جميعنا نختنق. وجوهٌ شاحبة ونساءٌ مذعورات. نخاف أن يقتلنا في أيّ لحظة رجلٌ غاضب. نعيش بارانويا مخدِّرة. نمشي ونجلس ونضحك بحذر. نحدّق بصور فقيداتنا. نحدّق بقَتَلتهم. نحدّق بالأخبار. نحدّق بالسقف ليلاً، وبالحائط نهارًا. نحدّق بالرجال حولنا: هل أنتَ بقاتل؟
إلى متى سنظلّ ننعى ونواسي بعضنا بعضاً؟ إلى متى سنذرف دموعًا على نساءٍ قُتلنَ وفتياتٍ اغتُصبنَ وحقوقٍ سُلبت؟
هذه ليست مجرّد ردّة فعلٍ على الأسابيع الفائتة. هذه حياتنا اليوميّة وواقعنا كنساء وكمجموعاتٍ مضطهدة منذ الأزل.
قرأتُ خبر مقتل إيمان إرشيد بعدما نجت تهاني حرب من القتل وبعدما قتل محمّد عادل نيّرة أشرف. تمنّيتُ أن يكون خبرًا زائفًا. لكنّه لم يكن. تمنّيتُ أن يكون التهديد الذي أرسله عديّ إلى إيمان مخيّرًا إيّاها بين الموت والارتباط به سكرينشوتًا زائفًا، لكنّه لم يكن.
وكأنَّ مقتل نيّرة أشرف كان عذرًا جديدًا لقتل النساء بحجّة الحب والغيرة والرغبة:
«لو مَكُنتيش ليّا هموّتك».
«بكرا رح اجي احكي معك، وإذا ما قبلتي رح اقتلك مثل ما قتل المصري البنت اليوم».
قرأَتْ إيمان غالبًا خبر مقتل نيّرة وحَزِنَت. لم تكن تعلم أنّها الضحية المقبلة، ولم تكن تعلم أنَّ اسمها سيتصدّر عناوين الصحف بعد أيام إلى جانب نيّرة. وأنا وأنتِ لا نعلم إن كنّا سنصبح الضحيّات المقبلات أيضًا.
هل ندرك حجم هذه الكارثة؟ هل ندرك ما يعنيه أنّ قاتلاً استوحى من قاتلٍ آخر؟ أنّه رأى مشهد ذبح نيّرة وتخيّل إيمان تسبح بدمها أيضًا فقط لأنّها رفضت الارتباط به؟
رحلة قتل النساء
يبقى الأخطر من هذا كلّه ردّات الفعل التي رافقت أنباء القتل، حيث استعمل بعض الذكور أقوال القتلة كنكاتٍ في أحاديثهم مع النساء، إلى جانب التبرير الذي يصبّ ضمن خطابٍ ذكوريٍّ مباشر يلوم الضحايا ويتعاطف مع مشاعر القتلة الجيّاشة. ولكن حتّى معظم ردّات الفعل التي استنكرت وأدانت جرائم القتل، شاركت في تمييع بنيويّة العنف ضدّ النساء المنظّم والممأسس على الصعيدين المجتمعي والثقافي.
صُوّر كلٌّ من محمّد عادل وعديّ حسّان وزوج لبنى منصور وشقيق رنين سلعوس وأيمن حجاج زوج شيماء جمال على أنّهم حالاتٌ شاذّة، ليسوا طبيعيين، ليسوا ببشر، مرضى، غاضبون، رجالٌ لا نعترف بهم، رجالٌ ليسوا من مجتمعاتنا ولم نرَ مثلهم سابقًا. وكأنّنا لا نسمع صوت الجارة من شبابيكنا في منتصف الليل وهي تتعرّض للضرب يوميًّا، وكأنّنا لا نعرف المعنّفين بيننا ولم نقابل قط رجالاً ذكوريّين.
هؤلاء القتلة ليسوا حالات شاذّة. هم أشطر تلاميذ الأبويّة. هم نموذجٌ وتجسيدٌ لرجل النظام الأبويّ المثالي:
هدِّدْ،
اقمعْ،
اغضبْ،
اقتلْ.
لك الحق التام بأن تغضب وتفرّغ غضبك في جسد امرأة، هناك من سيحميك. سنتفهّم غضبك وغيرتك وحبّك القاتل. سننسى ونبرّر ونختلق لك الأعذار ومن ثمّ نسامح. سنعود بعد أيّامٍ لنلقّب رجلاً آخر بالمريض، ولن نعترف بأنَّ ثقافة كراهية النساء وقتلهنّ واغتصابهنّ حضّرتك تدريجيًّا، يومًا بعد يوم، لأن تقف أمام نيّرة وإيمان ولبنى ورنين وشيماء وتقتل وتذبح وتطلق النار وتخنق، ثم تهرب وتختفي.
هذه ليست جرائم قتلٍ فردية ارتكبها رجالٌ مضطربون رجعيّون أعماهم الحبّ وابتلعتهم الرغبة والغيرة. هذه جرائم ارتكبها مجتمعٌ بأكمله، في كلِّ مرّةٍ تَلَقَّن فيها رجلٌ درسًا في الذكورية وفي كلِّ مرّةٍ تلقّت فيها امرأةٌ درسًا بالتقبّل والتسامح والانصياع لهذه الذكورية.
لا تبدأ رحلة قتل النساء بمجرّد رصاصةٍ أُطلِقت أو سكين طَعَنت أو أيدٍ خَنَقَت في لحظة غضبٍ عارم. تبدأ منذ الصغر، في المنزل، في المدرسة، في دور العبادة، في الجامعة، في المقهى، في الحانة، في مكان العمل، وعلى التلفزيون. تغذّيها نكتةٌ ذكوريّة من هنا، و«هي شو كانت لابسة؟» من هناك. «شو كنتي متوقعة يصير فيكي بهيك وقت؟» من هنا، و«أبصر شو عملتلو حتى يضربا» من هناك.
رحلة قتل النساء هي رحلةٌ تبدأ مع ثقافةٍ أوسع تبرّر العنف، تقود رجلاً إلى ضحيّته، ثمّ تتفاجئ بتجلّي كلّ هذا العنف في عمليّة قتل، وسط تجاهلٍ كلّي أنّه لم ينفّذ سوى الدروس التي تلقَّنها منذ الصغر، في المنزل، في المدرسة، في دور العبادة، في الجامعة، في المقهى، في الحانة، في مكان العمل، وعلى التلفزيون.
«عشان الضحية الجاية تعيش»
تحرّكت نساء العالم العربيّ في وجه هذا العنف والقتل، ونظّمنَ إضرابًا شاملاً عابرًا للحدود. عوّل هذا الإضراب على غضب النساء وعلى تضامنهنّ مع بعضهنّ بعضاً. شاركت النساء في مختلف المدن العربيّة والغربيّة، إيماناً منّا بأنّه لم يبقَ لدينا سوى غضبنا، وبعضنا بعضاً.
لكنَّ هذا الإضراب لم يكن تنفيسًا وتنفيذًا لغضبنا وحسب، بل كان أيضاً جهدًا سياسيًّا يذكّرنا بقوّتنا وقدرتنا على المواجهة كنساء وكضحايا للعنف الذكوري. اختارت المنظِّمات الإضراب إيمانًا منهنَّ بأهميّة وقدرة النساء على شلّ الدورة الاقتصادية جزئيًّا ومواجهة العنف الذي يطالنا يوميًّا.
لعلّ أجمل ما في هذا الإضراب كان التشبيك بين المجموعات النسويّة في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ومصر وليبيا والجزائر والمغرب وغيرها الكثير، وتشكيل إطارٍ نسويٍّ شامل وعابر للحدود يستوعب التباين والاختلاف بين تيّاراتنا ومعتقداتنا النسويّة المختلفة ويصرّ على التقائها في المواجهة والتحريض ضدّ أشكال العنف الذكوري. لم تكتفِ النساء بالإضراب والتشبيك وحسب، بل دعت أيضًا إلى إنتاج المعرفة النسويّة للتوسّع بهذه الحركة وإيصال أصواتنا والتفكير سويًّا بآليات مقاومةٍ نسويّة تهدف إلى انتزاع العدالة للنساء قبل أن يتحوّلن إلى ضحايا.