تحليل نسويّة
سيلفانا الخوري

«نصدّق الناجيات» أو قرينة حسن النيّة 

18 حزيران 2022

مَن نصدّق؟

انتهت قضية جوني ديب وآمبر هيرد التي تابعها الملايين على وسائل التواصل الاجتماعي بما اعتُبر نكسة لشعار «نصدّق الناجيات» ولموجة #أنا_أيضاً بعد خمس سنوات على انطلاقها. وكُتب الكثير عن تأثير هذه القضية السلبي على سنوات من النضال النسوي في سبيل إطلاق كلام النساء عن العنف الجنسي. وفَور صدور الحكم، عبّرت منظّمات حقوقية عديدة عن خشيتها من أن تُتَرجَم تبعات هذه المحاكمة مزيداً من الانخفاض في نِسَب التبليغ عن العنف المنزلي والجنسي وكبح حملات فضح المعتدين والمتحرّشين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ازدياداً في لجوء الرجال المتّهَمين إلى دعاوى التشهير والقدح والذم ضد النساء اللّواتي يتّهمْنَهم علانيةً. 

لن نعرف مطلقاً مَن مِن جوني ديب أو آمبر هيرد أعطى اللّكمة الأولى أو قال أوّل عبارة سامّة وكيف انبنت علاقتهما. لكن إذا سلّمنا جدلاً أن هيرد كاذبة على طول الخط (علماً أن المحكمة العليا البريطانية كانت قد أكّدت في عام 2020 أن الـ12 حادثة التي تعرّضت فيها هيرد للعنف من ديب هي «صحيحة بشكل جوهري»)، فلماذا يقدر كذب امرأة واحدة (أو كذب 2 إلى 8 في المئة من مجموع شكاوى التحرّش والعنف الجنسي) أن ينسف شهادات آلاف النساء الحقيقيّة (أي 92 إلى 98 في المئة)؟ في الواقع، يمكن أن تكون الإجابة معقّدة وتُكتَب فيها المطوّلات، ولكنها في العمق شديدة البساطة: 

إذا كان كذب امرأة واحدة قادراً على نسف شهادات آلاف النساء، فلأنّ الموقف ضدّ كلامهنّ مُتَّخَذ سلفاً، والتشكيك بشهاداتهنّ مسبق، والحجة شكليّة من الأساس. 


الاستثناء الذي يثبت القاعدة

تشكّل قضية ديب-هيرد في الواقع الاستثناء الذي يثبت القاعدة. والقاعدة هي الظلم التاريخي بحقّ النساء والعنف الرمزي والفعلي الذي يتعرّضن له. يكفي أن نلاحظ كيف تلقّف جمهور مواقع التواصل الاجتماعي القصة حتى نفهم مدى تفشّي الفكر الذكوري اللاواعي في الذهنيات. فقد وجد هذا الجمهور في المحاكمة ذريعةً ليُخرج كل التصوّرات السلبية عن النساء عبر التاريخ ويطلقها في الفضاء العام. ففضلاً عن أن آمبر هيرد ليست ضحية مثالية (وما من ضحيّة مثاليّة)، هي لم تكن خلال المحاكمة مجرّد امرأة ولا قضيّتها حالة خاصة، بل تحوّلت إلى وجهٍ جاهز حُمّل كل الأفكار الرجعية والنمطية عن النساء بوصفهنّ ساحرات ومتلاعبات ومبالِغات ومدلِّسات. في حين أن أكاذيب الرجال وتلفيقاتهم وعنفهم لم يستدعِ يوماً محاكمات متلفزة ولا استحثّ هذا القدر من الـ«ميمز» والفيديوهات والنكات على وسائل التواصل الاجتماعي.

يؤكّد علم الجريمة أن لدى البشر عموماً ميلاً إلى توكيد أحكامهم الشخصية المسبقة يدفعهم لتحميل الضحايا جزءاً من المسؤولية في ما تعرّضوا له. يستند هذا الميل إلى ما يسمّيه علماء النفس «فرضية العالم العادل» لأنه يؤكّد لأصحابه أن كل شخص يُجازى حسبَ أعماله وأن الأفراد إذا ما تحوّطوا وأحسنوا السلوك، فلن يصيبهم ما أصاب الضحية. هذا الفكر الغيبي التّليد والموروث، إذا ما أضفنا إليه نظرة ذكورية للعالم حيث لكل من للرجال والنساء صفات ومواقع واضحة وثابتة ومحدّدة سلفاً، تأتي قصص مثل قصة ديب وهيرد لتؤكّد لأصحاب هذا الفكر قناعاتهم المسبقة ولتطمئنهم على أن تصوّرهم عن العالم صحيح وحقيقي ولم يُمَسّ. فينطلقون في سعار ما بعده سعار كأني بلسان حالهم يقول: أرأيتم؟ النساء دوماً كاذبات، والرجال ضحايا أيضاً، ولا ينبغي أن نصدّق كل الناجيات.


