الإبادة المستمرّة
لا داعي لتكرار ما نعرفه عن الإبادة في شهرها السادس. فربّما كانت هذه الإبادة الأولى في التاريخ التي تعاش على توقيت التغطية المباشرة، تفاصيلها تُبَثّ للعالم بأكمله لكي يرى. طالت الإبادة، وبات هناك تقارير عنها، دراسات، محاضرات، ندوات… وإذا ما استمرّت أكثر، ربّما سيكون هناك أفلام وروايات ومعارض تسرد تفاصيلها، وهي لا تزال جارية.
لا داعي لتكرار ما نعرفه عن الإبادة في شهرها السادس لأنّ العالم يعرف. المشكلة ليست في المعرفة، بل باستمرار الإبادة بالرغم من المعرفة. وهذا ما يجعلها فضيحة في وجه هذا العالم، عرّت كامل ثوابته الأخلاقية ومؤسساته الدولية وحكوماته الديموقراطية وقانونه الدولي. أيضًا لا داعي لتكرار كل ما فضحته الإبادة، فهو معروف أيضًا.
لا داعي لتكرار ما نعرفه عن الإبادة في شهرها السادس لأنّ مرتكبيها لا يختبئون ولا يحاولون طمس الحقائق أو إخفاء الجثث وتكذيب نواياهم. على مشارف الشهر السابع، ارتكب جيش الاحتلال مجزرتين، تلخصان منطق الإبادة المستمرة منذ نصف عام.
لا داعي لتكرار ما نعرفه عن الإبادة في شهرها السادس. يمكن العودة إلى ما حصل في الأسبوع الأخير لمعرفة كل شيء، إن كان العالم يريد أن يعرف.
مجزرة مجمّع الشفاء
نُعلن في هذه اللحظة أنَّ مجمّع الشفاء الطبّي خرج إلى الأبد عن العمل.
لم يكن مجمّع الشفاء أيّ مستشفى في غزّة، كان يشكّل 30% من القطاع الصحي. كان أكبر مجمّعٍ طبّي في غزّة وفلسطين، وأقدم من دولة الاحتلال نفسها. كان من آخر ما تبقّى لأطباء غزّة لإنقاذ أكثر من 75 ألف جريح. بعد 14 يوماً من الحصار حوّل خلالها الاحتلال مجمّع الشفاء إلى ساحة حرب، انسحبت قوّات الاحتلال، ولم يبقَ من المستشفى سوى أبنية محروقة وجثث متحلّلة وأشلاء مبعثرة ومرضى حُرموا من الطعام والماء لأكثر من أسبوعين. خلّف حصار الشفاء إحدى أفظع مجازر الاحتلال في غزّة منذ 7 أكتوبر: أكثر من 400 شهيد و300 معتقل و100 مفقود.
لكنَّ إسرائيل لم ترَ في تدمير الشفاء مجزرة، بل عملية عسكرية ناجحة للغاية. عمليّة دقيقة وحذرة، «ستُدرّس لأجيال». مهّدت إسرائيل لهذا الدمار مع بداية حربها عندما حاصرت واقتحمت الشفاء في تشرين الثاني الفائت، بحجّة أنَّ لحماس أنفاقاً تحت المستشفى. واكب الإعلام الغربيّ الاقتحام وبرّره. تعرّضت إسرائيل حينها إلى ضغوطاتٍ عالميّة واتّهامات بفبركة «الأدلة» التي استعرضتها. فعادت في آذار الفائت لتكمل ما بدأت به وتدمّر آخر شرايين النجاة في غزّة. كثّفت إسرائيل جهود البروباغندا والهاسبارا، تمهيداً لعودتها إلى الشفاء، وطبّعت تدمير المستشفيات وجعلت من استهدافها روتيناً أساسياً للقضاء على خلايا الإرهاب. بعد أشهر، ادّعى الاحتلال عودة مقاتلي حماس إلى الشفاء كي تدخل قوّاته إليه، لكنَّ أكاذيبه لم تمرّ هذه المرّة أيضاً، إذ تبيّن أنَّ عدداً كبيراً من «المخرّبين» الذين ألقت القبض عليهم استشهدوا سابقاً أو اعتُقلوا وأُفرج عنهم أو كانوا خارج غزّة.
