أوّل مرّة رأيتهنّ فيها كانت على الشاشة.
كنت أشاهد الموسم الثالث من The Handmaid's Tale. ديستوبيا عن مستقبلٍ قريب تحكمه ديكتاتورية دينية تستعبد النساء في زيٍّ أحمر موحّد، وترسلهنّ لحياة العبودية الجنسيّة في منازل الضبّاط، حيث يتعرّضن للاغتصاب المشرّع والعنف الممنهج والتعذيب المتكرّر. في كثير من الأحيان، يرسل الجنرالات النساء إلى السوق لشراء الطعام، فوجدت نفسي أتساءل خلال أحد تلك المشاهد في السوبرماركت، لماذا لا يتوقّف أحد من المارّة ويتدخّل لمساعدة تلك النساء. لماذا لا يهتمّ أحد لمصيرهنّ؟
في تلك اللحظة، رأيتهنّ.
نساء. مئات النساء، من كل الأعمار وكل الجنسيات، يتناثرنَ في ذاكرتي على مدى السنين. رأيتهنّ في محالّ السوبرماركت في بيروت، يلبسنَ المراويل، يتبضّعن للستّ والحزن مرسومٌ على وجوههنّ. رأيتهنّ على حافة موائد الطعام في غدوات الأحد، يلعّبن الأطفال من دون ابتسامة، ينتظرن دورهنّ لتناول الطعام. رأيتهنّ في المسابح، في كل ثيابهنّ تحت الشمس القاهرة، يسرقن النظرات من فوق المسبح، ويتكلّمن لغة الصمت. رأيتهنّ في منزلي. في طفولتي: ساره، ثمّ روزي، ثمّ خوانيتا، ثمّ تشاريتي، ثمّ غرايس، ثمّ أستر. لا أعرف عنهنّ الكثير، لكنهنّ يعرفن كل شيءٍ عنّي. طعامي المفضّل، لعبتي المفضّلة، أسراري. رأيتهنّ برفقة الضيوف، في مطابخ الأقارب، على شرفات الجيران.
لم يتدخّل أحد يومًا لإنقاذهنّ.
أضاءت قصة المسلسل في ذاكرتي وجوه هؤلاء النساء الصامتات اللواتي كنت قد أخفيتهنّ من قصّتي. تذكّرتهنّ بالتفاصيل المملّة. أصواتهنّ، ملامح وجوههنّ، لحظات غضبهنّ وفرحهنّ.
كيف ننقذ مَن لا نراه؟
في 2019، وهو العام نفسه الذي نزلنا فيه إلى الشارع نطالب بالعدالة، سجّلت الدولة اللبنانية دخول 32,951 عاملة منزلية أجنبية. هو عدد يضاف إلى مئات آلاف العاملات المنزليات المقيمات أصلاً في لبنان. فكيف استطعنا أن نمحو تلك النساء؟ لماذا لم نراهنّ؟
الجواب بسيط. لا نراهنّ لأننا إذا رأيناهنّ سنرى أنفسنا على حقيقتنا: مجرمين.
مئات آلاف النساء يعشن خلف قضبان منازلنا. البعض منّا يعاملهنّ بلطف. «يسمح» لهنّ بالأكل والشرب والرفاهية. والبعض منّا يجوّعهنّ. البعض منّا يضربهنّ. البعض منّا يغتصبهنّ. والبعض منّا يقتلهنّ. كلنا نحرمهنّ جواز السفر والحب والزواج. كلّنا نعلم أننا ندفع القليل مقابل استعبادهنّ، ولكنّنا نصفّق لأنفسنا لأننا «نساعدهنّ».
نحن مجرمون، نعم. قد نلطّف هذه الحقيقة أو نبرّرها أو نتبرّأ منها، ولكنها حقيقة وحيدة بسيطة. نحن مجرمون، أو في أحسن الحالات، نحن شاهدون على جريمة جماعية مستمرّة منذ عقود ولا نبالي. نحن المارّة الذين لم نتوقّف لننقذ النساء.
«ساعدوني، أرجوكم. ساعدوني لأعود إلى بلدي حيث أتلقى العلاج. أرجوكم، لا أريد أن أموت هنا».
هذه رسالة صوتية أخيرة من فوستينا تاي إلى الناشطين، قبل أن تُوجد مقتولة بعد 18 ساعة في العام 2020. الرسالة واضحة، وصور التعذيب على جسد فوستينا محفوظة، واتّهامات فوستينا لمشغّليها بالتعذيب موثّقة، ولكن لم يحاسَب أحد على مقتلها.
كما لم يحاسَب أحد على مقتل العاملتين المنزليتين اللتين تتوفّيان كل أسبوعٍ في لبنان بظروفٍ مشابهة.
كما لن يحاسَب أحد يومًا على مقتل هذه النساء، لأنهنّ قد أُرسلن إلى لبنان لكي يُقتَلن. هذا قدرهنّ، وهديّة النظام إلينا. «أُقتلوهنّ»، يقول لنا النظام: «أُقتلوهنّ من دون محاسبة، علّكم تتفهّمون لذّتنا بقتلكم من دون عقاب».
نظام الكفالة لا يعاقب المجرم. يكافئه بـ«ترحيل» مشكلته واستبدالها بعاملة جديدة.
تكافَأ مكاتب الاستقدام، بمدخول قيمته حوالي 57 مليون دولار في العام، وهي بدورها تكافئ تجّار البشر الذين أتوا بالعاملات إلى «جهنّم».
يكافئ نظام الكفالة أيضًا مديرية الأمن العام بـ36.5 مليون دولار، ووزارة العمل بـ6.06 مليون دولار سنويًا، قيمة المعاملات المطلوبة لتشريع الجريمة.
النظام يكافئ الجميع، ويعاقب العاملة، لأنها ليست عاملة، بل هي المكافأة.
يعمل النظام جاهدًا كي تبدو العاملة الأجنبية في نظرنا أشبه بحيوانٍ أليف، أو كقطعة ملكية نحتفظ بها حتى لو لم نحتج إليها. بمعنى آخر، يعمل النظام جاهدًا كي لا نراها. يستقدمها إلى بلادنا ويرسلها إلى بيوتنا، حيث تعيش بيننا وتختفي أكثر يومًا بعد يوم، ببركة النظام. هو أرسلها إلينا لتُذكّرنا أننا شركاء بالجريمة. فمن خلال أولئك النسوة، يعلّم النظام كل طفلٍ في كل بيت في لبنان، أنَّ الحياة لا قيمة لها. يعلّمنا أن عمل النساء لا قيمة له، والمساواة لا قيمة لها، والمرأة ليست إلا جسدًا خفيًّا يمكننا تعنيفه من دون أن يرانا أحد، والعدالة هي سرير مطويّ في غرفة خادمة.
فكيف لنا أن نطالب بالعدالة، ونحن أنفسنا مجرمون؟ كيف لنا أن نحارب نظامًا تواطأنا معه في أوسخ جرائمه؟
«التجاهل ليس الجهل، فالتجاهل مقصود»، تكتب مارغريت آتوود، مؤلفة The Handmaid's Tale. نحن نعلم ما نفعله، ونرى تلك النساء. رأيتهنّ طيلةَ حياتي، ولكنّني تعلّمت ألّا أراهنّ. نحن لسنا المارّة الذين لم نتوقّف لتنقذ النساء. نحن الجريمة التي يجب أن يتوقّف أحدٌ لينقذ النساء منها. نحن المجرمون، وقد حان الوقت كي نعترف بجريمتنا.