الإنسلاخ القسري عن الذات
في وقت متأخّر من المساء، كنّا نقضي، أنا وأقربائي، ساعات في مقهى إيراني لدى «بزنس بي» في دبي، نحتسي الشاي ونتبادل أطراف الحديث عن الثورة السورية. بطريق العودة، راقبت القمر المتقارب من الكمال يسكن السماء، ثابتاً وفاقداً للحياة كطير محنّط. كنا نستمع إلى عبد الباسط الساروت وسميح شقير، لكنّ الحماس الطفولي الذي كنّا نحسّه عند سماعهما قد غادرنا. وبات هناك مكانه إحساس أقرب إلى طعم الحليب الفاسد.
يأتي دائماً أيّ استذكار أو استحضار للثورة السورية، والآن الثورة اللبنانية، ممزوجًا بغصّة. في وقت متأخر من تلك الليلة، فكرت بجملة قالها أحد أقربائي بطريقة عابرة، قريبي الذي هرب من صفوفه المدرسية ليشارك وأصدقاءه ساحات الثورة في تلكلخ، قريبي الذي قال لي يوماً أنّ الثورة كانت كطير حبيس في صدره، قريبي هو ذاته الذي هجر كل شيء خلفه ليجد موطئاً في مدينة غريبة:
أوه، التحدث عن سوريا بهذه الطريقة منحني شعوراً بالراحة.
أشعرتني جملته بالغصة ذاتها وطعم الحليب الفاسد نفسه.
لقد أدركت أن المنفى لا يتبع خطًا مستقيمًا، بل هو شبكة معقّدة من خيوط الإغتراب، أحدها موحش كما قراءة المذكرات القديمة، ومصدر لإحساس بالاغتراب عن الذات.
كيف لك أن تبني حياةً بالمنفى في حين أن المدينة التي تسكنها تدفعك إلى الهامش؟ سؤال آخر، كيف ستتحول وعمَّ ستتخلى لتتأقلم وتنصهر؟ كتب الشاعر اليمني عبدالله البردوني:
بلادي من يدي طاغٍ إلى أطغى إلى أحفى/ ومن سجن إلى سجن/ ومن منفى إلى منفى.
اللاتسييس المفروض
منذ البداية، فُرِض على المعارضين السوريين الذين هربوا للاستقرار في البلدان العربية ضرورة التخلي عن السياسة. في لبنان، لم يكن مجرّد تخلٍّ عن فعل سياسي، بل حتى وجودهم بحد ذاته- ما يسمى «بالنازح السوري»- بات مسألة مؤشكلة من كافة النواحي. فنفيهم بات نوعًا من النسيان المفروض عليهم. السوريون في لبنان، كما في غيره من البلدان في الإقليم، محرومون من إستحضار رحلتهم أو حتى حزنهم تجاه ما تم تركه... إلّا حين تتمّ صياغة حزنهم ضمن خطاب إنسانيٍّ. حتى الشعر أصبح محرَّمًا: لا مفاتيح ولا شجر زيتون. النجاة فقط.
تذكرت تلك الليلة في دبي الأسبوع الماضي عندما قابلت ناشطاً سورياً. أخبرني على الهاتف أنه مثل كل اصدقائه السوريين، يحاول تجنب الكلام عن السياسة في لبنان. لا، لا، صاح بي، عندما سألته عن قراءته للثورة اللبنانية، لا نتكلم عن السياسة. فقط عن الحقوق الإنسانية. مثل قريبي الذي يمتنع عن التدخل في النقاشات السياسية في دبي، يتجنب هذا الناشط أي حديث لا يمكن إعادته إلى جذور إنسانية أو حقوقية.
خلال ثورة تشرين، كرّر اصدقائي السوريون الفكرة ذاتها، أي أن ما يحصل في لبنان أمورٌ على السوريين عدم التدخل بها. ولهذا الموقف أسباب مختلفة ومتناقضة، منها الحفاظ على «شرعية» الثورة اللبنانية، ومنها حماية السوريين لأنفسهم من بلدٍ ونظامٍ يهينهم ويعسكر التعامل معهم، ويعزلهم بطريقة بنيوية.
في حديثٍ آخر، منذ سنتين، مع عاملٍ سوري في القطاع الزراعي في البقاع، سألته، وبطريقة لا يمكن وصفها إلّا بالساذجة، عمّا إن كان قد قام بعمل جماعي مع سوريين آخرين في لبنان بهدف مواجهة الإستغلال الذي يعانون منه من قبل أصحاب الأراضي. ضحك، ضحكة بعينين مغطاتين بطبقات من الغبار، وقال:
نحن هون منوطّي راسنا ومنضل مكفايين.