تختصر مجزرة الشفاء مجزرة غزّة التي تتجاوز اليوم شهرها السادس. تختصر المجزرة استهداف إسرائيل لجميع مقوّمات الحياة في غزّة، خصوصاً قطاعها الصحيّ. وتختصر ماكينة القتل الإسرائيلي التي لا تلاحق المدنيّين في منازلهم وأماكن نزوحهم وحسب، بل حتّى في مستشفياتهم، تقطع الطريق عليهم، كي يصبح جميع الجرحى في عداد الشهداء، ولا يبقى من غزّة سوى أبنيتها المدمّرة.
«مشاهد لا يمكن وصفها»، هي العبارة الوحيدة التي تردّدت على ألسنة صحافيّي غزّة، رغم جميع الفظائع التي وثّقوها وشهدوا عليها منذ 7 أكتوبر. بعد انسحاب إسرائيل من المجمّع، ووسط الدمار والخراب، تبحث أمٌ عن أشلاء ابنها، تبحث عن عظامه حتّى تأخذها معها، فهي لا تريد أن تتركه هناك. يواسيها أحد الشبّان ويقول لها: ابنك شهيد. الاحتلال لزوال. نتنياهو لزوال.
استهداف «المطبخ المركزي العالمي»
تمّمت إسرائيل مجزرتها الأفظع في مجمّع الشفاء الطبّي، ومن ثمّ استهدفت موكباً لمنظّمة «المطبخ المركزي العالمي» وقتلت 7 من عمّالها (فلسطيني و6 أجانب). من الصعب هنا التفكير بخطوطٍ حمر فعلية أمام إسرائيل. من الصعب اللجوء لـ«قانونٍ دولي» لمحاسبتها، ومن المضحك الكلام على «انتهاكات».
كما مع مجزرة مجمّع الشفاء، يشكّل استهداف «المطبخ المركزي العالمي» ملخصًا عن العقلية الإبادية.
فمجزرة موكب «المطبخ المركزي العالمي» مثلاً، لم تكن هدفاً بذاتها فقط، بل أيضاً خطوة تستتبع ما يعمّق الإبادة: المنظّمة علّقت أعمالها في القطاع المحاصر، منظّمات إنسانية أصغر منها حذت حذوها، والعمل برصيف المساعدات البحري «المؤقّت» تأجّل.
هكذا، ضمنت إسرائيل أنّ التجويع سيستمرّ، كسلاحٍ إبادي، وليس كعارض للإبادة فقط. كما ختمت هذه الضربة مساراً طويلاً من أسْلَحة الغذاء، بدأ عند إعلان وزير الدفاع إطباق الحصار على غزّة في أيّام الحرب الأولى، واشتدّ تحديداً عند ارتكاب «مجزرة الطحين».
بجانبٍ آخر، أكّدت هذه الضربة ازدراء إسرائيل لما يُسمّى «عمّالاً إنسانيين» و«عملاً إغاثياً». فبعد أن استهدفت كل مَن حاول تنظيم توزيع المساعدات من الفلسطينيين بهدف تعميم الفوضى، استهدفت الآن مَن حاول تنظيمها مِن الأجانب— حتّى أولئك الأجانب الذين أرادت منهم إسرائيل، في مرحلةٍ سابقة من الإبادة، استبدال وكالة «الأونروا». لا أونروا إذاً، ولا سواها، ولا أي جهة على الأرض إلّا إسرائيل نفسها، والفلسطينيين.
عالم ما بعد الإبادة
مجزرتان بأقلّ من أسبوع، ضمن مسلسل من المجازر بات عمره نصف سنة. ورغم بعض الامتعاض الدولي على استهداف عمّال «المطبخ المركزي العالمي»، اعتاد العالم على الإبادة، لتصبح خبرًا بين عدد من الأخبار. ربّما يعتقد البعض أنّ خبر الإبادة سيضيع في دوامة الأخبار، وستطبّع المجازر وتفقد حتى طابعها كخبر. لكنّ ما يجهله أو يتجاهله من ينتظر تطبيع الإبادة هو أنّ ثمن تطبيع كهذا هو إنشاء أسس عالم جديد، عالم الإبادة، عالم باتت الإبادة فيه مجرّد خبر، بعدما شكّلت نموذجاً للشرّ المطلق.
لا داعي لتكرار ما نعرفه عن الإبادة في شهرها السادس. لكن ربّما علينا البدء بالتمعّن بالتحوّلات التي أدخلتها وسوف تدخلها على أسس هذا العالم الجديد، عالم من القسوة، حدوده لن تكون غزّة.