاب بانعدام التوازن بين «الطرفين المتناحرين»، ويضيف عليه رد الفعل المحتوم من الطرف الأقوى، ما ينتج- بحسب هذا الخطاب- معضلة أخلاقية في المسؤولية عن الخراب والضحايا ووضعها في ذمة الطرف الأضعف. على أن هذا المثال، وإن كان قد شهد صعوده بعيد حرب تموز في العام 2006 في سياق لبناني بحت بعد التحرير، فإنَّ صلاحيته انتهت فعليًا بعد مناصرة أصحاب الخطاب للثورة السورية في وجه النظام الأكثر جبروتًا وتسلّطًا على الفرص وإعدام المشاريع الوطنية، وهو وقوف لم يرتدّ عنه الخطاب إلا باتجاه عقلانية وطنوية ورقمية في الموقف الحالي من النزوح والديموغرافيا، وهو موقف الممانعة نفسها. فمن يجترّ الآخر هنا، هل تجترّ الممانعة خطابها المعادي أم العكس، أم يقتات كلاهما على الآخر؟
لا يحاول الخطاب المعادي للممانعة إنتاج أي جديد خارج اجترار الممكن المعروف. مساهمته في انتفاضة الشارع اللبناني في 2019، اقتصرت على خطاب تبادلي محض، يغرف من طعام بائت. وقتها، لم يحتج الخطاب لتبرير نفسه، فالحراك الشارعي كانت أزمته في نَفَسه الحقوقي، وثوريته اللاسياسية. وقف دعاة الخطاب جانبًا يتفرَّجون بنظرة الأب الممتعض من أبنائه الذين تخطوه منتظرًا عودتهم إليه لكي يقرّعهم، وحدث التقريع بعد هجوم أنصار أحزاب وحركات الممانعة في ساحة الشهداء.
في 2019، أنتج العبور الجماعاتي نحو جثة الدولة، الانتفاضة. بمعنى آخر، سقط قاموس العبور للدولة تمامًا. وقتها، كان واضحًا أنَّ السؤال يجب أن يكون: أي دولة لأي كيان؟ لم يعترف الخطاب بذلك، أغفل الأزمة الكيانية ومعها عقدها الاجتماعي، واختزل البلد إلى محض تجمع للجماعات الطائفية، وفساد من دون سياسة (بعد أن ارتد هذا الخطاب عن كونه أحد أطناب هذه السياسة الاستقطابية). حتى المكوّن العائلي كان يقدَّم بشكلٍ معدوم النسق التاريخي، لننتهي إزاء أزمة قطاع مصرفي، لا غير.
من عُصاب إلى عُصاب، لا يبقى من خطاب معاداة الممانعة إلا ردّا فعل: ردّ يجزم باستحالة صناعة المجتمعات العربية في وجود الإسلام، وردّ آخر يجزم باستحالة صناعة المجتمعات العربية مع انعدام السلام مع إسرائيل، ويعتبر مفهوم مقاومة الاحتلال، في أي مكان، موقفًا صفريًا.
لكن من استثمر في صنع هذه المجتمعات العربية على ما هي عليه في خطابها الثقافي الإسلامي اليوم؟ يهرب الخطاب من الإجابة عن هذا السؤال باتجاه الموقع الإيراني في السياسة والجدل التاريخي المحمي بالمقدَّس الصنمي. فالتركيز على المقدَّس هنا يختصر التاريخ بطريق مستقيم بلا استدارات وبلا موقف مسؤول تجاه السياسة التي أنتجت هذه المجتمعات. وهكذا، يجد هذا الخطاب نفسه صامتًا في حضن الرأسمال الديني السابق، والحداثوي الحالي المهيمن، بعدما كان سابقًا في حضن رجل الأعمال المغتال.
وبينما ينهي محور الممانعة ممانعته عن أشياء كثيرة، يبقى الخطاب المعادي له عالقًا عند صورة سابقة للمحور الذي يعاديه، فيعلن اكتشافه لنيو-ممانعة كانت مخبوءة داخل البلدان العربية وخارجها. وإذ ينطلق الخطاب من اعتراف بهزيمته التاريخية في تجربته القصيرة، فإن إسقاط شعوره الهائل بالهزيمة على تجارب غيره وهي لم تنتج الشعور ذاته في أوساط مناصريها، هو إسقاط قاصر. يعرف الخطاب ذلك، فيجد مسرب خطاب الاستقطاب الثقافي ليرسم الفارق الحضاري بين «شعبين» مفترضين في تناقض صريح لخطاب تجمّع الجماعات الطائفية الذي لطالما تبناه الخطاب، وما زال، في لبنان والمنطقة.
بمعنى آخر، يرى خطاب معاداة الممانعة في الطوفان الفلسطيني طوفان هزيمته المستمرّة في مجرّد التفكير في الاقتراب من المستحيل، من دون الانتباه إلى كون رؤيته هذه هي رؤية لذاته، وهي هزيمة عزّزتها الجريمة الكبرى المستمرة لنظام بشار الأسد والمتقدمين أمامه والمحيطين به.
لا يودّ الخطاب الاعتراف بأنَّ عدالة الحق الفلسطيني هي عدالة وإن بدت تاريخية، فهي حديثة جدًا، وغضة جدًا، ويومية جدًا، فينظر إلى فعل المقاومة في بلد محتل بغشاوة الحرب الأهلية اللبنانية السابقة والمقبلة، ولا يتخطاها نحو صياغة أيَّ خطاب وطني في ابتعاد متعالٍ عن أنصاره ومَن هم خارج الممانعة القديمة، فيلفظهم ويعمم عليهم تهماً مستحدثة: «أنتم ممانعون جدد» أو «لطالما كنتم ممانعين».
في عصابه اللبناني هذا لرؤية العالم، تصير المذبحة الفلسطينية المهولة مجرد مذبحة أخرى دفع لها الخيار المسلح الإسلامي فقط لا غير، اجترار صفري آخر، كان يمكن له ألا يحدث لولا تحرش الجانب الفلسطيني بإسرائيل. وبهذا، يقف الزمن بخطاب معاداة الممانعة عند 2006 اللبناني، و1993 الفلسطيني، ولا يتخطاهما لا داخليًا ولا خارجيًا، بينما تسلك الممانعة القديمة طريقها نحو زمن جديد.