طُلب من السوريين، مرةً تلو الأخرى، أن يتخلّوا عن ثورتهم، وأن يدفنوها تحت جبلٍ من الركام، وأن يتكلموا فقط عن تعقيداتها وبؤسها، وليس عن الأمل والشغف اللذين زرعتهما في قلوبهم.
عن الصدمة وإثبات الفعالية
تظهر الدراسات عن الصدمة أن إحدى الآليات التي قد تساهم في تجنّب الإضطراب ما بعد الصدمة هي السماح للناجين/ الناجيات بتملّك إحساس بالفعالية أو المسؤولية. بعد حدوث فاجعة معينة، قد يخفّف الاندفاع الناتج عن الأدرينالين من تفاقم اضطراب ما بعد الصدمة على الأمد البعيد. فبعد وقوع مجزرة 4 آب، سمحت لنا القدرة على التنظيم ومواجهة الكارثة بالحصول على نوعٍ من المواساة، حتى أعطت مجالاً لتفريغ كل ما بداخلنا من مشاعر مكبوتة.
خلال حصار حلب عام 2016، انتابني شعور شبيه من الإرهاق التام والإنعدام الشامل. كنت مستقرّة في لندن آنذاك وأعمل مع عدد من الناشطين السوريين الرائعين في «حملة التضامن مع سوريا». كان الردّ الطبيعي للوضع في سوريا ان نتجمع وان نحاول البحث عما يمكن القيام به: جمع التبرعات، التظاهر أمام السفارة الروسية، إضاءة الشموع… عند مراجعة عملنا آنذاك، يمكن القول إنّ تضامننا مع بعضنا بعضاً ضمن مساحة معينة ساهم كثيراً في التخفيف من وطأة الحدث.
في لبنان، لا توجد منذ زمن طويل مساحات للسوريين كي يتجمعوا أو يتظاهروا أو يمارسوا حياتهم السياسية. فإذا كانت تجربة اللجوء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية لها تحديات وصعوبات معينة، منها الثقافي ومنها اللغوي، فالنشطاء السياسيون هناك يتمتّعون بمساحة للمناورة وممارسة حياتهم السياسية وحرية الحوار والكلام. وهذا يعني أنّهم يستطيعون الإبقاء ما يحتاجونه من ثورتهم، وكذلك القيام بسيرورة الرثاء والحزن.
هذا لا يعني أنّ السوريين المقيمين في الشرق الأوسط عالقون، لكن هناك سعيٌ واضح لمنعهم من خلق أو التعلق بخطاب ذاكرة يتمتع بصيغة سياسية. طبعاً، يحاول البعض محاربة هذه السردية، لكن معظم السوريين ليس لديهم خيار سوى الاستسلام لها.
17 تشرين والثورة السوريّة
أهذا هو قدرنا إذاً أن نكتب عن ثوراتنا بطعمٍ كطعم الحليب الفاسد، عالقين بذكريات ومجرّد ناقدين لتحاليل؟ أستذكر هنا طرح لينا عطالله عندما كتبت عن الثورة المصرية بذكراها السنوية العاشرة وضرورة خلق مساحات جديدة للسياسة اليومية و«السياسة الصغرى». إن لم يكن من حقي التعليق ومصادرة الأساليب العديدة التي يتّبعها السوريون لكي يبلوروا ويعيدوا إنتاج ثورتهم- كما قال لي صديق يوما بأن فتح دكان بشكل غير رسمي في المخيم هو من «السياسات الصغرى»- أستطيع أن أقول إنّ الثورة السورية وبشكل جوهري صاغت مفهومي للسياسة والمنفى. وأنا أكتب هذا النص، لا تفارقني تلك الصورة التي قد تشكّل إحدى أقوى ذكرياتي:
إنها ليلة 17 تشرين. أنا ورفاقي نراقب حرائق ساحة النجمة. الليلة بمشاهدها السريالية التي تقشعر لها الأبدان. اتجهنا إلى شارع رياض الصلح حيث يردّد المتظاهرون الهتاف الكلاسيكي: «الشعب يريد إسقاط النظام». اتصلت حينها بأخي وقلت له بيوجعني بطني كلما بسمع هيدا الشعار. سألني لماذا. لأن كتير مرتبط بالثورة السورية، وليك وين وصلت. فأجابني مش لهالسبب إنتو بالشارع؟