قرينة حسن النيّة

قصّة ديب وهيرد التي انشغل بها العالم طوال ستّة أسابيع، همّشت حكماً تاريخياً أصدرته محكمة الاستئناف الفرنسية في 11 أيار الفائت. فقد مَنحت الصحافية ساندرا مولر والكاتبة أريان فورنيا «قرينة حسن النية» في دعوَيي التشهير اللّتين رفعهما كل من رئيس مجلس الإدارة السابق لمحطة إكيديا، إريك بريون، والوزير السابق بيار جوكس، بعدما كانت المحكمة الابتدائية قد حكمت لصالح الرجلين. تعود القضية الأولى إلى 2017، عندما نشرت فورنيا مقالاً في أعقاب حملة #أنا_أيضاً تحكي فيه عن التحرش الذي تعرّضت له عندما كانت في العشرين من «وزير سابق في عهد ميتران» عُرف لاحقاً أنه جوكس. أما القضية الثانية، فتعود أيضاً إلى 2017 عندما أطلقت ساندرا مولر على تويتر وسم «افضحي خنزيركِ» موردةً في تغريدتها الكلام الجنسيّ الذي وجّهه لها بريون ذات يوم، وداعيةً النساء إلى فضح التحرّش الذي يتعرّضن له في أماكن العمل. منحت أعلى سلطة قضائية فرنسية مولر وفورنيا «قرينة حسن النية» وخلصت إلى أن المتّهمتين كانتا تساهمان في نقاشٍ ذي مصلحة عامة حول الإبلاغ عن السلوك غير الرضائي ذي الطابع الجنسي من بعض الرجال حيال النساء. 

لكن ما هي «قرينة حسن النيّة» هذه؟ إنها بشكلٍ ما الحقّ في فضح التحرّش والمتحرّشين والعنف والمعنّفين في سياقٍ العدالة فيه منقوصة والسبل القانونية قاصرة. كما أنها في جزءٍ منها المرادف القانوني لشعار «نصدّق الناجيات». فـ«نصدّق الناجيات» مبدأ ضروريّ في التعامل مع كلام النساء عن العنف الجنسي لأنه يقرّ بالظلم الواقع تاريخياً عليهنّ وبالتشكيك والوصم الذي ظلّ كلامهنّ يتعرّض له ولا يزال، فيلذْنَ بالصمت وصولاً إلى حدّ التطبيع مع العنف في كثير من الأحيان. «نصدّق الناجيات» هو بالدرجة الأولى موقفٌ أخلاقيّ وفلسفيّ وبلاغيّ مبدئيّ ولا تضيره حالة فردية من هنا وشهادة كاذبة من هناك. فالحالات الفردية حالات فردية ولا داعي للبراهين، فلن يرى ويسمع من لا يريد أن يرى ويسمع. وليست الإحصاءات والدراسات هي ما ينقص، بل إنّ ما ينقص هو الإقرار بأن المنظومة التي تكرّس العنف المُمارَس على طرف وتمنح الامتياز تلو الامتياز لطرف آخَر، ليست منظومة عادلة ولا يمكن الاتّكال عليها لتنصف الطرف الأضعف.


لذا يأتي شعار «نصدّق الناجيات» ليقابل التشكيك المسبق بالتصديق المسبق حتى تستوي المواجهة وتكفّ عن كونها محسومة سلفاً للطرف المدجّج بالامتيازات. 

نصدّق الناجيات أي نكفّ عن تكذيبهنّ والتشكيك الفوري بكلامهنّ. 
نصدّق الناجيات أي نوجدُ لهنّ مساحةً آمنة للبوح والفضح والكلام. 
نصدّق الناجيات أي نقرُّ بالظلم الواقع تاريخياً عليهنّ وبعدم تكافؤ المعركة في منظومة ذات بنى ذكورية. 
نصدّق الناجيات أي نمنحهنّ قرينة حسن النيّة لأنّ سلوك الرجال وكلامهم ذا الطابع الجنسي عندما لا يأتي في سياق رضائيّ هو عنف موصوف ينبغي فضحه وتفكيك آليّاته ووضع حدّ له. 

وإلى ذلك الحين سنظلّ نصدّق الناجيات كذبَت آمبر هيرد أم صدَقَت.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا