تحليل انفجار المرفأ
إيلي سعد وسمير سكيني

هدم الأهراءات: معركة تحديد ذاكرة الانفجار

17 شباط 2022

تُخاض الحروب مرَّتين؛ المرّة الأولى في ساحة المعركة، والثانية في الذاكرة.

— فيت تان نوين (روائيّ فيتناميّ)

غالباً ما تُنشئ الأُمَم والحضارات معالِم عند محطّاتها المصيريّة، بوظيفة جمع الرعايا حول تلك المحطّات. وقد يكون الحدثُ انتصاراً، أو مأساةً، أو جريمة. للمعالِم هدف توحيد الشعب وتذكيره: هنا انتصرتُم، هُنا قُتِلتم، هنا اعتَديتُم، هنا اعتُديَ عليكم… وهنا، فجّرناكم.

عام 1945، رمت أميركا المَوتَ النووي على مدينتَي هيروشيما وناغازاكي. مُسِحَت المدينة، وقاطنوها. لم ينجُ سوى مبنى «قبّة الغنباكو». ارتأت الحكومة آنذاك المحافظة عليه، واليوم، لا يزال المبنى نفسه واقفاً بين الورود، كمعلمٍ حَيّ، كشاهدٍ على المجزرة.

عام 2001، انفجر معمل «أ. زد. أف» لتصنيع نترات الأمونيوم في مدينة تولوز الفرنسيّة. مُسِحَ محيط الانفجار. حتّى المبنى اختفى. ارتأت الحكومة آنذاك تخليد الذكرى، وشيّدت نصباً تذكاريّاً حول فجوة الانفجار.

غالباً ما تدور المشاكل بين المعنيّين حول أسلوب تصميم المعلَم: بين التجريد أو الواضح، بين الفرجة أو الاستخدام، بين الاتّساق مع المحيط أو مناقضته… ذلك أنّ طريقة نحت المعلم هي طريقة نحت الذاكرة.

المُفارقة في حالة انفجار مرفأ بيروت أنّ المعلم هنا defacto، موجود بلا جميلة المصمّم. لا بل، هناك إجماع مبدئي على أنّ هذا المعلم (الأهراءات) يمثّل المأساة. كما هناك إجماع (علميّ أيضاً) أنّ هذا المعلم كان مُشاركاً في المأساة، حين تلقّى صدمة الانفجار بالنيابة عن نصف المدينة، وبقيَ شاهداً على المجزرة.

وبالتالي، يقف المعلم-الشاهد أمامنا، قافزاً فوق كل السجالات الخلافية التي تُرافق تصميم المعالِم التذكارية. وذلك بالتحديد ما حفّز السلطة للمضيّ قدماً بالهدم؛ تقول الحكومة: هاك، اجتمع اللبنانيّون، وأخيراً، على شيءٍ ما. فلنهدمه.

وكأنّها تكمل نهجاً عمره عقود في القضاء على كل ما يمكن أن يخلق مساحة مشتركة بين المُقيمين، وفي القضاء على كل ما يمكن أن يُفَعّل نقاشاً عاماً ينتج عنه رأي مشترك.


الذاكرة لا تتذكّر بل تستقبل ما ينهال عليها من تاريخ.

—محمود درويش، ذاكرة للنسيان

للنسيان طرائق وأنواع. بعضها إرادي، وبعضها يُفرَض من الخارج، بالقوّة. قسّمت الباحثة أليدا أسمان النسيان على سبعة أبواب، يهمّنا منها في حالة الأهراءات بابان، تصفهما أليدا بـ«أشكال النسيان القاتمة»:

النسيان القمعي، وهو «إبادة للذاكرة»، عبر قمع ذاكرة المُقيمين وحجب المعطيات المتعلّقة بذكرى أشخاص أو جماعات أو أحداث.
النسيان الدفاعي، وهو إتلاف للأدلّة المتعلّقة بجريمةٍ ما بهدف حماية الجُناة دفاعاً عنهم.


هذان الشكلان يكثّفان موقف الأنظمة التي تُعادي شعوبها تجاه الذاكرة:

عبر تخريب الأدلّة مثلما عبثت السلطة بمسرح جريمة المرفأ بعد الانفجار؛
أو عبر إخفاء المُعطيات البصرية المرتبطة بالجريمة، كهدم الأهراءات؛
أو عبر خلق وهم فوق الواقع، كبدعة إعادة الإعمار وبناء «وسط مدينة» لا يتعلّق بنسيج المدينة العمراني والاجتماعي، كما فعلت شركة سوليدير؛
أو عبر الادّعاء بأنّ الشيء لم يحصل والتمنّع عن توثيقه، مثل غياب فصلٍ عن الحرب الأهلية في كتب التاريخ؛ ذلك أنّ هُلاميّة التاريخ تُساعد المتنازعين على إعادة تشكيله بالحاضر كما يحلو لهم.


أمّا هدم الأهراءات بالتحديد، والسماح لأيّ كان بالاستعراض أمامها، وتوظيفها في الدعايات الإعلانيّة… كل هذه الخطوات لا تسعى لخلق ذاكرة جديدة قائمة بذاتها، بل، خلق ما يكفي من «الذاكرات» لتضيع بينها الذاكرة الفعلية، عبر منطق المُزاحمة.

تريد السلطة إذاً صياغة الذاكرة الجماعية بشكلٍ مغاير، بل نقيض: من أعلى إلى أسفل، عوضاً عن أن تُرسَم الذاكرة الجماعية من أسفل إلى أعلى. السلطة تريدنا أن ننسى، وأن نعتقد أنّ ما من جريمة وما من مجرم، تماشياً مع عرقلتها للتحقيقات وتهرّبها من العدالة.

هنا معركة جديدة، لا تمانع سلطة الاحتلال من خوضها بالإجرام نفسه الذي فجّرت به المدينة. لكنّنا نعي هذه المرّة وجود المعركة ونحاول أن نكون فاعلين فيها، لا مجرّد ضحايا، كما حصل في يوم الرابع من آب.

يبقى أنّنا نحن، من جهتنا، وبالضدّ من السلطة، لا «نرسم» الذاكرة الجماعية ولا «نحدّدها»، بل ببساطة نُحافظ عليها، ونحارب من أجل عدم محوها، فيما ينقص الحكومة القليل من الوقاحة لتقول للناس اليوم: الانفجار لم يحصل أبداً.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إصابة مدير مستشفى كمال عدوان حسام أبو صفية
إطلاق نار على السفارة الإسرائيلية في الأردن
العثور على جثّة الحاخام الإسرائيلي تسفي كوغان في الإمارات 
25 شهيداً في عدوان يوم الجمعة 22 تشرين الثاني 2024
جيش الاحتلال يدمّر مسجداً في طير حرفا، صور
3,670 شهيداً، 15,413 مصاباً منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان